الطقس المسرحي المعاصر

تأملات وسع اجتهادي

1997

جميع الحقوق محفوظة للمؤلف

تصميم الغلاف

د. بثينة أبو الفضل

التنضيد والإخراج الفني والتوزيع :

رام للخدمات الطباعية

هـ 5122759   

ص.ب: 7278

الطبعة الأولى  1997

  

 

    مبتدأ

 

-1-

المسرح قرين الطاعون، ذلك أنه يشتبك مع الذات الإنسانية بسرعة خاطفة، يهيمن عليها ويستدرجها للاقتراح والبوح، ذلك أنه فن تحريضي، حوار مفتوح وقدرة لا حدود لها للإصغاء والانفتاح على الآخر، فيه من العقائد الولع إلى حد الحيرة والتيه، ومن العلم القدرة على إنتاج المزيد من الأسئلة.

و المسرح إذ يحتضر الآن، فذلك يرجع لاحتضار كل الأشياء الجميلة      و الجوهرية في حياتنا المعاصرة، جراء تقدم الشيء على الكائن، جراء زحف قيم السوق والاستهلاك والابتذال على العمق في ممارسة الفعالية الإنسانية في حقل الوجود، وما الكتابة والانشغال بالمسرح إلا تمسك بمعجزاته التي لم يعد يؤمن بها الكثيرون -لسوء الحظ- إيماناً بسحره الخلاق، إيماناً بسر الوجود الفاعل، فالعمل المسرحي عناق حقيقي لجوهر الحياة.

 

-2-

منذ ثمانية عشر عاماً وأنا أعمـل في المسـرح بصفـات عـديـدة (ممثل، مخرج، كاتب)، وقد ألهمتني تجربتي هذه مجموعة مفاهيم حول الصياغة الجمالية والمعرفية للعرض المسرحي، وعلاقته بالمتلقي، مفاهيم تستند لمرجعيات مختلفة (وبالمناسبة فإني لم أورد أي مصدر ولم أهمش لأي مرجع ، ذلك إن تأملاتي هذه لا تأخذ طابع البحث العلمي بل تنحو نحو الاجتهاد والافتراض الجديد)، وها أنذا أضعها في كتاب كمقترح لحوار    لا ينتهي بأجوبة محددة، ذلك لأنني أؤمن وبشكل لا يخامره الشك أن المقترح المسرحي لا حدود له، وأن التجربة الحقيقية تنمو وتتكامل داخل الفضاء المسرحي، وتمتد إلى عروق الحياة بكل اتساع تفاصيلها.

 

-3-

أكتب وأواصل حلمي مستظلاً بنور القديسين:

آباء المسرح العربي، كتاب ومخرجين وممثلين

إليهم أهدي ما اجتهدت.

                                             

 هادي المهدي

دمشق 1996

 

الفصل الاول : فرضيات

 

 .1المسرح يغادر المنصة

 

أمراض العقل/ قيود التسمية

مفتتح:

 

أرسلوني إلى المدرسة كي أتعلم القراءة والكتابة لكنني لم أتعلم  سوى القراءة، وهيهات أتعلم الكتابة بالحروف والكلمات، لذلك صرت أهيم بحثاً عن حروف أخرى للكتابة، لذلك عشقت كتابة الجسد والصوت، ذلك أنها خارج برود الحروف، إنها تنبض، تتنفس، تحترق الخلايا فيها ليحضر القلب والعقل والروح تماماً، إنه المسرح الذي طوقني بسحره الأبدي ذلك أنه لغة حية تجعلني أتلامس مع الإنسان وأنفذ إليه وأتحد به ربيعاً أو حريقاً، إنه المسرح نوع من أنواع الصلاة...

