حكاية تمثال في مدن الآن

الفصل الاول

  الى رؤوف بيكرد 

حلاج كردستان

جرس الامل يقرع

في حياتنا 

دائما وابدا

             

                            


حكاية تمثال في مدن الآن

مسخرة معاصرة

                                 

مدخل للنص:

إشكالية التراث والهوية

1

إن النص (أي نص) مادة قابلة للتأويل والتعدد بحسب وعي وذائقة المتلقي، وهذا يأتي من إيماني بأن المتلقي (القارئ / المتفرج) منتج ثانٍ للنص، غير أني وبوصفي المنتج الأول أجد من الضروري توضيح فهمي لهذا النص انطلاقاً من رؤيتي لمفهومي التراث والهوية، لا بقصد الحد من حرية القراءة والتعدد إنما بنية توجيه حس المتلقي بالاتجاه الذي اعتقده صائباً، لذا فأنا لست بصدد كتابة مقدمة تقنية من الناحية الجمالية والمعرفية، ذلك إن النص ينتمي لمسرح الجمهور العريض، فهو مكتوب بلغة (ثالثة) قريبة من ذات المتفرج العربي (بتعدد لهجاته المحلية) بهدف جعلها قريبة من ذهنه ووجدانه وجعله قابلاً للإدراك ولإثارة الجدل، وبدون اللجوء للزخرف اللغوي الذي تعج به النصوص المسرحية الأدبية وما أكثرها في مكتبتـنا العربية، كما أن النص ببعده التقني مكتوب للخشبة وقدراتها التجسيدية المعقولة والمنطقية وبأسلوب المشهدية التي تبني وتهدم ذاتها بتواتر عمودي ومتوازٍ في آن واحد، بما يفتح أمام المخرج والممثل فضاء واسعاً من الاحتمالات والفرضيات الجمالية في محاولة صياغته بصرياً كعرض، وهذا هدف حرصت عليه منذ بداياتي الأولى في كتابة النص المسرحي لأنجو به من روح الأدب الخالصة التي هيمنت على النص المسرحي العربي ودفعت به بعيداً عن قابليات التجسيد وحرمته من إمكانيات التأويل المتعدد.

2

نتميز نحن العرب عن الأمم الأخرى بنظرتـنا الخاصة والإشكالية للتراث والتاريخ، للأصالة والمعاصرة، وقد انعكس ذلك على منجزتا الثقافي والمعرفي الراهن بشكل واضح وجلي، ولأنني بصدد معالجة موضوع حساس (التراث / الأجداد) أجد نفسي مضطراً لتوضيح قضية هامة، ألا وهي طبيعة نظرتـنا للتراث وأسلوب معالجتـنا الإجرائية له من خلال النص المسرحي، حيث اختلف بنظرتي لمفهومي الهوية والتراث مع البعض من كتاب مسرحنا ولاسيما كتاب العقد السبعيني من هذا القرن، (إن هذا الاختلاف وبحسب اعتقادي هو دليل على العافية التي تتمتع بها ثقافتـنا العربية المعاصرة، فما دام الاتفاق لا ينتج إلا الجمود والموت كان الاختلاف وسيلة لإثارة المزيد من الأسئلة وباعثاً على الإنتاج والمواصلة).

3

اتجه بعض كتابنا المسرحيين للسخرية والتشاؤم في معالجة موضوع التراث والهوية بدعوى المعاصرة وضرورة الالتحاق بعجلة الغرب المنتصر سياسياً وعسكرياً وقد تذرعت هذه النظرة التشاؤمية بالهزائم التي لحقت بالأمة آنذاك، وأخيراً ساهمت هذه الكتابات بإشاعة جو من الهزيمة والتشرذم والضياع بين صفوف الجمهور والمثقفين وبشكل لم تستطع فيه تلك الحروب السياسية والعسكرية نفسها أن تصنعه.

