الفصل الثالث

قراءة في مشروع التأسيس

بحث/ أسئلة/ فرضيات

 

حس الاتجاه الخاطئ

اكتسبت أسئلة المسرح و لا سيما تلك آلتي تبحث في تأصيله في بلداننا العربية أهميتها من الضرورة التي بات يشكلها هذا النشاط الإبداعي في حياة المجتمعات الحديثة، وذلك انه يمثل اخطر أنواع الفنون على مستوى التلقي، كونه يعتمد التخاطب الحي والمباشر بين المبدع والمتلقي (المؤلف والمخرج والممثل من جهة, والمتفرجين من جهة أخرى).

تطور هذا التخاطب -التلقي- مع تطور التقنيات والمعارف المسرحية ليصبح في النهاية حواراً جمالياً ومعرفياً ينتجه كلا طرفي المعادلة المسرحية (حيث الملتقي شريك في عملية الإنتاج والابتكار والتأويل بعد أن كان يكتفي بالمشاهدة والاستهلاك). ومع خروج النص على أنماط الكتابة المألوفة وخروج العرض على الأشكال السلفية وسلطة المعمار (العلبة الإيطالية ) والمؤسسة (السياسية والاجتماعية)، أصبح العرض المسرحي أكثر تماساً مع روح وعقل المتلقي، بل اصبح جزء اً من لحمة الحياة بمشاركته المتلقي أماكن العمل والعبادة والدراسة والمقهى والحارة… الخ. أي أن العرض قد تحول من ترف مصطنع إلى إبداع يشترك بالحياة ويؤثر فيها، ومن هنا اكتسب ضرورته في حياة المجتمعات الحديثة بعد أن كان يتخذ صفة الجزئية من البناء الفوقي للمجتمع. الأمر الذي دفع المنظرين والباحثين والفنانين إلى إعطائه صبغة الهوية التي ينتمون إليها دينياً أو عرقياً أو سياسياً أو فلكلورياً وبذلك تعدد المسرح بتعدد هوياته مثل " المسرح الصوفي والكنسي أو المسرح الأسباني والفرنسي أو المسرح الوجودي والاشتراكي والمسرح الهندي أو مسرح النو الياباني". أي انه اتخذ استقلاليته وتفرده لدى كل أمة ونخبة تحاول أن تكرسه لصالح مشروعها الحضاري وتعمل على تطويره والارتقاء به بوصفه أداة للتغيير وللتعبير عن سماتها الجمالية والمعرفية الخاصة التي تميزها عن الأمم والفئات الأخرى، إلى جانب كونه أصبح سمة مميزة للهوية الثقافية ذاتها، إذ توصف بالقصور طالما لم تمتلك نوعاً مسرحياً خاصاً بها، حيث أصبح أداة لتفرد الأمة كما هو الحال مع تفردها بالتطور العملي والصناعي والتكنولوجي (غزو الفضاء الخارجي وبقية البحوث العلمية والنظرية)،أو مؤسستها الكبرى وكياناتها الراسخة في بنية المجتمعات المتقدمة الحديثة، اصبح للمسرح ذات القوة والأهمية الراسخة، حيث أقيمت المعاهد والجامعات والمختبرات العلمية والمسارح الكبرى التجارية والمسارح  الصغيرة التجريبية إلى جانب الصحف والمجلات المتخصصة والندوات والمؤتمرات العالمية والإقليمية التي تهتم جميعها بتدعيم وتطوير هذا الفن بوصفه ضرورة معرفية وجمالية للفرد والمجتمع المعاصر، خصوصاً فيما يقدمه من خدمات ترتقي بذات المتلقي على اليومي السائد والمألوف في العالم المادي وتضخ في المجتمع قيماً ذوقية ومعلومات جديدة متحركة تمس الحاجة إليها وبشكل  جوهري بالضرورة ولاسيما فيما يخص الطبيعة البشرية. إذا لم يعد المسرح هو ذلك الطقس الوثني الذي هبط على الإغريق من (الأولمب) لينقل مشاكل الآلهة وعلاقاتها المفترضة بالبشر، ذلك أنه أصبح نشاطاً إنسانياً يعنى  بتحليل الظاهرة الإنسانية، تلك الظاهرة الخطيرة والجوهرية التي عجزت العلوم الطبيعية عن تحليلها.

بعد الكم الهائل من تطور القدرات وتراكم المعلومات وتقدم وسائل البحث العلمي في ميدان علاقة الإنسان بالطبيعة وبالكون الخارجي أصبح المسرح - إلى جانب الآداب والفنون الأخرى - نشاطاً يعتمد المعرفة والجمال وسيلة له في تحليل وكشف ظاهرة الإنسان ووجوده على المستويين الذاتي والموضوعي تلك التي تقع خارج اهتمام العلوم الطبيعية. بكلمة أخرى اصبح للمسرح من الأهمية والثقل ما ينافس به العلوم الطبيعية، ذلك انه اصبح قريناً لها باكتسابه ذات القوى التحليلية وذات الأهمية في تلبية عطش وجوع الإنسان المعاصر للمعرفة والجمال.  ومن هنا كانت ضرورة الانهماك في حفر الموروث لتأسيس سمات وطقوس خاصة بالفعالية المسرحية، أي منح المسرح هوية خاصة - ما يجعل منه جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الأمة إلى جانب أهمية البحث في اكتشاف السبل الكفيلة بجعل العرض المسرحي قريباً من ذات المتلقي إذا ما كانت الشعوب العربية وبعض الشعوب الشرقية توارثت الفعالية المسرحية عن أسلافها فقد رسخت السنوات الطويلة الماضية شكل وهوية الظاهرة المسرحية لديها بشكل تلقائي - وهذا ما نجده في المسرح الياباني والروماني والفرنسي والهندي- أما بالنسبة للشعوب التي استوردت هذا الفن عبر احتكاكها الحضاري بمنابعه مثل الشعب العربي. ولأنها لا تمتلك إرثاً في ممارسته إلا عبر أشكال وأنشطة تكاد تكون مقاربتها بالشكل المسرحي المعروف بأسسه الفلسفية والتقنية عملية قسرية مجحفة ليس إلا ، لذلك فأنها لجئت إلى التعامل معه بأساليب مختلفة منها :

محاكاة النموذج الغربي بشكل حرفي بوصفه فناً مستورداً ولا يجوز التدخل في تكامله من جهة، بينما لجأ الآخرون إلى البحث والعمل على إيجاد شكل مضمون خاصين بهذا الفن المستورد يأخذ سماته من موروث الأمة، وذلك لإيجاد هوية خاصة لمسرح يسمى بالمسرح العربي يهتم بذات المتلقي الذي يحمل هذه الهوية ويلبي عطشه الجماعي والمعرفي الذي يختلف بالضرورة عن متلقي الهوايات الأخرى.