من مذكرات مخرج

-1-

في سكون الأشياء وحدتها الثابتة، وفي تحول الأشياء إلى انتظار مميت وكأنما الزمن ينتظر بعضه الغائب المستتر، والأمكنة تود لو غادرت أماكنها وتنفلت، الأشياء ساكنة في حركتها متوقفة متذمرة، لذلك تحول كل شيء في الكـون المعلوم لدينا إلى اسمه، إلى شـروط وجوده، حدوده كيانه (وأعني قيوده) تحول كل شيء من الحرية العائمة إلى التسمية والتظاهر المعلن والمتخفي عمداً، ابتداء من اللغة التي أخذت أصواتها وحروفها وشكلها "مثال/ هذه اللغة التي أكتب بها الآن ما هي إلا كلمات دالة على شيء هو نفسه، متوقف، معلوم و معلن" وهو سر اضطهادها ومصادرة حريتها وفضح سريتها وتكسير أجنحتها وفض عذريتها الأولى بتسييج لا محدوديتها ولانهائيتها الفظة "حيث كانت بلا هوية ولكن حينما عانقت هويتها واتصلت بتسميتها من خلال الكشف العلمي سكنت إلى حد الموت" وصارت على ما هي عليه الآن المادة، كذلك فقد تحولت من أن تحيا لنفسها وبنفسها منطوية على لانهائيتها السعيدة إلى المواظبة الرسمية المملة والوظيفية كمفرده في دورة نظام الطبيعة التعسفي.

ذلك هو المرعب "السكون" وعلى العكس تماماً مع ما يدعونه من حرية وحركة داخلية فيزيائية للمادة، فكل شيء موظف /فاعل ومتفاعل/ رئيسي وعامل مساعد لعوامل النظرية الكونية ضمن حدود إمكانياته لذلك وجد الضحك لأنها السعادة وهنالك الموت لأنه التفسخ والعطب، وهناك أنا الذي أتوقف منتظراً بوق حراً لم يأت دوره بعد ولم يؤد وظيفته بعد، سيزعق يوماً ما لينقذ العالم من سكونيته، هذا البوق الذي لم ينتحل نفسه ولم يوظف ولن يوظف إلا مرة واحدة لا ماضي لها ولا مستقبل، لم ولن يعي نفسه كما يهيئ نفسه مرة واحدة، يندلع هكذا ودون سابق إنذار وينتحر إلى حريته الأولى ذلك أنه يحيا خارج المدرك والمقيد والمحدود في حياتنا هذه وقوانينها الساكنة، إنه بوق إسرافيل الذي يأتي ليدمر السكون،  سكون الامتحان الصعب لوجوب وجود الكون، ليعم الضوء وتبث الحركة اللامعُرّفة وليمتلك الإنسان والمادة بل وحتى الطاقة حرية الروح/ الخارجة/ الناكرة/ والجاهلة حدود الجسد الزنزاني (قبو التعذيب السري القاهر لحريتها الراغبة بالشيء فيكون كما شاءت).

أرى أنه يتوجب علي مرة أخرى أن استمر من ذلك الفن السند بادي الذي يملك رخاً للتنقل من جزيرة لأخرى ومن مغامرة إلى ثانية، هفوات وتهويمات وأقول له "أنى لك بـ رخ  إسرافيل الذي ينقلنا إلى أرواحنا المحلقة، إلى روحك التي هي أنت، تحلقان ليكون كل شيء على ما يرام ومتحرك.

 

-2-

إن ما أعنيه بسكونية الأشياء وحريتها اللانهائية مثل إلقاء القبض عليها "بالتسمية والوظيفة" إنما هي واحدة من إشكاليات الاكتشاف الإبداعي "تسمى بأمراض العقل وقدرته على تسمية وتأطير الأشياء الكامنة والمستترة وانتهاكها بإعلانها جزءاً من المعادلة الكونية" فيما كان العالم قبل الآن سائل متجانس، متواصل، الشجر بالماء بالسماء "في عين البدائي الجميل" وتلك النظرة البدائية الأولى هي نظرة فردية، يتفرد بها كل كائن بدائي عن الآخر وبل هي تتقاطع بالضرورة عن العيون والرؤى الأخرى ذلك أنها متحولة ومتغيرة بالنسبة للفرد الواحد فكيف بالمجموع؟

أما بالنسبة لنا نحن المصابين بأمراض العقل (الإبداعية والكشفية) سجناء المعرفة والتدبير وضرورات الحاجة، فقد اعتقلنا حرية الأشياء بتسميتها وتعريفها، قمعنا الرؤيا المتحركة والمتغايرة، وبذلك تم وئيداً... وئيداً تأثيث العالم بالموجودات والأسماء "المواد/ الفعاليات" فضججنا بها ومنها، ولكن ثمة ريب آخر.