بينما اتجه البعض الأخر ولاسيما كتاب السلطة والأيديولوجيا إلى تمجيد التراث من خلال التغني بأمجاده وأبطاله لترقيع إنكسارات الحاضر وإلى حد التزوير والقفز على الحقائق، وذلك بهدف إسباغ نوع من الشرعية على السلطة الراهنة باعتبارها الإمتداد الشرعي لذلك التاريخ المجيد ومنحها في النهاية صفة المنقذ الوحيد الأوحد! وقد تعامل هؤلاء الكتاب مع الإرث والهوية بوصفهما مادة مقدسة غير قابلة للتطوير وغير خاضعة للدراسة والتحليل، وبذلك تحولت الهوية والإرث إلى أداة من أدوات القمع، وحاجز خطير يقف بوجه طروحات المعاصرة ومحاولات إنتاج معرفة الحاضر وآفاق المستقبل، وهكذا تم تغييب الحاضر وأسئلته وحاجاته الملحة عن الواجهة بستار الماضي، وتم إشباع جوع المواطن لانتصار حقيقي من خلال اصطناع نوع من التماهي الزائف بينه وبين انتصارات الماضي.

4

غير أنني انظر إلى التراث بوصفه هوية ثقافية غير منتهية، وهي في حالة صيرورة ممتدة من الماضي إلى الحاضر والمستقبل بشرط استـنطاق الصامت والحي فيها وعزل ونبذ الساكن والمتوقف منها، فالعربي كائن له تراث وليس كائناً تراثياً، ذلك ان الكائن التراثي، متوقف، منجز سلفاً، متقوقع وغير قابل للنمو، متفرج حيادي، وهو في أفضل حالاته مجرد مستهلك في سباق الإنجاز الحضاري، كائن لايصلح إلا للعرض في المتاحف. بينما الكائن صاحب الإرث هو كائن ديناميكي، فاعل ومنفعل، قابل للنمو باستمرار، ينطلق من أصالة جذوره للمساهمة في إنجاز الحاضر وتأسيس المستقبل، كائن قادر على نقد ذاته وتفكيكها بقصد إعادة تشكيلها وصياغتها بشكل معافى.

5

وأخيراً فإن نص (حكاية تمثال في مدن الآن) مساهمة تصب في تيار الأصوات العربية الداعية للكف عن التغني الزائف بأمجاد الماضي وتغييب أزمات الحاضر، وكذلك الكف عن الدعوى المريبة للاغتراب عن هويتـنا والنظر إليها بعين السائح أو المستشرق، وما الثقافة والمسرح على وجه الخصوص، إلا وسيلة لنقد التراث وتحليل مكوناته، تفكيك بنى العقل السلفي والراهن بقصد مواجهة الذات ولمس جروحها، فذلك الأمر الوحيد الكفيل لجعلنا أمة حية، منتجة، قادرة على مواجهة التحديات والأسئلة الراهنة، أمة قادرة على مقاومة زحف ثقافة السوق والإبتذال والمسخ والإستهلاك السريع على حساب الإنسان والجمال والمعرفة. يتوجب علينا أن نسترد هويتـنا أولاً وأخيراً وذلك لن يتحقق إلا من خلال نقدها وتفكيكها وإعادة إنتاجها.

                                                                 دمشق

                                                                           1997  

 


الشخصيات:

1- التمثال (شمس)

2- المحقق

3- الشاب

4- السكير

5- سعدى  (حبيبة التمثال سابقاً)

6- الصحفي (ابن رشد الثاني عشر)

7- الزوجة (زوجة التمثال)

8- الزوج (ابن عم التمثال)

9- طفلان (إبنا التمثال)

10- شيخ الجامع

11- شبان المدينة: العانس  /  الموظف  / الشاعر / المجرم / المدمن  /

12- العامل الأول

     13-العامل الثاني

     14- شرطي.

 

(يمكن للممثل أن يلعب أكثر من دور باستثناء الشخصيات الرئيسية)

 

الزمان: زمن معاصر مفترض.

المكان: مدينة عربية معاصرة مفترضة.


الفصل الأول 

أول الليل... يا ليل يا عين
  المشهد الأول

(تـنار الإضاءة / التمثال واقف على منصته وسط المسرح حوله أعمدة الإضاءة / مناخ ساحة عامة / تركز بقعة الضوء على التمثال مع تصاعد الموسيقى / يبدأ التمثال بالحركة تدريجياً / يتلفت بحركة بسيطة وآلية / نرى شخصاً يدخل من عمق المسرح باتجاه المقدمة / يتطوح سُكراً / يتوقف ويتكئ على التمثال وهو يصفر أو يغني).