غير أن محاكاة النموذج الغربي والبحث في الموروث لإعطاء المسرح هوية عربية أمر هو الآخر ينطوي على التباسات وأسئلة مازالت تحيّر الباحثين والفنانين رغم المقترحات التنظيرية والعملية التي يواصلون تقديمها منذ الربع الأول لهذا القرن. كباحثين وكفنانين عرب معنيين بالظاهرة المسرحية يفترض بنا أن نتساءل قبل كل شيء:

هل يتحول البحث عن هوية لمسرحنا العربي إلى جدار نتقوقع داخله ونحجب أنفسنا عن اكتشاف وحرث مساحات الإبداع التي تقع خارج حدود هويتها ؟

 يكتسب هذا السؤل أهميته من حقيقة أن الهوية بوصفها ثقافة وسلوك وعادات أمة متراكمة من آداب وفنون وعقائد دينية إلهية وأخرى أيديولوجية وضعية - تسبق الإبداع الآني والراهن بعنصر الزمن - بل إن الإبداع الراهن يولد لينضم بالضرورة إلى هذه الهوية حيث سيعد جزءاً من تطورها وصيرورتها وان كان يحاول الاختلاف معها والخروج عليها، وهذا ما يعني بالتالي أن الهوية لدينا كمجتمعات عربية سابقة لفعالية المسرحية قد تشكلت عبر ألوان عديدة ومختلفة من الإبداع دون أن تبرز لدينا الظاهرة المسرحية بشكلها اليوناني أو الغربي المعاصر.  وبكلمة أخرى إن المسرح يعد نشاطاً إبداعياً طارئاً على الهوية العربية والإسلامية التي تشكلت قبل استيراده.    إن إغفال هذه الإشكالية قد أدى بالكثير من الإنجازات المسرحية في عالمنا العربي إلى اتخاذه شكل المتحف التاريخي ( العودة إلى الماضي والانغماس في شخصيات التاريخ التي لا تمت للحاضر بصلة إضافة إلى الأفكار السلفية غير القادرة على مخاطبة المتلقي المعاصر ). فقد توهم الباحث والمخرج العربي المعاصر بأن القصائد والأغاني والحكايات وكل ما يمت للموروث والفلكلور العربي والإسلامي بصلة هي في المحصلة الهوية التي يجب توصيف المسرح بها، فأصبحت العروض المسرحية أشبه بالرحلة السياسية إلى عالم الماضي بأشكاله ومظاهره الخارجية لا لجوهره المعرفي.          أي أصبحت العملية الإبداعية عملية شد وجذب إلى الوراء وتغيب مستمر للحاضر وتطلعات المستقبل. ومثلما ظلت الهوة واسعة وعميقة بين العربي المعاصر وخطاب هويته ظلت الهوة تتسع بين هذه الذات والعرض المسرحي حيث بقيت هذه العروض مجرد ترف فوقي لا يحاور جوهر الأمة ولا يمس إشكالياتها الراهنة. أما من جهة أخرى فأن العودة إلى التراث بوصفه إرثاً حكائياً وشكلاً محدداً بالأزياء والحلي ونوع من الأدب الشعري، ولوناً خاصاً من اللغة المسبوكة ( غالباً ما تؤخذ من المصادر الحكائية المعروفة كألف ليلة وليلية وكليلة ودمنة وسير الأبطال والشخصيات الخيالية والملوك والشعراء ) إنه التباس أخر يضاف إلى قائمة أخطاء مناهج البحث في مشروع إيجاد هوية لمسرحنا ذلك أن الإرث يجب ألا يؤخذ بوصفه شكلاً ولغة ولباساً وحسب بل عقلاً ينتج المعرفة والجمال، حيث لم تشهد ساحتنا أي مبحث من هذا النوع، لاسيما في النشاط المسرحي ذلك أن أي مسرحي العربي لم يحاول قراءة العقل العربي بوصفه الآلة التي أنتجت الإرث الشعري والحكائي، أي أن الباحث والمبدع المسرحي قد انصرف إلى مظاهر التراث تاركاً العقل الذي أنتجه، وهذا ما كرس اغتراب البحث والعرض المسرحيين عن المتلقي المعاصر.  فمهما تماهى المتلقي مع العرض الحكائي الفلكلوري والتراثي فإنه لا يتماهى إلا بوجدانه. كون العرض يثير فيه الحنين إلى الماضي ويدغدغ ما تحمله ذاكرته الجمعية عن هذه الأشكال والمظاهر، إلا أن عقله يظل خارج اللعبة طالما لم يمس العرض انشغالاته الراهنة ! إذاً فالتراث ليس ما يتراكم من حكايات وقصائد وأزياء وخيام لأن فهماً كهذا للتراث سيؤدي إلى تحول العرض، بل والمبدع والمتلقي إلى كائنات تراثية تعيش في الماضي وتنقطع عن الحاضر في الوقت الذي يحاول فيه كل منهما تأكيد هويته بوصفه كائناً معاصراً يمتلك إرثاً يمكنه من التحرك الفاعل بالزمن الحاضر والمستقبل. إن حس الاتجاه الخاطئ هذا قد سيطر وإلى فترة طويلة على ذهنية المبدع العربي الذي حاول أحياناً الخروج عليه عبر عملية ( الإسقاط) التي تتجسد بإسقاط حكايات وشخصيات الماضي على الحاضر من خلال صنع نوع من المقاربات ( مثل مقارنة الحجاج بدكتاتور معاصر عبر التلميح ) أو بسحب شخصيات وحكايات الماضي في نزهة مضحكة عبر حقل الحاضر            ( مثل امرؤ القيس في باريس أو صقر قريش في مقهى الشام …الخ). وقد بقيت هذه المحاولات تدور في فلك الخطأ المنهجي ذاته ذلك الخطأ المتولد عن فهم مغلوط تماماً للتراث والمعاصرة ! إن سؤال الهوية ليس سؤالاً عن الهوة! غير أن ما أنتجه العربي في حقل المسرح عبر هذا السؤال لم يكن في النتيجة إلا هوة جعلت المسرح يقف على طرف والمتلقي على الطرف الأخر منها، بينما ظلت هذه الهوة تتسع مع اتساع غموض الرؤية وتأزم العقل، في نظرته للتراث العربي بوصفه حكايات وأشكالاً لا كخطاب عقل ومنهج حياة وإبداع وسلوك مغاير يمتلك القدرة على التوالد والصيرورة الفاعلة. لقد تميزت جدية الشعراء العرب المعاصرين بما أنتجوه من أفكار ومقترحات تنظيرية ودقة أسئلتهم في تناول موضوعية هوية الشعر  ومفهوم التراث والمعاصرة، حيث لم يغفلوا التراث المعرفي والعلمي بالدراسة ذلك أن هذا التراث يشكل المناهج الحقيقية التي أنتجت تلك القصائد والآداب والفنون، والتراث المعرفي هذا بشكل آخر هو العقل العربي الذي نجده مجسداً في الشعر كبنية أخلاقية وفكرية وجمالية وكذلك في بقية صنوف النثر بل وحتى في صياغة أخبار التاريخ، لذلك تفوق الشاعر العربي على الفنان المسرحي في ترسيخ هوية الشعر بل وجعله قريباً من ذات المتلقي. وباستلهام الشاعر والمنظّر لمناهج وخطاب العقل العربي اصبح للشعر قوته التأثيرية على الآخر الذي يحاول الآن تقليده أو الاستنارة به     أو الاحتكاك بمنابعه (مثل محاولات أدباء الغرب الاستفادة من التصوف والتجريد القرآني والحكمة الشعبية النثرية). أما على صعيد المسرح فقد ظل المهتمون العرب يبحثون عن المسرح في كتابه ( اليوناني ، الغربي )   أو كتب حكايات ودواوين الشعر وكتب الأخبار، متجاهلين أهمية البحث وقراءة آلية العقل العربي الذي انتج هذا الخطاب، فالقصيدة كشكل ومضمون تشكل نمطاً أخلاقياً وذهنياً وجمالياً للعربي، ولو تسنى لنا قراءة هذا العقل لاستطعنا أن نتوصل إلى تأسيس مسرح خالص ابتداء من شكل العرض أي أسلوب الكتابة وابتكار الشخصيات المسرحية ولغتها وطبيعة صراعها وانتهاءً بتحديد نوع العلاقة بين المتفرج والعرض حسب خصوصية إرث هذا المتلقي أي لاستطعنا أن نؤسس خبرة متراكمة لمسرح يمثلنا امتداداً من الماضي إلى الحاضر والمستقبل. غير أن ما حدث ويحدث خلال هذه السنوات إنما هو تكريس لرؤية التباسية يقع فيها المسرحي العربي حسب تصوره القائم على (أن الهوية كيان منجز ومنته) والمسرح شكل جديد طارئ على هذه الهوية ولا يمكن إقحامه فيها، الأمر الذي دفعهم بالتالي لاتخاذ النموذج اليوناني مثالاً شمولياً مطلقاً لتجسيد نشاطهم المسرحي بل وحتى قراءة بنية الشخصية والصراع العربي على أساس هذا النموذج ( المطب الذي سقط فيه الباحث العربي د. محمد عزيزة في كتابه الإسلام والمسرح الذي حاول فيه قراءة بنية الصراع في الجزيرة العربية قبل وبعد ظهور الإسلام وفق نظرية أو منهج أرسطو في ( فن الشعر ) حيث خلص في النهاية إلى أن الذات والبيئة العربيتين لم تنتجا صراعاً درامياً كالإغريقي، وبالتالي لم تنتجا مسرحيا. إن النظرة إلى الهوية، والتي سميناها من قبل (النشاط الإبداعي والسلوك الاجتماعي وطبيعة الحياة والتفكير) بوصفها منجزاً منتهياً تعني ضماناً أن ثمة ثبوتية تحيط بكيان هذه الأمة وتمنعها من التحرك والتفاعل والإبداع خارج الأطر القديمة لها، أي أن الأمة، وفق هذا المنظور للهوية تعيش في الماضي وحسب! وأن الهوية هي ما خلفه لنا الأسلاف وما يتوجب علينا ترسيخه دون المساس به أو الإضافة إليه كأي اثر من الآثار! وهذا حسب اعتقادنا ما دفع المسرحيين في بلداننا إلى إيجاد مسرح يمثل هوية الذات العربية المعاصرة، هويتها الممتدة من الماضي إلى المستقبل. بيد أن إماطة اللثام عن مفهوم الهوية وما يكتنفه من غموض يدعونا الآن للبحث في آلية الخطاب والعقل العربي ولاسيما مناهجه المعرفية انطلاقاً من  مفهوم الهوية ككيان مستمر بالشكل والصيرورة وغير ثبوتي قابل للتثاقف و التلاقح مع الهويات الأخرى بل وحتى قابل لتوليد واحتواء أي مبتكر جديد يهدف إلى تطويرها والارتقاء بشعبها ضمن حركة المشروع الحضاري الذي تساهم فيه الأمم كل حسب هويتها وابتكاراتها الخلاقة! ولأن مشروع البحث عن الهوية لمسرح عربي ينطوي على إشكاليات سياسية إضافة إلى الإشكاليات المعرفية التي حاولنا مناقشتها وبشكل متواضع فإننا سنفرد مساحة كافية لتسليط الضوء على طبيعة البيئة والخطاب الديني و الأيديولوجي وتأثير هذه العوامل في ولادة المسرح العربي وقمعه وحجبه عن الظهور.