 

-3-

ليس هناك إلا ثمة تذبذب في سكونية الأشياء وكأنها تتحرك مبرمجة مرة أخرى "نحو مستقر لها"، هذا التذبذب هو الآخر يتهندس وفق نهاية محدودة، معلنة وواضحة "لا بد منها" تسير باتجاهها المادة عنوة وبإرادة ميتة وباردة، بالضد من رغبتها الجوهرية، حيث لا تمثل بالنسبة لها تلك الذبذبة إلا سعادة الامتحان وسعي لاقتراف الخطيئة محملة بشعور الكراهية والعناد ، ذلك الشعور الذي جلبت عليه. فلا تستقر الأشياء في خطيئتها ولا تفرح بندمها -إنه الشقاء- شقاء من نوع مزمن، شقاء السكون المزمن المتذبذب/ شقاء السكون المتحرك الثابت/ أو الثابت المتحرك، إن تلك السكونية المتحركة والتي لم تستطع بالرغم من كل سعيها للخروج عن مضمارها والانحراف عنه نحو مجال آخر "غير الخطيئة والندم"، قد يبدو لنا هو شيء واحد فقط "ذهاب وإياب منسوخ ومتكرر" لكنه في الحقيقة يتخذ أشكالاً عديدة، أنفاق ودهاليز، أساليب واتجاهات متعددة، تبريرات وسلوكيات مختلفة، شعارات متجددة تتجه نحو قالبها (شرطها الوجودي والتاريخي) لتتخذ هيئتها النهائية.

إنه خط يحمل خطوطاً تعسكر جميعها في الخطيئة "اقتراف الهوية والتسمية والوظيفة"، حين ذاك تكون مجبرة على التوقف والتقوقع. لذلك فإن كل حركة " تذبذبية" وإن حملت براءة القصد وشجاعة الاختراق في حدود المدرك الكوني لن تكون في النهاية إلا ارتكاب خطيئة بالتطاول والرجوع والجمود إلى مستقر القاموس.

منذ أن اعتنق "آدم" فن وفضول التطاول بمعرفة أسماء الأشياء وإدراك ماهيتها وحدود فاعليتها الكونية وختمها أخيراً بشمع الخطيئة (امتلاك العقل والحواس والرغبة) أي القدرة على السكون والتجمد والانحدار المستمر ومنذ الأزل نحو أسفل سافلين.

 

-4-

ثمة استثناء وحيد، تستوقفني تجربة ذلك الصوفي الساكن الذي توصل إلى نداءه  الداخلي عبر أزمنة وأمكنة خاصة وصفاء روحي ومنطق آخر (سماوي أو وضعي) ذلك النداء الذي يسير من الداخل إلى الخارج (الخارج، المتفوق، الأعلى) ومن المتفوق الأعلى إلى الداخلي البسيط، يتسلح الصوفي بسلاح ذاتي مقتدر على تبني سكونية الأشياء البدينة والروحية الدائمة، وهكذا انفلت الصوفي أخيراً نحو حريته (حركته الداخلية الفذة واللامسماة) انتمى إلى إيقاعه اللامنتمي واللامتنهي، يفنى الصوفي وتختفي معالمه المادية (رغباته) ويتحول إلى اللاكتلة أو اللامادة واللإحساس المعلوم ليحل شاهداً وخليلاً في عالم المطلق، رائياً ومبتكراً اللامعلن واللامعروف واللامحدود، إضافة إلى أن كل صوفي يتمتع برؤيته وحساسيته ومرتبة مختلفة عن كل صوفي آخر لذلك لا يوجد اتفاق على تسمية أو تعريف ما، فهم "كل في فلك يسبحون"

أما والحالة هذه فلا يمكننا إلا تمني اختراق العقل بإنقاذه من أمراضه لاكتشاف ما عجزت عنه "السببية" العلمية والعقلية.

 

-5-

أما في المسرح...