السكير   : الله كم هو جميل ضوء المصابيح هذه... آه وبالذات هذا المصباح المتوهج كم هو بعيد... كأنه البدر!

التمثال   : (بدون حركة) هو البدر حقاً!

السكير   : البدر؟ بل هو مصباح البلدية يا أخ.

التمثال   : كم شربت يابن امرئ القيس حتى لم تعد تميز بين المصباح والبدر؟.

السكير   : آه... من يتكلم معي؟  من؟ (يدور حول التمثال).

التمثال   : أنا هنا!

السكير   : أين أنت يا صعلوك.. يا جبان اظهر وكلمني (وهو يدور حول التمثال) اظهر يا جبان... قسماً بروح جدي امرئ القيس الأول سأحطم أسنانك ولو كنت حفيد هرقل... آه أمعائي... (يتوقف يشاهد ظله على الأرض)  ها... هذا هو أنت يا جبان أتعبتـني وأخيراً ظهرت… انتظر لا تهرب... سأعلمك كيف تلعب هذه اللعبة مع حفيد الشعر والخمرة والسيف.

التمثال   : كفى أريد أن أسألك.

السكير   : أصمت يا أسود يا عبد يا خسيس... تريد أن تسأل سيدك؟

التمثال   : أنا لست أسود… ولست عبداً… إنه ظلك... أنا هنا!!

السكير   : آه يا صاحب الحانة يا ابن مرجانة (يفرك عينيه) آه خمرة ابن مرجانة المغشوشة صارت تخدعنا، صدقاً يا هذا شربت منذ نعومة أظفاري ولم يحدث هذا لي... اللعنة على ابن مرجانة... عفواً يا سيدي... من أنت؟

التمثال   : أنا جدك شمس.

السكير   : آه سكرت أنت أيضاً ومن يهتم عند السكر... كُن جدي شمساً أو عمي كُليباً... في السكر كل البشر سواسية.

التمثال   : اسمع أريد أن أسألك في أية ساعة نحن وأية سنة؟

السكير   : سؤال سخيف لا أجيب عليه! منذ زمن لم يسألني أحد هذا السؤال فالكل يعرف أني ثمل من الفجر إلى الفجر... وعندما أسكر تتساوى عندي الأيام والشهور... سؤالك سخيف، جدير بك أن تسأل به تلاميذ رياض الأطفال وسيرسبون جميعاً... فمن يعرف في أي يوم نحن.

التمثال   : يالك من عربيد حقاً... لقد وَرثْتَ أجدادك وراثة حسنة... اسمع يا هذا...

السكير   : (يقاطعه) قل سيدي امرأ القيس الثالث عشر بعد المليون.

التمثال   : حسنٌ كما تريد... أنظر إلى تلك الصحيفة... خذها واقرأ لي التاريخ.

السكير   : أقرأ لك؟

التمثال   : إذا سمحت.

السكير   : حسناً مادمت تتوسل (يمشي يتعثر، يأخذ الصحيفة، يفاجأ) يا للهول.

التمثال   : ماذا هناك؟

السكير   : نحن في اليوم التاسع من الشهر الثاني عشر من عام  1999... يا للهول.

التمثال   : ما بك... ولمَ تفزع؟

السكير   : يا إلهي… سأجن كيف حدث هذا… أتعلم أن أول مرة سكرت فيها كانت عام 1967.

التمثال   : ماذا... ماذا؟

السكير   : يا إلهي لقد صحوت لأول مرة في حياتي.

التمثال   : لا تتكئ عليَّ، ابتعد عني.

السكير   : من يكلمني... أين أنت؟

التمثال   : أنا هنا ألا تسمع... ألا ترى؟

السكير   : (يرفع رأسه يشاهد التمثال يتحرك) يا لهذا اليوم النحس تمثال الجد شمس يتحرك ويتكلم… أجننتُ أم وقعتُ بدائرة سحر الشيطان؟... يا للهول... يا أهل المدينة... لقد عادت روح الجد شمس إلى الحياة من جديد... يا للهول... سأجن... يا أيها الناس...