 

المسرح في التاريخ العربي

خلصنا في مقدمة هذا البحث إلى تسليط الضوء على أسئلة المسرح الجوهرية وأسباب عدم رسوخ هذا الفن لدينا من جهة أخطاء المنهج لدى الباحثين والمنظرين العرب المعاصرين والفهم الخاطئ لمفهوم الهوية      من جهة أخرى، وسنحاول الآن تسليط الضوء على المعوقات الطبيعية والسياسية والاجتماعية التي وقفت ضد بروز هوية لمسرحنا.

 يعتبر المسرح دون غيره من الفنون والآداب ابناً شرعياً للمدينة والمجتمع المدني حيث التساكن البشري الكثيف وظهور التخصص في العمل والوظائف الاجتماعية وبالتالي نشوب الصراع النفسي والاقتصادي والمعرفي جراء تعدد الرغبات والطموحات في قيادة المجتمع وتغيير اتجاهه، غير أن الحياة التي كان عليها العرب في الصحراء والتشرذم القبلي كان له الدور الأساسي في تغييب اللقاء والصراع الدرامي بين شعوب الصحراء، هذا إلى جانب خصوصية الفن المسرحي التي تفترض توافر عدد من الاختصاصات ( من بينها المؤلف الشاعر، الممثل المحاكي، المخرج كمنظم للعمل)  وبالتالي توفر جمهرة من المتفرجين في حين أن الكم البشري للقبيلة لم يكن ليسمح بتوفر هكذا مختصين وجمهوراً متابعاً، كذلك فأن قانون الرحيل المستمر الذي يحكم حياة الصحراوي كان يقف ضد مفهوم المكان الذي يعد عنصراً بارزاً بل رئيسياً في تكوين ورسوخ المسرح - كما هو عند اليونان والرومان - وهكذا كانت الصحراء فضاءً متحركا وممتداً يشبه إلى حد بعيد القصيدة التي تتناقل شفهياً عبر تموج الصحراء وحركاتها وحركة القبائل المهاجرة عبرها.

ساهمت الروح القبلية - ذوبان الفرد في المجموع - في تغييب روح الصراع والحوار والاحتجاج وبذلك برز الشعر في أداء مهمة مدح القبيلة  أو ذم أعدائها. بينما يحتاج الفعل والحوار المسرحي عموماً إلى توفر نوع من الصراع المعرفي والنفسي والعقائدي. وهذا لا يعد نقصاً في الطبيعة العربية بل هو إسقاط طبيعة الصحراء على الحياة وعلى الفرد الذي لا يجد معنى للحياة إلا في التماهي مع الآخرين ضد العدو الأوحد للجميع، ألا وهو الصحراء، بوصفها الموت المتربص بالصحراوي لحظة تفرده. لذلك كانت عقوبة المتمرد هي - الخلع_ والطرد من وحشة الصحراء، وبهذا تكون الصحراء قد فرضت نفسها كعدو فاتك يفترض بأبناء الصحراء الاتحاد إزاءها والقفز على جميع الخلافات الداخلية، لذلك فرضت  نمطاً محدداً من الحياة تغييب فيه روح الجدل، بمعنى آخر الدراما بوصفها صراع رغبات. كذلك فان الصراع مع الصحراء صراع تجريدي ولا يمكن تجسيده عبر الشكل المسرحي بل يمكن ذلك عبر الشعر بوصف اللغة وسيطاً تجريدياً فاعلاً إزاء تجريد صراع الصحراء والفرد. من جهة أخرى ساهم غياب النظرية المعرفية والاجتماعية إلى جانب نسبية المفاهيم العقلية والأخلاقية لدى (الصحراويين) في تغييب أي بناء عقلاني للمجتمع يفصل من خلاله الخير عن الشر، والجمال عن القبح والتي هي من أهم عناصر الدراما.

لذلك ومع ظهور الإسلام، الذي كان ظهوراً للمعرفة والعمق في تأمل الوجود البشري وعلاقته بالكون والطبيعة، ظهر الصراع والحوار في حياة المجتمع العربي، صراع مع الأفراد على مستوى المعرفة والعقيدة، صراع الأفراد والأفكار، صراع الفرد والطبيعة، لهذا نجد أن الشعر، هو صناعة العرب الكبرى، اخذ جميع الأدوار في الحياة البدوية - الذم والمدح والتعبير عن معاناة الذات وهواجسها - ذلك أن الفرد لم يكن يعاني سوى الصراع مع الصحراء، والصحراء بطبيعتها صامتة، أي أن الصراع كان صامتاً من قبل أحد قطبيه مما جعل الحوار وفق هذا الصراع يأخذ طابع المونولوج الداخلي، يعبر فيه الشاعر عما يجول في روحه إزاء قهر الدهر والطبيعة. والقصيدة هنا أخذت طابع ما يسمى في المسرح الحديث - بالمونودراما - أي مسرحية الشخصية الواحدة، شخص يتكلم ويحاكم، يتحدث بلسان حال الآخرين، وبالمقابل يحيطه الصمت! اهتم الإسلام بوصف عقيدة السماء إلى الأرض، بتثبيت العقائد والقيم الروحية والعقلية في حياة المجتمع البدوي - البدائي إلى جانب تثبيت سنن العبادات والمعاملات، أي تحويل مجتمع الصحراء إلى مجتمع عقائدي ذي رسالة أخلاقية وفلسفية تملك القدرة على محاورة الآخر، تستند إلى مدا ليل عقلية وروحية وجمالية متميزة ثبتت الكثير من قواعدها في التنزيل الكريم. وهذا يعني أول ما يعني، أن الإسلام عمل على صنع مركز حضاري وسياسي (مكة) تنطلق منها الرسالة إلى جميع الأرجاء، مركز يكون فيه الجدل المعرفي على أوجه أشبه ما يكون بالمختبر الفلسفي المعاصر ( المدارس، الجامعات، أو محافل اليونان القديمة )، مركز إشعاع وانطلاق من جهة، وهو مركز استقطاب وجذب من جهة أخرى، وبذلك كانت ولادة المدينة في الحياة العربية قد تمت، وبشكل متقدم، مع انتصار الوحي الإلهي وتمكنه من اكتساح ساحة التشرذم والوثنية. ومع نشوء المدينة كمركز معرفي وأخلاقي وجمالي نشأت التخصصات العلمية والعلنية التي تحتاجها حياة المدينة بالضرورة.