إن صدم سكونية الأشياء (والأفكار بالتأكيد) وتوظيفها داخل ذاتها المعلنة وهدم لاحركيتها وكسر تذبذبها اللامستقر بين الخطيئة والندم وخروجها الجزئي، ذلك أن التصوير الفوتوغرافي بات سقيماً، كذلك بات قلب المفردة أو الفكرة أو الشكل إلى عكسه عملاً هشاً للغاية (إي قلب الشروق غروباً، الموت حياة، الغضب تسامح) ذلك أنها حلول وتغريبات جاهزة وتحمل موتها سلفاً كونها تتعكز على الأصل (الشروق، الموت، الغضب) وبدون الإشارة إلى الأول لا يمكن إنتاج الثاني، بل ولا يمكن أن يكون هذا الثاني بدون الإشارة إلى الأول، وبالتالي فهو عرض لإمكانية معوقة تعتقد وبشكل متبجح، أنها تقلب وتغاير الأصل والصور أو الواقع، وتعتقد بأنها قلبت المضمون والمفهوم وفاجأتنا بولادة جديدة لها، لكنها تبقى ولادة تبعية وهامشية، بينما ما نسعى إليه هو الذهاب نحو حرية الروح الأولى والتخلي عن الرؤية التي تبحث في حدود حاجاتنا والتي حددت مستوى الاكتشاف لطبيعتها البهيمية المغلقة.

أما المسرح القادم، هو المسرح الذي يبحث ويعبر عن المطلق الكوني الشمولي، مسرح الإنسان (الجسد، الروح المعرفة، الجمال) مسرح يتجلى فوق المعاني والصور بامتلاكه ناصية البوح والكشف اللانهائي السعيد والاتحاد بذوات ومكامن البشر. إن ما ندعو إليه هو رحلة عكسية تماماً لحفر وتنقيب التاريخ (تاريخ العقل والمعرفة البشرية) بل هي دعوة للعودة إلى حرية الروح والعقل الأولى، حرية البدائي(مختارين ذلك لا مضطرين) وبعين واعية وقلب مدرب (على خلاف البدائي الهائم، ذلك أننا ننكر المعرفة بعد هضمها، نحيّد عن المفهوم والشائع والمحدود والمستهلك.

وما هذه المعالجة إلا اقتراح نريده لمسرح يكون، من التأليف إلى الإخراج والتمثيل وأخيراً المشاركة بالتلقي والإنتاج، إن خرق سكونية الأشياء يتم صدمها بسكونية وبرود ولامبالاة مفاجئة (من نوع وحدس آخر) غير المعتاد الذي نتداوله يومياً (مثال : في التمثيل يمكننا التخلي عن فاعلية الجسد السائدة بالحركة وإطلاق الأصوات والتدقيق بفاعلية الحواس اللامبتكرة واستنطاق الصامت والمخبأ فيها والكشف عن اللامنتظر فيها) وهكذا إلى الإخراج والتمثيل والفكر اللامتوقع واللامنتظر والشكل المباغت، وبذلك تصبح مشاهدة العرض طرقاً مبرحاً وهزاً لشبكية المخزون المعلوماتي للدماغ البشري، ليضيف العرض حروفاً جديدة وصوراً وظلالاً وأفكاراً لم يحتويها ولم يألفها العقل من قبل.

وما المسرح ؟ إن هو إلا فضاء محفز للتحليق الروحي والذهني والجسدي في عالم الألوان والأضواء والأفكار ، فالمسرح لا يكون بالحركة التذبذبية المعهودة "الفكرة الشائعة، الفعل السائد، المجال المفتوح، المسرح الاستهلاكي وهو لا يتجه نحو الحركة الساذجة والشائعة (انتهاك المحرم أوالعرف أو القانون) إنما يتجه نحو الرغبة، رغبة (كن فيكون) وذلك باعتقادي ما يجعل المبدع حامل أسرار وقديس، مصلحة برؤيا مغايرة ومضادة، فهو يرى لا كما يرى الأخر وهو بذلك يضع قدسية وضرورة وجوده داخل المجتمع البشري، إذ أن وجود كمٍ هائلٍ من البشر  (باسم شعب) دون مبدعين روحانيين، أنبياء، ومتصوفة، قدسيين يحلقون بأجنحة من نار، إن هو إلا مجتمع استهلاكي نمطي.

إن المسرح الذي نريده هو الذي يتجه نحو الموضوعية الشمولية السرية للكامن الجوهري في سر الوجود والإنسان والمادة معاً، فالمسرح ( الكتلة، الصوت، الجسد، الروح، الضوء، الموسيقى، اللون، المعرفة... الخ) يعمل على الكشف اللامتوقع واللامرئي برؤيا تقترب وإلى حد ما من خرق الصوفي لحجاب العقل وأمراض التسمية، رؤيا تتحلى بالزهد الثاقب والبرود المتقد لثقب المألوف.