 

(يخرج راكضاً، موسيقى، إظلام تدريجي)


المشهد الثاني

  (تدخل مجاميع الناس من كل الجهات ومعهم الشرطة والمحقق) 

الأول     : يا سيدي إنه يتحرك ليلاً لقد شاهدناه.

الثاني      : لقد رأيته يتحرك، أقسم بروح أجدادي الشرفاء... كنت سكرانَ وصحوت تماماً.

الثالث    : ابنة جارتـنا تلك الطفلة حفيدة زرقاء اليمامة أقسمت أنها شاهدته يتحرك حينما كانت واقفة في شرفة الدار.

امرأة      : الله الستار... يا للعجب... إنها روح الأجداد... لقد عادت روح الأجداد... (تزغرد).

الرابع    : لن ترضخ روح الأجداد!

المحقق    : لن ترضخ لمن؟ ماذا تعني؟

الرابع    : إلى... إلى...

المحقق     : ماذا تعني... أتقصد إثارة الشغب يا هذا؟ اسمع... اسمعوا لقد تغير عهد المظاهرات والاحتجاج... نحن نعيش عصر العلم والحوار وأنت يا...

الرابع    : (يقاطعه) حفيد عنترة المحترم رجاءً.

المحقق      : المحترم... الشريف لا يهمني... لا تلمّح بكلماتك هذه لإثارة الشغب أفهمت هه (يقلدهم بسخرية)  لن ترضخ روح الأجداد، يا للهراء...

الثالث    : إنك تسخر من روح الأجداد لن نسمح...

الأول     : لن ترضخ روح الأجداد إلى الصمت والسكون... والموت فهي عادت إلى الحياة.

المحقق      : تمهلوا يا سادة لا تحيكوا قصصاً وأساطير من خيالكم... دعونا نتفحص المسألة أول الأمر... من قال إنها ليست أوهاماً... أو لعبة يلعبها جاسوس متآمر على هدوء وسلامة المدينة... كم من الماكرين هنا بيننا؟

الجميع    : لا نسمح لك باتهامنا... لا نسمح... لا نسمح...

الرابع    : كلنا من عائلات نبيلة وأجدادنا أجداد عظماء.

المحقق     : نعم... نعم.. أجدادكم... ولكن من سرق مخزن الدجاج... ومن اغتصب تلك الفتاة المسكينة ليلة الأسبوع الماضي؟

الثاني      : إنهم الأوغاد.

الثالث    : أبناء المدن المجاورة... يريدون تشويه صورتـنا وسمعتـنا.

الرابع    : لن نسمح لك بإهانتنا...

المحقق     : وبعد؟ وبعد؟

المرأة      : إنها روح الأجداد، صدِّقْ هذا الأمر.

المحقق     : يا سادة سنأتي بالباحثين والمختصين من كل جهة وسنبحث الأمر.

الرابع     : حسنٌ وسترى أيها المحقق الشاب.

الأول     : إنه جديد على المدينة ولايعرف شيئاً.

المحقق     : حسناً سأعرف ذلك جيداً.

الثاني     : وستتأكد أنها روح جدنا شمس العظيم.

الثالث    : ووقتها سنعرف كيف نرد على سخريتك من روح أجدادنا.

المحقق     : حاشا لله فأنا لم أقصد هذا.

الجميع    : لا تتراجع... لا تتردد... لن نسمح... (تعم حالة من الفوضى) 

المحقق     : حسنٌ مادمتم هكذا (يطلق صفارته) أيها الحرس فرِّقوهم... (تـنطلق صفارات  الشرطة الذين يهجمون عليهم فيتفرقون) فلينصرف الجميع... دعونا نعمل... دعونا نبحث الأمر... ومن لديه أقوال فليأت إلى المخفر... (يتفرق الجميع) يالها من مشكلة...

 

(بعد انسحاب الجميع يخرج المحقق من إحدى زوايا المسرح وهو يراقب بحذر / إظلام تدريجي)


المشهد الثالث

   (بقعة ضوء على زاوية يسار المسرح، عمال المياه القذرة يعملون).

العامل1   : ألا تخرج لقد تأخر الوقت... نريد أن نتناول طعامنا، لقد أصبح بارداً.

العامل2   : (من الأسفل) لحظة... لحظة...