وجاءت الفتوحات الإسلامية وانتشار عرب الصحراء عبر المدن القديمة الراسخة حضارياً ( التي كانت تحت حكم الفرس والروم) مما ولد احتكاكاً اجتماعياً واسعاً وخطيراً بين المفاهيم التي يحملها جنود الرسالة وبين شعوب هذه المدن أدى إلى بروز الكثير من أدوات الصراع الدرامي.

تطور الفرد ذهنياً، مع رسوخ الرسالة في كيانه وبروز حركات الردة والأفكار الانحرافية الأخرى، الأمر الذي دفعه بالتالي إلى تدعيم وسائله الدفاعية وتطويرها معرفياً عبر الجدل، سيما وان الرسالة السماوية قد رسخت مفهوم النقد - على صعيد الذاتي الموضوعي- حيث أعتبر لوناً من ألوان الجهاد سمي بالجهاد الأكبر. غير أن عدم بروز الظاهرة المسرحية في صدر الإسلام لم يكن جراء منع الإسلام لروح الجدل الذي عمل على تنميتها، إنما يرجع لتدرج الرسالة التي أخذت ردحاً من الزمن وهي تتنزل والتي تمت بوفاة الرسول  مما يعني بالضرورة أن الجدل ظل ناقصاً وغير متكامل لعدم تكامل المبادئ في وقتها، لذلك فان المرحلة التي تلت وفاة الرسول شكلت ظهوراً واسعاً للصراع بين أقطاب رجال الرسالة وبين المنحرفين والمعاندين وأعدائها على حد سواء، هذا الصراع الذي تجسد طويلاً بالجدل الساخن عبر وسائل اللغة والذي كان قوامه طرفي نقيض  الخير في مقابل الشر، الإيمان في مقابل الكفر، الجمال في مقابل القبح والذي تفجر بشكل واسع وخطير في استشهاد الإمام الحسين  الذي وضع الأمة أمام مفترق طرق.

وقبل التطرق إلى واقعة الطف بوصفها التراجيديا العربية والإسلامية التي ولدت الظاهرة المسرحية بشكل واضح يجب التطرق إلى قضية مهمة أحدثها الإسلام في ذات الفرد باتجاه توليد الحوار والجدل - أي الصراع- فلم يكن الفرد قبل الإسلام إلا وعاءً من الرمل تحكمه هواجسه وأمزجته المتغيرة باستمرار كونه لا يحتكم إلى نظام مبدئي أو عقائدي معين فهو قرين الصحراء مترجرج حسب حركتها المتماوجة دائماً، بينما ساهم الإسلام بملء هذا الوعاء بالقيم والقوانين والمبادئ -أي تخلصه من نسبية وتغاير المزاج والسلوك والفعل- وهذا النظام بالضرورة هو الذي ولد الجدل الدرامي في المجتمع العربي الإسلامي كونه لم يترك الأمور سائبة تقيّم حسب مزاج وإدراك وظروف الفرد أو القبيلة.

إزاء الصمت الرهيب الذي مارسه العربي اتجاه الخط السياسي الجديد النامي في داخل الأسرة الإسلامية الذي كان يهدف إلى تحويل العرش السياسي إلى عرش وثني لا يقبل المساس أو الاصطدام به مع تحويل مفاهيم الشريعة الإسلامية العقلية والجمالية والأخلاقية الكبيرة إلى قوالب ميتا فيزيقية تعمل داخل حقل اللاهوت وحسب، ولا تحدث أي نشاط مغاير داخل حياة المجتمع والفرد، ومع المزيد من الصمت و التسويغ الذي حاول الكثير من رجال وحكماء السلطة تمريره على المجتمع الإسلامي وقيادته إلى هاوية الصمت والركود التي كان عليها قبل الإسلام. إزاء هذا الانحراف المبدئي و الرسالي كان خروج الإمام الحسين إلى ارض الطف ليعلن المبادئ والنهج الجديد لإسلام سيصمد إلى آخر الزمن ومنها: تهشيم "ربوبية" الحاكم والتحريض على مصادمته في حال انحرافه حيث لا سيادة لإنسان على آخر إلا بما أقرته الشريعة لتنظيم حياة المجتمع وبالتالي ظهور التيار الثوري - الاجتماعي- داخل الجسد الإسلامي بما يعني بروز الجلاد والضحية على مسرح الأحداث والذي هو شكل من أشكال مسرح الحياة ثانياً: أسس الإمام الحسين   باستشهاده مفهوماً جديداً للحياة العربية، إلا وهو انتصار الضحية حتى بهزيمتها عسكرياً أو جسدياً كونها ستصبح شرارة ثورية تعبر الزمن عبر أرواح وأجساد الآخرين وبالتالي فان المنتصر - الجلاد أو الحاكم - عسكرياً أو جسدياً إنما هو بمعنى أخر مهزوم معرفياً وتاريخياً. كذلك فقد أسس الإمام في واقعة الطف لشكل جديد متفرد للصراع يتمثل بالآتي:

1-إلقاء الحجة عبر الحوار.

2-تحليل دوافع الشر والانحراف.

3-الإقدام والمصادمة في النهاية مهما كانت قسوة الجلاد أو الضد لنصرة الحق بالعقل واللسان أولاً وبالجسد والدم ثانياً وفق قانون علمي ومعرفي يعطي للصراع قيمته المعرفية الثابتة عبر التاريخ بحيث تلغي عنه طابعه الفردي أو الاجتماعي الخاص. وبالتالي فان هذه العناصر هي بالضرورة عناصر الدراما الخالصة بمواجهة الدراما الإغريقية أو الهندية… الخ. لذلك فقد ظهرت الشعائر الحسينية، وهي ظاهرة مسرحية ذات ملامح معرفية وجمالية خاصة استطاع المجتمع العربي من خلالها وعبر العصور إسقاط جميع همومه ومعاناته مما يؤكد عصرية هذه الثورة وامتدادها إلى الحد الذي يمكن القول معه أنها ظاهرة تنتمي إلى عصرنا مادامت تحتكم إلى القوانين الأزلية في الصراع وعلى جميع أصعدته. ويبقى لنا أن نعود لدراسة هذه الظاهرة ومدى الاستفادة منها في تأسيس مسرح - عربي معاصر‍، هذه الظاهرة التي طالما حاولت بعض السلطات منعها كونها لا تمثل ظاهرة مسرحية وحسب بل ظاهرة مبدئية وعقائدية تمس حياة الناس وتحرضهم على تهشيم ربوبية الحاكم وعلى إرساء العدالة على الأرض، العدالة التي يحاولون تغييبها باسم شعاراتهم المستعارة والمستوردة أو المشوهة الناقصة.