1- إضافة إلى القدرات والمعارف الجمالية والمعرفية يجب توافر القدرة على اللعب الوجداني والشعبي الوحشي والروحي بالنسبة للمثل "الحلول، الدروشة، اليوغا، الانفلات، التوحد، الكشف، البوح" وبالتالي لاختراق الشريك المنتج والفاعل (المتلقي) وذلك من خلال التضحية بالجسد وإحراقه بالمكاشفة الصارخة ليساهم في دفع المتلقي إلى العملية ذاتها.

2- دراسة الإمكانيات والتقنيات وحذف غير الضروري منها وكشف واستعادة عناصر وتقنيات أخرى (مستمدة من الفن الشعبي والتشكيلي) بحيث تكون قادرة على الاستفزاز والتحريض، على التوحد الوجداني أوالاختلاف الجوهري.

3- الكتابة بأحرف من نار وتراب وهواء وماء، بالجسد والدم، بالفعل الروحي الداخلي لا بالزخرف اللغوي للدراما المألوفة.

4- تجاوز النموذج القسري للدراما وتخطي كل ما يتعلق بها من مصطلحات وتعاريف وعلوم مسرحية بنيت عليها (كالمحاكاة والتغريب، طبيعة خطوط الحركة والبناء المشهدي... الخ )

5- العرض المسرحي رحلة جماعية للخروج على مفهوم القطيع لفك مجاهل الوجود وبقوة الإيمان وأعني به القدرة على المغامرة والاحتراق والتضحية وبتوحيد الإيقاع (الإيقاع الداخلي) يمكن أن نتوصل للتكاشف الحر الواعي والبوح المطمئن والمشاكسة المجدية للأنماط والعلوم والمعارف.

-6-

ليس أخيراً...

قد لا تبدو العناصر والبدائل كافية أو جديدة في طرحها، ولكن من قال أن عمليات الإبداع تتولد وتسيير وفق مخطط رياضي صارم أو (سستم) مسبق، كلا إن لكل مبدع طريقته ورؤيته وحساسيته الحرية المتفردة إزاء الكون والحوادث والأفكار والتي قد لا يعبر عنها إلا بالفعل نفسه.

وقد أبدو الآن ذا طروحات أدبية ونظرية وصياغات لغوية، عملية فجة وغير قابلة للتجسيد، وهنا بالتحديد أسمح لنفسي القول: وكيف لي أن أخاطب الأخر واكشف له عن مقترحي الصوري والجسدي والروحي؟ إنما هذا الاعتراض من قبلكم هو بمثابة اعتراف نبيل منكم على أن اللغة الكتابية المأهولة والمعروفة عاجزة عن التعبير الدقيق الطازج، ذلك التعبير الذي يتم بحضور العناصر الحقيقية لغة التجسيد وبحضور الإنسان الذي يشكل حضوراً للحياة الحق ، الطازجة بكل إبداعها وسحرها.

وهكذا فإن أية كتابةٍ تبقى محنطة إزاء نفسها حبيسة إمكانياتها وصياغاتها، ولا اعتقدها إلا وسيلة صالحة للتدوين والإعلان عن القوة التي تحاول أن تكون فعل، الكتابة هي مرحلة انتقالية من الحلم إلى التجسيد وحسب.

 

1995

 .2الطقس المسرحي المعاصر وصياغته

مقترح أولي

 

 للأشياء حياتها الخاصة بها، علينا أن نوقظ روحها، تلك هي المسألة.

غ. ماركيز/ مائة عام

-1-

إ ن أي عمل فني لابد وأن ينتظم في نتائجه "ولا أقول في محاولات بحثه" في نسق دلالي منهجي معين، هذا النسق الأسلوبي والفكري ينتمي بالضرورة إلى تيار أو اتجاه جمالي أو معرفي، أو قد يأتي العمل الفني منفرداً ومؤسساً لاتجاهه الجمالي الصرف. غير أننا نجد أن كل الأعمال الفنية المتقدمة تأتي سياقاتها النهائية متممة إلى تيار أو مدرسة معينة إلى جانب كونه تطور وتغير وتنمي ذلك الاتجاه. ولهذا علينا أن نبحث عن جذور العمل الفني الحقيقية لنعثر ونكشف عن البذرة أو الفوتون الأساسي لروح وجوهر ذلك العمل... ومن تلك البذرات أو القواعد الجمالية والمعرفية يتوافر مفهوم الطقس والذي سنتناوله من حيث إمكانية صياغته بشكل حديث وفعال.