العامل1   : منذ ثلاث ساعات وأنت تردد... لحظة... لحظة... أية لحظة تعني؟

العامل2   : انتظر.. هناك أمر مريب.

العامل1   : مريب؟ أيّـة ريبة في مياه المجاري؟ هل وجدت كنـزاً؟ سنتقاسمه إذن.

العامل2   : لا... لا.. انه أكثر ريبة.

العامل1   : هل وجدت جثة قتيل؟ سنسلمها للشرطة كالعادة... أخرج سآكل وأتركك.

العامل2   : يا الله (يخرج) وحق روح جدي الذي كان أفضل عامل مجارٍ في التاريخ وروح جدك أيضاً هنالك كارثة.

العامل1   : كارثة! ماذا تعني؟

العامل2   : الكارثة لا تعني إلا كارثة يا عبقري... ك... ا... ر... ث... هـ.

العامل1   : ولكن ماذا تقصد؟ لقد أفزعتـني حقاً.

العامل2   : أنابيب المياه المركزية...

العامل1   : ما بها؟ تكدست فيها القاذورات؟

العامل2   : نعم.

العامل1   : وهل هناك ما يمنعها من الجريان؟

العامل2   : لا أدري.

العامل1   : سنأكل ونتفحصها من الجهة الأخرى ونـزيل كل شيء.

العامل2   : (وهو يضرب على رأسه) لا... الأنابيب... الأنابيب.

العامل1   : ما بها؟

العامل2   : فيها كسر كبير... وستتحطم من الضغط وحق جدي وجدك.

العامل1   : اللعنة على جدك وجدي.. هل تقول الصدق؟

العامل2   : نعم.

العامل1   : يا للكارثة.

العامل2   : انـزل وانظر بنفسك. (ينـزل الأول)    

 

(إظلام تدريجي)


المشهد الرابع 

  (تعود الإضاءة إلى التمثال، يضرب كفاً بكف ويحاول الجلوس بصعوبة)

التمثال   : آخ... آه... اللعنة... اللعنة... سنون وشهور مرت، وأنا أقف هنا مثل شجرة ميتة... مللت الوقوف... تصلبت ساقاي... اللعنة حتى بعد موتي لم أُشْفَ من الأمراض... آه الشتاء يأتي ويصب عليَّ أمطاره فأصاب بالرشح والحمى... وأسأل الدفء ولا دفء... أساوم روحي على الصيف ويأتي الصيف بسمومه وحرّه الحارق آه... والقذارة لقد التصقت بملابسي وتصلبت على جسدي من كثرة ما تعرقت فيها ورائحتي صارت عفنة... ولم يفكر أحد أن يغسل تمثال الجد المسكين... أعتقد أني مُلئت بالقمل والنمل... وأصبت بالحكة والجرب... كل هذا ويأتي أحدهم ويحفر ذكرياته على جسدي والآخر يطفئ سيقارنه بي... وأمي تلك العجوز المخضرمة كل عام عند الذكرى السنوية لموتي تأتي وتطلي جسدي بتلك الحناء وتمضي... لقد تعبت... متى أستريح يا إلهي (يخرج من جيبه عقب سيكاره ويشعلهُ) لم أدخن منذ شهر... لم يرم أحد عقب سيكاره منذ فترة... يا إلهي ماذا فعلت؟ ما هو ذنبي؟ ألم أكن تقياً وشريفاً؟ ما الذي جعلني جداً لهؤلاء الأوغاد؟ يتفاخرون بي... ولماذا لا أدري... نصبوني هنا وسموني بطلاً وعلى ماذا لا أدري... أعتقد لأنني قُتلت برصاص المستعمرين... آه أذكر ذلك جيداً... حينما اجتاح جنود المستعمر سوق الخضار... وكنت أبيع الفاكهة هناك... أذكر ذلك حينما هجم فصيل من الجنود على السوق بحثاً عن أحد الثوار.. قيل إنه أحرق إحدى عرباتهم وهرب... ضربونا بعصيهم... وصرخوا بنا... بصقوا في وجوهنا... بعثروا بضاعتـنا... وفجأة لا أدري كيف حصل هذا... حمل باعة الفاكهة والخضار عصيهم وضربوا الجنود... الجنود جنّ جنونهم وأطلقوا الرصاص... لم يكن بيدي شيء فهربت... هربت كما فعل الناس... والكل يصرخ... الفرار... الفرار... وأحدهم كان يصيح الصمود... الصمود... أختلط عليَّ الأمر... ولم أستطع أن أميز أي شيء... حُوصرت بحشود الجنود... أرادوا إلقاء القبض علي... أحدهم بصق في وجهي... فلم أشعر إلا وأنا أهوي بالعصا على رأسه ضرباً فخر صريعاً... مات... أردت الهروب... ازدحم الناس حولي من كل جهة وهم يهتفون... عاش شمس... عاش شمس... الجنود ضيقوا عليَّ الطريق  أيضاً... فجاءتـني رصاصة من الخلف... ها... ها... (يضحك بقوة... ولمدة طويلة) وها أنا هنا واقف مثل فزاعة الحقول لاحول ولا قوة لي... كتبوا عني الأشعار... تفننوا بنحتي... نصبوني فوق قاعدة حديدية صلبة لا تقلعها هزة أرضية... آه لقد تعبت من الوقوف... تعبت... أخ (ينظر للأعلى بغضب) اللعنة عليك أيها العصفور حتى أنت ضدي... يا إلهي لقد سئمت الوقوف هنا... الكل يتحرك من حولي إلا أنا... لقد تعبت من الوقوف ومن سخف ما أراه وما أسمعه... ما هذا؟! أحدهم قادم لأعد إلى وضعي ومكاني.