وكما أسلفنا فان بعض السلطات العربية حاولت مراراً الانحراف بالواقع العربي إلى الركود والمسالمة، وبمنع الظاهرة المسرحية التي اتخذت الطابع الحسيني كونها ثورة مستمرة ضد الذات والمجتمع والمعرفة الفاسدة، غير أن هذه السلطات لم تجد بداً من تغييب زحف الظاهرة المسرحية النامية داخل الجسد العربي جراء تناقضات الواقع وتطور الصراع الفكري بين أقطاب المعرفية السياسية والدينية، لذلك وجدت نفسها مضطرة لدعم الشكل المسرحي المستورد من الغرب لقمع وتغييب الظاهرة المسرحية الداخلية تماماً مثلما فعلت السلطة في العصر العباسي باستيرادها للفلسفة اليونانية والتشجيع على ترجمتها لمواجهة الفقهاء والمتكلمين العرب المسلمين أصحاب الفلسفة القرآنية الخالصة. إلى ذلك فقد سعت الدولة الحديثة إلى بناء المسارح ذات الطابع الأوربي وإرسال البعثات الدراسية من الطلبة العرب والمسلمين إلى أوربا للنهل من المسرح الغربي بل وشجعت على ترجمة النظريات والنصوص الغربية على اختلاف اتجاهاتها في الوقت الذي منعت فيه الكثير من العروض المسرحية والمحاولات التجريبية والكتابات النظرية والنصوص العربية التي حاولت بأي شكل مقاربة الواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي العربي - الإسلامي وبشكل جاد، ليس هذا وحسب، بل أنها شجعت الكتابة باتجاه نقل النموذج الغربي تحت شعار أن المسرح نتاج فني وحضاري مستورد لا ينتمي لحضارتنا وهويتنا وبالتالي فان أية محاولة لتقريبه من الذات العربية إنما هي عملية جراحية قسرية للمسرح والخروج به عن مهمته وشكله الحقيقي، لذا نستطيع القول ودون مواربة أن جميع النصوص والعروض التي تعج بها مسارحنا إنما هي عملية نقل واستنساخ مشوهة للمسرح الغربي بجماليته ومفاهيمه دون أي اجتهاد يرقى إلى مستوى الأصل والنبع الذي يحاولون محاكاته، وللسبب ذاته بقي المسرح لدينا نتاجاً ترفياً بعيداً عن ذات المجتمع والفرد العربي يتعاطاه من باب التسلية والمتعة كونه فاقداً للهوية والعمق والقدرة على التماس.

وهنا لا نتهم الدولة الحديثة بمعاداتها لفكرة إنشاء مسرح عربي كون هذا العداء لم يوجه للنتاج المسرحي وحسب دون غيره، بل شمل جميع الأنشطة السياسية والفكرية والأدبية والصناعية إلى الحد الذي يمكن القول معه أن الدولة الحديثة واجهت الرغبة الجوهرية بتشكيل أنماط الحياة لدينا وإعطائها هويتنا العربية باستيراد الأنماط الغربية لقمع هذه الرغبة ابتداء من الدستور إلى النظم الإدارية و البنى التعليمية والاجتماعية…الخ. فكيف إذن بالفن المسرحي هو فن يعتمد اللقاء المباشر والتحريض الساخن والحوار الحي المتبادل بين المبدع والمتلقي؟ إذاً يمكن الإجابة على سؤال الهوية في المسرح العربي (ذلك السؤال المحرج) بالإجابة أولاً على الأسئلة الخطيرة التي تمثل غياب هوية الفرد والمجتمع العربي قبل كل شيء.

 

المسرح (العربي) المعاصر

يقدم في البلاد العربية منذ عهود الاستقلال المئات بل الألوف من العروض المسرحية التي خصص لها المباني والمديريات والمؤسسات والمنتديات الرسمية وغير الرسمية، إضافة إلى  المجلات والصحف المتخصصة بمتابعة النشاط المسرحي، كذلك المهرجانات السنوية والدورية التي تقام لتدعيم وتنشيط المسرح في بلداننا. ولكن هل تساءلت المؤسسات الرسمية المتخصصة بالفنون والثقافة عن مدى جدوى هذا النشاط المسرحي وأثره في الحياة الاجتماعية للكائن العربي المعاصر؟ وهل تساءلت عن مدى فعالية هذا النشاط الفني في تعميق الهوية والارتقاء بالذات إلى مستوي رفيع من المعرفة والجمال وبالتالي عن مدى تميز هذا المسرح عن المسارح الأخرى في العالم؟

وإذ نجيب على هذه الأسئلة فما ذاك إلا لنكشف حقيقة الحياة الطفيلية التي يحياها مسرحنا المعاصر بعيداً عن الحركة التاريخية الراهنة لمجتمعنا، فالمسرح العربي رغم التطبيل الإعلامي ليس إلا فناً اغترابياً مادام يغترف سماته ومعالمه من التجربة الأوربية شكلاً ومضموناً ( على المستوى المعنوي الروحي والفكري وعلى المستوى التقني السينوغرافي) وإلا فهل فاجأنا مخرج أو كاتب عربي بتجربة مسرحية مغايرة لتجارب المسرح الأوربي وبشكل تام؟ للأسف فقد تواطأت مؤسسة الثقافة السلطوية العربية واهتمامات الفنانين المغتربين عن مجتمعهم والمنصرفين إلى همومهم الذاتية الجمالية والمعرفية، إلى الحد الذي بات فيه الكثير من عروض مسرحنا أشبه بعلب المواد الغذائية المستوردة، طبخات جاهزة يكفي أن يقوم الفنان العربي بفتحها على خشابات مسرحنا وأمام جمهورنا ولذلك تحت ذرائع، منها التماهي مع العالمية، التثاقف مع الحضارة المتطورة، وبالتالي تغييب الفعل الإبداعي الخاص بأمتنا. هذا الكلام ليس نتاج العصبية القومية         أو العرقية أو الدينية، إنما هو نتاج فهم حقيقي للإبداع المسرحي بوصفه صراع جمالي ومعرفي تتجسد فيه القيم الإبداعية لكل أمة من دون التقوقع والانغلاق على نفسها. وإذ نتهم السلطة والفنان المسرحي بالتواطؤ،     فذلك لأن الدولة ( السلطة) تمارس دور المنتج والمراقب أما الفنان فيجد في عملية نسخ ما شاهده أو قرأه أو درسه سهولة تجنبه مصاعب البحث عن سمات خاصة لمسرحنا. تلك السمات التي ستتقاطع بالضرورة مع أهداف حكومة الاستيراد من الغرب لتقمع بها نظماً أخرى تنتمي إلى جوهر الأمة.  يرى (محمد عابد الجابري) في حركة الترجمة في العصر العباسي حركة سياسية بعيدة كل البعد عن الأهداف الثقافية، لأن السلطة أرادت أن تقمع الفقيه والفيلسوف العربي المسلم بثقافة اليونان والإغريق… هذه الممارسة تتجسد الآن وبشكل واضح إزاء أي نشاط يهدف إلى ترسيخ كيان وهوية الأمة، في الوقت الذي ترّوج لآلاف المذاهب والمدارس الفنية والأدبية الغربية وتغزو أسواقنا الثقافية وأدمغة أجيالنا المفرغة قسراً من هويتها.      أن اعظم مفاسد السلطة يتجسد في أحداث الخلل الواضح في العلاقات البشرية داخل المجتمع الإنساني من جهة، وبالتالي تعطيل حركة الإبداع والتنافس من خلال عجز الإنسان عن الإفصاح والقول بسبب الخوف من العقوبة، والرغبة بعدم التصادم أو الإحباط النفسي وعدم القدرة على التعبير. وهذا سينعكس بالضرورة على علاقة الإنسان بالمعرفة والجمال والطبيعة حيث تسود علاقة استهلاكية وظائفية خالية من الإبداع، لذلك نجد في المجتمع الفرعوني القديم والمعاصر غياباً واضحاً للإبداع. فأي جنوح نحو المستقبل عملياً أو فنياً أو أدبياً يشكل بالضرورة أداة تهديد للسلطة  التي تحاول أن تصوّر المستقبل بلون الحاضر لتتمكن من إحكام قبضتها على المجتمع والحد من طموحاته. السلطة الفردية هي نموذج أو مثال لحكومة الطغيان، وهي امتداد لطبيعية حكومة الوالي، السلطان، الخليفة، الذي جابه بشكل عنيف أي نشاط إبداعي ينبثق عن روح الأمة وتاريخها في الوقت الذي فتح الدولة كسوق للاستيراد.