يوجز لنا "غابريل ماركيز" في المقولة أعلاه وببلاغة عالية معنى الطقس الفني وحساسيته وفعاليته، وأجد تلك المقولة تعريفاً كافياً من بين التعاريف التي يطول ذكرها. فالطقس الفني "وبعيداً عن التصورات البوهيمية للطقس الديني أو الوثني والذي يتجه نحو تغذية الجانب الوجداني في الكائن البشري نحو تفريغ شحنات الجسد وانفعالات العقل أي عذابه وآلامه وإشكالياتها ليتطهر من خطاياه" نريد أن نؤسس مفهوماً مغايراً للطقس الجديد "ولا أقول أنه تأسيسنا نحن فحسب بل إنه يشكل استقراءاً عاماً لهموم وطروحات سابقة لدينا كفنانين ومفكرين" والتي جاءت معبرة عن إشكالية العصر الحاضر، فلا يغيب علينا ذلك الواقع الذي يعيشه الإنسان المعاصر في الركن الأخير من القرن العشرين حيث الأزمات الاقتصادية المتكررة، والتهديد الذري العارم، والخلخلة الأخلاقية السائدة، والشك والقلق والغموض تجاه أي انتماء بل وحتى ضياع المعايير العقلية في تقييم النتاج الفلسفي والعلمي والفني والأدبي مما هيأ لنا أرضية هشة سابحة في الضبابية والغموض والاهتزاز تمتلك صيغاً مختلفة من الفنون والأشكال والألعاب وأشكال الأصوات والأنغام والإيقاعات والرقص، فلم يعد الشعر كما كان عليه ولا حتى الألعاب وحتى العلاقات الاجتماعية، فقد تغيير كل شيء. وإن هذا التغيير يتطلب حتماً تعبيراً جديداً أكثر حساسية في الرؤيا والكشف. ذلك أن عصرنا هذا لم يعد فيه "الطوطم البدائي" ولا حتى ( الأقنعة وتلك الرقصات التطهيرية والأزياء والهمهمات) ذات معانٍ إضافية سوى كونها رموز وأثار متحفية تبهرنا جماليتها الغابرة كأي تحف أخرى. وأن محاولة العودة إلى إحيائها لا تشكل إلا قريناً لذلك العصر وما هي إلا عملية (فوتوغرافية) تشابه عمليات تصوير الواقع في الفنون الواقعية الضحلة، حيث يركن هؤلاء الفنانين والأدباء إلى إحياء تلك الطقوس الوثنية الغرائبية لما تمتلكه من إثارة لمخيلتنا المثيولوجية والفلكلورية الوجدانية المترسبة في اللاشعور الجمعي، لكنها تبقى بعيدة عن شبكياتنا العقلية والوجدانية المعاصرة. كذلك كون إحياء تلك الطقوس القديمة وتصويرها فوتوغرافياً لا يملك أية إضافة أو جهد إبداعي أو صياغة جديدة مبتكرة، فهو ينسخ ما هو قديم ومندثر ليس إلا.

لكننا نقف مع تلك الطقوس من حيث المفاهيم وحسب، ومن بين تلك المفاهيم:

1- كونه تفجير للكامن واللامرئي "الجوهري الداخلي" للعالم والروح والطبيعة، أي أن الطقوس في أسمى حالاته إنما هو محاولة لتجاوز " محاكاة الطبيعة" والسطوح والأشكال وحرث لكل ما هو منطقي مبرمج والغور في مجاهيل الأشياء للإمساك باللام توقع واللامنتظر منها. وهذا هو الطقس "من حيث المفهوم" الحقيقي في اعتقادنا وهو الفن الحقيقي أيضاً كونه فن الدهشة القائمة على الصدمة والفزع والحقيقة " الدم، الشعر، الجسد، النبض والحياة، النار والرماد، الموت والانبعاث" في صيغ مبتكرة لم تتم برمجتها أو هضمها مسبقاً.

2- و الطقس مبتكر، كونه يكشف عن الجديد واللامرئي، ليضيف حرفاً جديداً إلى خزيننا الأبجدي المعلوماتي "العقل، والوجدان".

3- كونه تلقائي، حيث يتفجر ويتنفس بروح تلقائية، ويهدد بصدق كشفه  و بوحه الداخلي بتخريق السطح ومجاورة الجوهر وفض بكارته.