 

(يرجع إلى هيئته الأولى)


المشهد الخامس

  (صوت صفير الليل، يدخل شاب متوتر، يتوقف عند التمثال)

الشاب   : لقد سئمت كل شيء... آه يا مدينتي... سأرحل عما قريب... لقد خططت لكل شيء سأهرب... ولكن كيف أهرب؟ وهل أترك كل شيء لهؤلاء الأوغاد؟ أسماء لماعة... نفاق... كذب... حطموا حياتي... لماذا؟ لأنني لا أؤمن إلا بالمستقبل... كنا وكان... كان فلان جدي... وكان... وماذا صنعنا نحن إذن؟

التمثال   : صدقت والله صدقت.

الشاب   : آه من يقول هذا؟! (يدور ويفتش) يا إلهي لأول مره يتفق معي أحدهم على هذا الأمر... سأقبله... سأهنئه على هذا... سنكون أصدقاء... أين هو.. لا أحد... إنها خيالاتي...

التمثال   : هذا أنا.

الشاب   : من أنت وهم الليل؟

التمثال   : بل أنا جدك شمس.

الشاب   : اهرب منك وتطاردني.

التمثال   : كلا يا بني إني أبارك فيك فهمك ومسعاك... حسناً فعلت حين رفضت أن تكون مثلهم... أنت أول من أُسعد به في هذه المدينة... ما اسمك ومن أي عائلة أنت؟

الشاب   : حتى أنت تسألني عن سلالتي وأجدادي؟

التمثال   : عفواً... ولكني أريدك صديقاً لي.

الشاب   : سمّني ما شئت.

التمثال   : أسميك الأول.

الشاب   : وماذا يعني هذا؟.

التمثال   : لأنك رفضت أن تكون حفيداً لفلان وفلان... فأنت الأول.

الشاب   : أنا صفر... مجرد صفر.

التمثال   : وستكون الأول بعد الآن.

الشاب   : اللعنة وسيأتي أحفادي ويصير هناك الثاني والثالث؟

التمثال   : ليس عيباً أن يتسموا باسمك، ولكن العار أن نتطفل على أسماء غيرنا دون أن نفعل شيئاً...

الشاب   : صدقت... أتفق معك على هذا... لكني تعذبت بسببكم يا جد... رسبوني في المدرسة لأني لم أكتب عنكم في دروس الإنشاء الأدبي... وسخر مني الأصدقاء...

التمثال   : سافر... هاجر... أهرب... كن شيئاً.

الشاب   : أنت أول من يشجعني على هذا.

التمثال   : لا عليك منهم... أنت على حق في سعيك هذا... هيا يا بني اجمع أغراضك واهرب... كن شيئاً... وعد من جديد... لا تصغ لأحد ولا تعذب نفسك بما سيقوله هؤلاء الأوغاد... فهم فاشلون وكسالى وجبناء... هيا اذهب قبل أن يفوت الأوان.