انطلاقاً من هذا الفهم أستطيع القول أننا لا نملك مسرحاً عربياً بل نملك معماراً تقدم فيه العروض المسرحية. وبكلمة أخرى ليس هنالك في عصرنا الراهن مسرح عربي، بل يوجد مسرح يقدم في البلاد العربية. باستثناء ذلك تبقى محاولات استطاع بعضها أن يتخذ الموقع الملائم في صدارة المسرح الرسمي، والبعض منها أقصى وأخرس إلى حد بعيد.

ومن بين تلك المحاولات نخص بالذكر المسرح الاحتفالي لاسيما منظره الرسمي الكاتب المغربي، عبد الكريم برشيد الذي اصدر ومجموعته اكثر من أربعة بيانات مسرحية وكتابا جماليا تحت عنوان (حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي) استفاد فيه برشيد من التجارب التي سبقه إليها الفنانون العرب في حقل استلهام التراث العربي وبالذات على الصعيد الشكلي كعروض الطيب الصديقي وقاسم محمد وفواز الساجر وكرم مطاوع وسعد الله ونوس وعز الدين مدني… الخ هذه التجارب لم تأخذ من التراث العربي والإسلامي إلا الحكايات والأزياء وغيبت في معظمها العقل العربي وآلياته التي أنتجت تلك الحكايات والقصائد والمواقف، فبينما انصرف الفنان والكاتب العربي لاستلال هذه النماذج التراثية                 ( بمجالس التراث والحلقة والساهر والديوان) أغفلت هذه العروض إسقاط الوعي المعاصر على التاريخ بحيث حوله العرض المسرحي إلى متحف يغيب عنه الوعي الراهن. وعلى جانب ذلك أهمل هؤلاء المسرحيون كشف النظام العقلي العربي  وتعاملوا مع التراث معاملة المغترب السائح المندهش بغرائبيته، وذلك جراء الهوة التاريخية وهوة الوعي التي تفصلهم عن هذا الإرث. بينما كانت الضرورة تقتضي البحث عن بنية العقل والخطاب الذي انتج هذا الإرث والعمل على إحيائه وبعثه من جديد عبر نصوص وعروض تنتمي إلى عصرنا معبرٍ عنها بآلية خطابنا الخاص (باستثناء كتابات سعد الله ونوس الأخيرة التي عالجت العصر بإطار معرفي مدهش).

وبذلك تأتي تنظيرات برشيد الذي يطمح إلى أن يجعل من كتاباته اقرب ما يكون إلى (كتاب فن الشعر لأرسطو والذي يعد من أهم كتب الدراما الإغريقية، الذي استند إليه الفنان والدارس الأوربي المعاصر في تطوير مسرحه) إلا انه وعبر جميع تنظيراته اغفل حقيقة تغييب السلطة المعاصرة للفرد بوصفه كائناً مبدعاً، وفي الوقت الذي يدعو فيه إلى  مسرح الاحتفال الجماعي، فأنه يدعو لانصهار الفرد داخل الاحتفال والحفل إلى الحد الذي يغيب فيه تفرده ووعيه، وبذلك فإنه يسوغ للسلطة مشروعها عبر الاحتفال المسرحي، واستطاع أن يصل بنصوصه وتنظيراته إلى الواجهة الرسمية مادامت هذه النصوص تهدف للغاية نفسها التي تعمل عليها السلطة المعاصر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ونستطيع القول أن المسرح الاحتفالي الذي استشرى في المسرح العربي بشكل واسع ما هو إلا وليد مشروع السلطة التي تحاول تقمص صفة المعاصرة بينما تعيش بروح سلطة الماضي، حولت العصبية القبلية إلى عصبية نخبوية، والسلطة المعاصرة هذه عبر احتفالها السياسي والثقافي، تعمل على تذويب الفرد ضمن قطيع يكون السيف الذي يعمل على تحقيق أهدافها وحسب. وهذا يعني أن السلطة ونظرية الاحتفال تؤكد بشكل حاسم بأننا لم نخرج من الصحراء إلى الحياة المدنية المعاصرة بعد وهذا ما يتقاطع ومفهوم الإبداع الذي يقوم على الفردانية المتبصرة. حيث تحاول الذات المبدعة أن تجعل من كشفها الفردي حركة موج وصدى تؤثر في حركة ووعي المجتمع الكبير، فليس الإبداع إلا حركة احتجاج توجهها الذات ضد أنماط الحاضر لتحول إلى حركة بشرية تتجه نحو المستقبل. الإبداع حركة فرد داخل مجموع يتجه نحو المستقبل، فيما تحاول السلطة القبلية المعاصرة شده إلى الوراء عبر التغني بالماضي، بوصفها امتداداً مشروعاً له، وأي خرق لهذا الامتداد فإنه يعني بالضرورة اعتداء على الإرث والأجداد هذا كله يؤدي في النهاية إلى توقف وموت الإبداع وبالتالي غياب الفرد وفي أمة تحاول عبر برامجها السياسية والثقافية تغييب الفرد كمبدع، كيف يمكن لنا أن نطالب بهوية مبدعة معاصرة وفاعلة لنشاطنا الثقافي؟ وفيما تحاول القبلية المعاصرة شد الماضي إلى الحاضر وتغييب الحاضر بالماضي (الماضي شكلاً لا مضموناً)؟ استطاعت الاحتفالية أن تنمو في مسرحنا وبشكل أدى إلى اغتراب المسرح عن همومنا وتحولهُ إلى متحف أحجار، فيما ينهض الفعل المسرحي الأساسي على قاعدة التكاشف الساخنة والطازجة.

ومن التجارب المسرحية الناجحة تجربة مسرح الحكواتي في لبنان التي يترأس بحثها وعملها الفنان روجيه عساف، استطاعت عبر احتجاجها على الواقع والماضي أن تصل إلى مسرح فاعل يؤثر في المتلقي إلى مدى بعيد. فهي لم ترجع إلى الماضي بوصفه إرثاً متكاملاً ومقدس البنيان، بل أخذت منه قيمه العقلية والأخلاقية وبناه الاجتماعية تاركة حكاياته وأزيائه لتتجه إلى الشارع المعاصر وتأخذ حكاياته الراهنة من ألسنة الناس مباشرة، وبالتالي فهي لا تتقوقع داخل الورشة المسرحية وكتب المسرح الغربي بل تتجه مباشرة إلى المتلقي بوصفه هدف الإبداع، وترجع إليه عبر عرض جمالي يقتبس قيمه من التقنيات المعاصرة، مرتقية بحكايات الناس إلى مستوى جمالي جديد ومتقدم. وهذا يعني أن فعل الابتكار والمعاصرة والتماس الحقيقي بين المتفرج والعرض يتحقق كله عبر التوظيف المدروس للإرث وهوية الأمة، بلغة راهنة لا تتوقف عند المألوف بل تتجاوزه إلى المتخيل والفنتازي الذي سيعمل على الارتقاء بذائقة ووعي المتلقي، بعيداً عن أهداف المؤسسة السياسية. مسرح يتجه من الفرد إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى المسرح. والحكواتي مسرح يتحرك ويتقدم مع تقدم وتحرك المجتمع فهو ينفعل ويتأثر دائماً ببيئته طالما بقي مرتبطاً بإرثها وتطلعها الراهن إضافة إلى مغامرة التفرد بإحداث خلخلة في الوعي السائد والذوق العام والارتقاء دائماً به إلى الأمام ليتحول، وعبر المزيد من العروض، إلى وعي عام وذائقة شمولية متقدمة.