4- كونه حيوي حيث أنه يعمل خارج أطر المنطقة العقلية والبرامج الرياضية والعلمية المألوفة والعلائق الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية على حد سواء، منطلقاً بحركته التمردية الجامحة نحو شق صلابته هذه الأطر والتأسيس خارج أسوارها المنيعة للكشوفات الجديدة. إنه ينجز الأشياء خارجها ليصبح الجسد فقاعة والكلمات إيماءة والواقع حلم، الوجوه تستطيل والقواعد تهتز وتتخلخل، إن ميزة "الخلخلة" هي الميزة الرئيسية في الطقس كونها تفكك البناء المتصدع السلفي تنسقه أو تعيد صياغته من جديد.

5- الطقس انتماء، كونه شاهد على العصر ومدوناً له بلغة الفن والجمال النموذجية في متاحفه المتعددة، وبشكل أبدي "متاحف الطقس الفنية والأدبية هي: القصة، الرواية، القصيدة، الرسم، النحت، الرقص". إن أعظم الانتاجات هي تلك التي عبرت عن طقوس عصرها معلنة لنا من خلال تلك الأزمنة المندرسة فضائح وأخلاق وعبقريات و عادات وفنون وسياسات ووعي جماهيرها الغابرة "تلك هي روائع هوميروس ومنحوتات أنجلو ومسرحيات سوفوكلس" تلك الروائع التي حفظت لنا بل مازالت تحفظ وتردد لنا الكثير عن شعوب وأزمنة ووعي تاريخي.

6- والطقس "مشاركة" أيضاً/ مشاركة عامة بلا تحديد حيث ينفجر بدون أن يكون هناك مفهوم سلفي عن العرض والمشاهدة، فكل محتفل له الحق أن يعرض ويشاهد معاً (فالصياد يتأهب للطقس بينما يرسم له الراقص نبوءة رحلته نحو عالم الصيد) وهكذا حتى تسقط كل الأقنعة وتحترق كل الأصناف والطبقات الاجتماعية ويتساوى السيد بالعبد، الكاهن بالراقص، الرجل بالطفل، السيد بالشيخ، يتحد الجميع وتنشأ علاقة فذة بين تلك الكائنات الحرة اللامسماة "حيث يسقط الاسم والعنوان والملامح عنها" سوى البوح والكشف وحرارة الإحساس بدون نوايا مسبقة.

وهب أننا نقف مع هذه المفاهيم من الطقس فهل يعني ذلك أن نعيد ترميم تلك الطقوس وإحيائها، كلا طبعاً ذلك أن إعادتها تعني الدخول فالبرمجة والنسخ المألوفة وللانتماء لروح العصر والاغتراب عنه مما يؤدي إلى اللاصدق واللاكشف واللاحركة واللاتوحيد. (ولكن كيف ينبغي أن نكتب ونرسم ونحيي طقوسنا المعاصرة. طقوسنا تمتلك نفس القوة تلك قوة الكشف عن إشكاليات روح العصر وخلق نوع من أنواع الاستفزاز. يوحدنا ويحفز الكامن فينا؟) إن مفاهيماً كثيرة عن المسرح المعاصر لتقترب مما أسميناه بالطقس ولكن لا يعني أحادية النظرة في النتاجات الفنية وتناسخها على العكس من ذلك فإن الطقس هو صدق داخلي منفرد يختلف من فرد لآخر ومن مدينة لأخرى ومن قارة إلى أخرى ومن حضارة إلى حضارة أخرى. لكن هناك مفاهيم كثيرة أيضاً عن المسرح المعاصر مازالت تتخبط بنفس أحابيل الزيف ذلك أنها تسير وفق مفهوم البرمجة والتخطيط والوظيفي العقلي لترمي نفسها أخيراً في أحضان الكشوفات العلمية والاجتماعية والاقتصادية ذلك أنها "أي تلك الكشوفات" تشكل المرجع الرئيسي لها وبذلك تنسحب من القمة الفنية لتصبح بوقاً لتلك الكشوفات المؤدلجة.

كذلك هناك البعض الكثير من المفاهيم المسرحية مازالت تتعثر في تجاربها ومحاولاتها ذلك أنها تعتمد المفهوم السلبي الشائع كمحرك أساسي لمحاولاتها ألا وهو مفهوم (العرض المسرحي) ذلك المفهوم (السلعي) والذي يعني بالضرورة وجود الندرة في مادة مسرحية معينة وإشباع في مادة أخرى، إلى جانب اللهاث وراء الموضة أو الصرخة الجديدة تماماً مثلما هي موجات الأزياء والأغاني والإيديولوجيات المرحلية.