الشاب   : الآن! الآن؟

التمثال   : وفي هذه الليلة وقبل طلوع الفجر... الأمر بحاجة إلى قرار حاسم...

الشاب   : حسنٌ شكراً لك يا جدي... يا جدي حقاً...

 

(يحتضنه ويخرج مسرعاً، إظلام على التمثال)


المشهد السادس

   (إضاءة على المحقق في الزاوية اليمنى حيث كان يراقب ما يجري)

المحقق     : يا للعجب... هذا سحر أم واقع؟ هذه المدينة عجيبة حقاً... يا الله... والمستقبل سيخبئ لنا الأعجب... ولكن أحقاً ما سمعت وما رأيت... تمثال يتحرك... ويتكلم... حقاً لقد عاقبوني عقوبة كبيرة حين نقلوني إلى هذه المدينة الغريبة... الآن عرفت لماذا يرفض الجميع المجيء إلى هنا... الكل يتباهى... رجالاً وأطفالاً ونساءً وشيوخاً... ما أن تحدثهم حتى يقسمون لسببٍ أو دون سبب... قسماً بروح جدي فلان... قسماً بروح جدي الطاهرة... ياللسخف... يظنون أنفسهم أبناء أنبل الناس... والآخرين حثالة...  عبيداً لهم... اللعنة منافقون... أعرفهم جميعاً... ولكني أقسمت أن أكشف هذا السر ولو خسرت وظيفتي بل وحتى حياتي... سأحطم تفاخرهم هذا... سأحاول أن اعقد صفقه مع هذا التمثال المعذب (يتقدم منه، ينتبه التمثال لقدومه يرمي سيقارنه على الأرض ويتجمد) هه.. مساء الخير (صمت) لا يجيب؟ طبعاً... يخاف مني... اطمئن ولا تخف... خذ سيجارتك ودخن... خذ ولا تخف... خذ فأنا منذ المساء أقف هنا وأراقبك ورأيت كل شيء... خذ ولا تخف فأمرك سر بيننا... اعتبرني صديقاً...

التمثال   : ولكن أقسم!.

المحقق     : على ماذا أقسم؟

التمثال   : على ألا تفضح أمري.

المحقق     : أقسم على هذا بشرفي.

التمثال   : شرف الشرطي أم الإنسان؟.

المحقق     : الإنسان طبعاً، ارتحت؟ هيا دخن ولا تخش شيئاً... أنا غريب عن هذه المدينة وأبحث عن صديق مثلك... اطمئن وصدقني... ستربحني صديقاً صدوقاً... هيا دخن... اجلس ولا تخف...

التمثال   : (يتحرك بخوف) شكراً لك يا سيدي... أنت غريب؟

المحقق     : نعم لقد تم نقلي إلى هذه المدينة منذ شهر ولكني تعبت.

التمثال   : تَعبتَ بهذه السرعة؟ لم ترَ شيئاً بعد.

المحقق     : مدينتكم والناس هنا غريبو الأطوار يا صديقي.

التمثال   : أتقول لي هذا الكلام؟ لقد عذبوني قبلك ألف مرة!

المحقق     : يعيشون على الماضي ويتفاخرون بأجدادهم وهم لا يصنعون شيئاً... أليس من السخف أن يكونوا هكذا...

التمثال   : نعم.

المحقق     : أتتفق معي؟

التمثال   : كل الاتفاق.

المحقق     : حسنٌ أنت الرجل المناسب الذي أبحث عنه.

التمثال   : لماذا يا سيدي... لماذا؟

المحقق     : لا تخف ساعدني على تغيير المدينة... دعنا نخرجها من هذا الوهم.

التمثال   : وكيف ذاك؟

المحقق     : ساعدني على كشف أسرارهم لكي أواجههم بها... حتى يستيقظوا من غفلتهم،  من موتهم هذا.

التمثال   : ولكن كيف؟ أنا مجرد تمثال بائس... تعبت من الوقوف... وأبحث عن الراحة... وإذا كنت صديقاً حقاً كما تزعم  ساعدني أنت.