 

مسرح ينتمي إلينا

بعيداً عن الانتماءات الضيقة نستطيع أن نستشف من ظاهرة تعازي عاشوراء أبعاداً جمالية خاصة بمسرح ينتمي إلى هذه المنطقة من العالم ينطلق من ارثها العقائدي ويعبر عن قيمها الجمالية، فإذا ما عرفنا أن مسرحية " مأساة اوديب" بوصفها التراجيديا الرسمية لدى الإغريق ظل الشعب اليوناني، لمئات السنين، يتهافت في موسم الربيع على مشاهدتها والتطهير من خلالها، فأن ذلك يرجع إلى حد بعيد إلى تبني السلطة اليونانية لهذه التراجيديا دينياً وسياسياً وتكريسها كدرس في الأخلاق لبناء الفرد اليوناني، إلى جانب كونها تسوّغ قهر السلطة بوصفه قضاءً محتوماً يعتبر الخروج عليه جريمة سينتقم القدر من مرتكبها لا محالة.

تأتي التراجيديا الحسينية لتقدم، عبر مئات السنوات، بوصفها الإرث الثقافي للشعب العربي وبكونها ثورة لم تصل إلى نهاية محددة، ثورة مستمرة ضد عبودية الذات وضد تسلط المادي الدنيوي واحتجاجاً قائماً ضد قوى الشر والقبح، إلى جانب تحريضها المستمر ضد تأليه العرش السياسي. وهي بذلك درس أخلاقي وجمالي في القدرة على التضحية بالحياة ومقدراتها مقابل الشهادة بوصفها الحياة الأكثر طهراً وغنى ورقياً. من هنا اكتسبت الظاهرة الحسينية ( العاشورائية) صيرورتها الدائمة في مخاطبة الأزمنة. هذا من جانبها المعرفي، أما في صياغتها الجمالية فهي تستند إلى قيم تكاد تنفرد بها على جميع المذاهب المسرحية وأشكالها القديمة والحديثة. ومن هذه القيم:

1-جمهور العرض: مجموعة من الناس يأتون بدافع المشاركة في هذه الطقس لتهذيب النفس وتنوير العقل، وبذلك يغيب مفهوم          (الفرجة المسرحية) الذي يتصف به المسرح، فالمتلقي عبر عروض الفرجة مستهلك، بينما في التعازي يتطور المتلقي بالاحتجاج على ذاته أولاً وعلى القيم الدنيوية‍ المادية والاستهلاكية.

2-مجموعة المؤدين: ولا نقول الممثلين حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال تقمص شخصيات الشهداء، ولذلك فان المؤدي يعلم انه ليس معنياً بتقمص الشخصية إلى حد تغييب ذاته وراءها. والمتلقي يعلم مسبقاً أن المؤدي (وغالباً ما يكون أحد الأصدقاء أو الجيران)  هو ذات مؤمنة تنطق بلسان حال الشهيد أثناء الواقعة، وهذا بحد ذاته فن أدائي ليس له شبيه في مدارس التمثيل المعروفة.

3- مكان العرض: وهو غالباً ما يكون وسط الأحياء الشعبية أو الأسواق وأحياناً تستغل باحة المسجد لأداء الطقس العاشورائي، وبذلك يغيب المعمار الأوربي الخاص بالمسرح كمكان تغترب داخله الذات عن الحدث، ذات المتلقي المبدع. أما في الفضاء الطبيعي فإن المؤدي والمتلقي يلتقيان في منطقة الحياة الراهنة الحقيقية من دون تقنية مخادعة أو ديكورات مصنعة. (يقدم الطقس في مساحة مدورة تتوزع حولها الخيام والجمهور وينتصب وسطها منبر المعلق) والمكان هنا تجريد لمكان أخر في الذاكرة، مكان يحيل إلى أمكنة مترسخة في ذات المتلقي(المكان التاريخي للحدث) المكان المعاصر لحدث معاصر يشبه من حيث الجوهر فكرة مكان الحدث القديم، وهنا يدخل المكان كعنصر فاعل في إسقاط الحدث التاريخي لواقعة الطف على الزمن المعاصر. ويكفي أن يتأمل المتلقي في الأحداث ليجد صورها منعكسة على وقائع الاضطهاد التي يعيشها، وبذلك فان تجسيد التعازي يتميز بهذه السمة، كونه فعلاً مسرحياً داخل المكان الطبيعي، وتجسيداً حراً وغير مقنن للعقل والمشاعر، بحيث تتحرك نتائجها لدى المتلقي في كل اتجاه... اتجاه الذات والمجتمع والسلطة على حد سواء.

4- طريقة التقديم: يبتدئ المشهد عادة بالتعازي بصوت المعلق وهو يشير إلى طبيعة المشهد بحذافيره كما جاء في كتب التاريخ (يتقدم فلان ويواجه فلان ... يقول كذا فيجيبه الآخر بكذا ...) وبعدها يبدأ المؤدون بتجسيد المشهد فعلياً وعند نهايته يتولى المعلق التعليق على المشهد بالقصائد والأقوال الشهيرة ليشحذ مشاعر المتلقي. هذه الطريقة في تقديم المشهد المسرحي حقيقة لا نجد لها شبيهاً في تاريخ المسرح، كونها تحطم قناع الإيهام بالفعل المسرحي كما يحدث عادة في المسارح، إضافة إلى تجسيدها الحدث من دون تقمص ومن دون تغييب ذات الممثل (المؤدي) وأخيراً بالتعليق بشواهد التاريخ نثراً وشعراً. وهي طريقة لو تسنى لنا أن نكتب بها نصاً معاصراً يعالج مشاكلنا الراهنة على أن يُقدم بالأسلوب الجمالي نفسه لاستطعنا أن نصل إلى نتيجة فريدة من نوعها. وأشير هنا إلى تجربة خاصة قدمناها في العراق عام 1989 بعنوان " أيها العالم الغريب وداعاً " وحدث أن اشتبك الجمهور بالمؤدين في نهاية العرض وبطريقة تلقائية. وهذا يبقى أن نشير إلى أن الظاهرة العاشورائية لو أمكنت دراستها وتعميقها جمالياً ومعرفياً لاستطعنا أن نؤسس مسرحاً ينتمي إلينا ينطلق من اللحظة الراهنة ضارباً جذوره في عمق التاريخ، متطلعاً إلى الأمام. انه مقترح أولي، فالظاهرة العاشورائية لا يمكن الحديث عنها بهذا الإيجاز.

 

معالم قرآنية

يقدم القرآن الكريم بوصفه منهج حياة متكاملاً ملمح لنظرية جمالية لم يتفرغ لها للأسف علماؤنا ولا سيما المختصون بتفسير القرآن، وذلك لاستنباط معالم النظرية الجمالية التي تتضمنها السور الكريمة فيه. وإذ نعلن أسفنا لعدم اهتمام علمائنا بهذا الجانب الحيوي من النظرية الإلهية فذلك لأننا نجد أن المنهج الإسلامي اتجه إلى البحث المعرفي المكتوب وإلى أسلوب الخطاب المنبري بحيث أهمل الثقافة المرئية ( المسرح، السينما، التلفزيون، الفيديو، اللوحة) وقدرتها على نشر الفكر بشكل واسع وسريع يتخطى حدود الكتابة والمنبر.

ففي الوقت الذي حاولت فيه الفلسفات والمناهج الوضعية والديانات التوحيدية الأخرى- كالمسيحية واليهودية- الاستفادة من الثقافة المرئية وتسخيرها لنشر أفكارها وبشكل احتجاج حتى على بنى مجتمعاتنا الإسلامية من خلال الفن البصري السينمائي والتلفزيون والمسرحي، بقي الفكر الإسلامي بعيداً عن هذه القناة الفاعلة والمؤثرة في الحياة المعاصرة.

وفي الوقت الذي استطاعت فيه فلسفات كالوجودية والماركسية وأديان كاليهودية والمسيحية، إيجاد مسرح وسينما وأدب خاص بها ذو معالم جمالية ومعرفية معروفة ومحددة تصارع المناهج الأخرى وتدعو لنفسها عبر المعرفة المرئية وسحر جمالياتها، بقي الإسلام رغم تكامليته يقف بعيداً عن الخوض في هذه الثقافة وتسخيرها بوصفها الأداة الأسرع في نشر الفكر والأكثر تأثيراً لاعتمادها الصورة واللون والكتلة والحركة في نشر المعرفة.

ورغم فهمنا المحدود للقرآن الكريم نجد فيه بعض الملامح الجمالية التي يمكن من خلالها بناء نظرية جمالية خاصة بالمسرح تبتدئ من بناء النص إلى صياغة العرض وتنتهي بالمتلقي. فالقرآن الكريم يقدم مفهوماً خالصاً للإنسان -المجرد- بوصفه كادحاً في حقل الحياة نحو السماء، وبذلك فهو يضيف بعداً لعلاقة الإنسان بذاته وعلاقته بالآخر والطبيعة بأن يع الذات الإلهية كميزان وكهدف لهذه العلاقات، كذلك فإنه يقدم نماذج خاصة في معالجة الشخصية الإيجابية - نماذج الأنبياء والمؤمنين- وكذلك معالجات خاصة في طرح الشخصيات السلبية والشريرة- كالفرعون وقوم لوط.

كذلك فإن القرآن الكريم يطرح، من خلال سوره الكريمة، أمثلة على طبيعة الحوار " الحوار بقصد إلقاء الحجة، بقصد الهداية، بقصد الترهيب، الترغيب، الحوار السلمي، الحوار الوجداني... الخ". ومن خلال دراستنا لهذه النماذج يمكن لنا أن نبني الشخصية المسرحية وفقاً لمفهوم القرآن ونضع على لسانها الكلام - الحوار- بوصفه كشفاً عن الذات إزاء الآخر.

كذلك فإن القرآن الكريم يقدم رؤية خاصة في سرد الحدث -الأمثلة والقصص- تعتمد الإيجاز والبلاغة العالية دون أن يعنى في وصف التفصيل، فالحدث القرآني ذو هدف أخلاقي أو علمي يوصف بلغة جمالية عالية بقصد شد الإنسان إليه وبالتالي إثارة دهشته العقلية والجمالية. وفي سورة يوسف خير مثال على طريقة السرد وبشكل أيجازي معجز، حيث تسرد السورة على رغم قصرها لسنوات وإحداث عدة من خلال مونتاجية السرد والقفز بشكل بليغ على التفاصيل إلى كبريات الأحداث، وبالتالي يمكننا بناء المشهد المسرحي وبقية المشاهد وربطها إلى بعضها البعض بأسلوب قرآني يختلف إلى حد بعيد عن البناء الأرسطي المعروف وبقية الأشكال المعروفة في النص الأوربي الحديث.

يقدم القرآن الكريم الإنسان والحدث على المكان والزمان، فهو لا ينصرف إلى وصف المكان ولا إلى تحديد طبيعة زمان الحدث إلا في جانب التوثيق. وفيما يغرق المسرح الحديث والقديم في المكان والزمن بوصفهما بطلين إلى جانب الحدث- الصراع- الإنسان - الشخصية- إلى حد يصبح فيه الخطاب المسرحي خطاباً محدوداً يفتقر إلى الشمولية وإلى القدرة على جانب محاورة الإنسان العالمي كونه يتقوقع داخل حدوده المكانية، وطبيعة المكان بالتالي تؤكد على بنية الحدث وبالتالي عدم مطلقية الخطاب المعرفي، كذلك فإن ارتباط النص بزمن ما يعني بالضرورة تقوقعه داخل الحيز الزمني وعدم قدرة خطابه على التخطي ودخول الأزمنة الأخرى والتأثير فيها، بينما نجد في نموذج القص القرآني المثال على شمولية الحدث وشمولية الخطاب، كونه يجتاز التفاصيل إلى جوهر الشكل الإنساني ليصوغ منها مقولة تعبر حدود الأمكنة وتؤثر على الأزمنة. وهنا يجدر بنا أن نشير إلى تفرد المشهد القرآني في وصف الأحداث وبنائها، فهو لا ينصرف إلى وصف حياة أبطاله عبر نظام الاستهلاك المعروف في النص المسرحي والرواية بل يتجه مباشرة لبناء مشهد نموذجي متكامل يقدمه من خلال الحدث الجوهري -الخطاب المعرفي- إلى جانب زج جميع التفاصيل داخل هذا المشهد ليكتمل الإدراك به. وبذلك نستطيع القول أن المشهد القرآني مشهد موجز ومثالي يقدم الحدث كنموذج كلي وشامل لا يستغرق في التفاصيل.

هكذا يمكن بناء مشاهدنا المسرحية المعاصرة وفق رؤية مبنية على النهج القرآني وجمالياته الخاصة في اللغة وفاعليتها الشعرية وزاوية الالتقاط والتقديم، وكذلك طبيعة البناء الموجز بالقفز على الثانوي والتفصيلي إلى النموذجي والكلي الشامل الذي يمس حياة شعوب الأرض على اختلاف أمكنتها وأزمنتها.

إنه مقترح واسع وكبير لا يمكن أن نعالجه في هذه المعالجة المختصرة بقدر ما أردنا أن ننبه إليه المهتمين بمشروع المسرح العربي، وتبقى هذه المقترحات إشارة لبحث أوسع من حدود الكتابة النظرية ذلك أن النظرية الجمالية لم تزل نظرية بكراً لم تمتد إليها يد العلماء والفنانين العرب بعد، وهنا حاولت أن أثير المهتمين بها وحسب.

 

1993

 

 

  تتناص هذه التأملات مع مراجع مسرحية ومعرفية عربية وأجنبية عديدة، ولأنها تحاول أن تقدم رؤية جديدة مستقلة في طور التشكل والنمو، فإنني لم أوثق لهذه المراجع كما يفعل عادة الباحثين في مجال الدراسات العلمية وللضرورة كان لابد أن أشير إلى بعض هذه المراجع التي تنتمي لها هذه الاجتهادات ومنها (المسرح الفقير/المكان الخالي/النقطة المتحولة/المسرح وقرينه/فن المسرح بجزئيه/فن المسرحية لغوردن غريك/ المسرح الذهني/مقالات متفرقة لماكس راينهاردت/ نظرية المسرح الملحمي/ حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي/ الأقنعة و المدينة/ بيات لمسرح عربي جديد/ الظواهر المسرحية عند العرب/ الإسلام  والمسرح... الخ)

 

·               نشرت هذه التأملات في الصحف والمجلات التالية :

الجمهورية والقادسية والطليعة الأدبية في بغداد/ مجلة فنون وملحق الثورة الثقافي في دمشق/ التجريبي القاهرة/ رسالة الأمة والبيان في الدار البيضاء/ صحيفة نداء الرافدين ومجلة النور، عراقية تصدر في الخارج.

 

 لا يفوتني أن أشكر كل من ساهم بدعم هذا المشروع ودفعه إلى النور وأخص د. بثينة أبو الفضل التي بذلت جهداً في تصميم الغلاف والأخوة في مكتب ( الآن ) الذين صبروا معي طويلاً .

  

عنوان الكتاب باللغة الانكليزية

   MODERN THEATRICAL RITE

 THEATRICAL  STUDY

 BY

HADI AL.MAHDI

 1997

عودة الى الرئيسية الطقس المسرحي
دير الملاك كتابة السيرة على الماء ماكتبته الصحافة تحت الطبع نصوص خشنة الحياة تبدأ غداً مواقع الآن مفتتح