المحقق     : وكيف أساعدك؟

التمثال   : انقلني إلى أية مقبرة... إلى أي متحف.

المحقق     : وكيف؟

التمثال   : أنت المسؤول ويمكنك أن تفعل هذا.

المحقق     : سيحتج الناس.. ألا تعلم أنك رمز للمدينة ولهم؟

التمثال   : ولكن كيف؟ لقد تعبت... أرجوك ساعدني.

المحقق     : حسناً لدي فكرة.

التمثال   : وما هي؟.

المحقق     : ألا تريد أن أحصل على موافقة هدمك أو نقلك؟

التمثال   : نعم وبكل سرور.

المحقق     : ساعدني على تحطيم رمزك في دواخلهم... دعنا نفضحهم... فلا يجرؤ بعد ذلك أحد على رفض هدمك... بل سيطالبون هم بذلك.

التمثال   : وكيف أحطم رمزي في دواخلهم؟

المحقق     : تزورهم... تكشف أسرارهم أمامي... تتحدث معهم حول كل ما فعلوه وسأسجل أنا ذلك بجهاز سري... وأواجههم عند الحاجة بذلك... وعندها يتحقق مرادك ومرادي.

التمثال   : ولكن هذا الأمر يتطلب وقتاً...

المحقق     : لا بل ليلةٌ واحدةٌ... وهذه الليلة بالذات... سنختار نماذج منهم وحسب.

التمثال   : ولكن الأمر صعب.

المحقق     : وطلبك صعب عليَّ أيضاً.

التمثال   : لقد أحكمت الخطة.

المحقق     : إنه خلاص المدينة... ألا تريد لهم أن يكونوا أحياء من جديد؟ ألا تريد أن يعملوا ويتحركوا؟ إن مهمتي ليست حماية الأمن فحسب ؛ بل أيضاً إزالة كل الأخطاء... وعندها سأحصل على رضى المسؤولين عني وسأكافأ... ومكافأتي نقلي إلى مدينتي حيث أهلي  هناك وحبيبة القلب... أنت تفهم هذه الأمور... وسأنقلك بنفسي إلى أي مكان أو مقبرة تريد...

التمثال   : اتفقنا.

المحقق     : لا تراجع؟

التمثال   : لا تراجع (يتصافحان).

المحقق     : نِعمَ الصديق؟.

التمثال   : نِعمَ الصديق.

التمثال   : ولكن كن على حذر منهم.

المحقق     : هذه مهمتي وأنا أعرف كيف أتدبر الأمر... لا تخف... فقط.

التمثال   : أطع أوامري... سأخططُ وتـنفذ...

المحقق     : حسنٌ.

التمثال   : هيا على بركة الله...

 

(يخرجان، إظلام تدريجي، موسيقى)


المشهد السابع

  (تضاء البقعة من جديد على عمال المياه القذرة)

العامل2   : ساعدني على الخروج.

العامل1   : هيا ما أثقلك يا حفيد السمنة.

العامل2   : لا تسخر مني (يخرج إلى الأعلى).

العامل1   : هيا تكلم ما هي الأخبار؟

العامل2   : كارثة كما قلت.

العامل1   : المدينة مهددة، ستـنفجر أنابيب المياه القذرة.

العامل2   : ماذا نفعل؟

العامل1   : هيا لنبلغ المدير والشرطة وكل الناس هيا... (يركضان).

العامل2   : توقف يا غبي.

العامل1   : ماذا؟ هل نسيت شيئاً؟

العامل2   : أتعلم لو بلّغنا الآن سنتحمل المسؤولية عن سبب تأخير البلاغ؟

العامل1   : وربما سيشكون بنا.

العامل2   : سيقولون هم فعلوا ذلك عمداً.

العامل1   : نعم صدقت... صدقت...

العامل2   : وسنكلف بأعمال ومهمات لا أول ولا آخر لها...

العامل1   : وسنحرم من الإجازة.

العامل2   : وإذن؟

العامل1   : نصمت وكأن شيئاً لم يكن.

العامل2   : وإذا انفجرت؟

العامل1   : نقول كنا نائمين ولا ندري.

العامل2   : هيا لننم.

 

(إظلام تدريجي، موسيقى)

 

 

 الفصل التالي  عودة للغلاف     عودة للرئيسية