وهكذا حتى تصبح كل الجهود المسرحية زيف ومراءاة في المشاعر والأفكار، تغيّب حرية التعبير ويغيب الكشف لينتج لنا فناً استهلاكياً في مادته الجمالية والمعرفية ويعد هكذا نوع من الفنون منحدراً خطيراً بل سخرية لاذعة للعقل البشري الذي لابد وأن يوجه نحو الكشف والتطور والحركة المستمرة. ومن خلال ذلك يتسنى لنا أن نفهم كيف يمكن لنا أن نحيي طقوسنا المعاصرة (طقس الآن/ اللحظة الراهنة) ونوشمه في تاريخ الفن وشماً بارزاً لا يتصدع. أي من خلال أن نسقط المفهوم السلعي للعرض وأن نفهم جيداً أساليب ومناهج العصر (وسائل الاتصال الجمالية والمعرفية) لنتمكن من تجاوزها ونسفها أو الانطلاق منها نحو رؤية متفردة، كذلك علينا أن نعي مادية العصر وإشكالياته المتعددة ( الاجتماعية والإيديولوجية) وعياً حقيقياً إلى جانب دراسة الفرد (المتلقي- المشاهد) حضارياً بما يشمل إرثه الحضاري من علوم وديانات وفنون. وبذلك نستطيع أن نفجر طقساً يعتمد طواطم العصر (رموزه، همهماته، رقصه، غنائه، قصائده) وحياته الحقيقية وصيغه الجمالية والمعرفية ،بحرية فنية متمردة، حتى نكون شهود العصر حقاً (عصر الطوطم التكنولوجي،  الرقص، الهستيريا، الشيزوفرينيا، عصر الباراسايكولوجيا، عصر موت اللغة والسرد، عصر الضوء واللون واللعب الدموي، عصر الأفكار الغائمة والنتائج الغامضة) هذه وغيرها رموز وخصوصيات عصرنا والتي باتت تجتاحنا وتثير الرعب فينا كما هو الطوطم بالنسبة للجماعات البدائية، علينا أن نبتعد عن تلك الروح المنطقية المعقلنة قسرياً في عصر يخلو من المنطقية.

إن مشكلتنا المعاصرة ليست هي الأشكال والسطوح ومظاهر الأشياء كما يدعي البعض إنما هي مشكلة سيطرة العلوم وتفاسيرها لكل شيء حتى بات مفضوحاً تماماً.

إن عصرنا هو عصر التفسير حقاً فقد انتهك كل شيء وفقد الروحي والوجداني فينا وعلى الفن أن يناضل من أجل أن يعيد بناء ما تهدم وذلك من خلال إحياء طقوس العصر (تطهير العقل من أورام المعرفة الهندسية والفيزيائية والسياسية والاقتصادية). إن تاريخ الوعي في تأزم وهاهو يقف على حافة الهاوية فقد تم كشف الكثير وعلى الفن أن يعد للأشياء عذريتها الأولى، عليه أن يحفر عكس تيار الوعي وينبش تحت الأنقاض ويكشف عما غاب واختفى، ويطهره ويهذبه وفق صياغات أكثر فعالية ومستقبلية عصرية ليكون مؤثراً فنياً وليكشف لنا أخيراً أين نقف في هذا المد الحضاري، وما علينا أن نضيف؟ ذلك كله يأتي عندما نتجه نحو فن الحقيقة الروحية والوجدانية، فن الجوهر والعمق، فن الطقس.

إنما أدعيه مقدمة عامة نحو تأسيس طقس العصر بعد أن ضجت مسارحنا بالعروض الاستهلاكية على صعيد المسرح الملتزم والمسرح التجاري، حيث لم نرتشف من المسرح سوى ماء فج ولا نأكل منه إلا طعاماً مهضوماً سلفاً.

1996الرمز أبجدية الفراغ

في خصوصية الرمز المسرحي

-1-

إن خصوصية العمل الفني تكمن في أنه يحول المعارف والحقائق إلى "صور" جمالية تعبر وتحمل في داخلها تلك المعارف والأفكار التي يراد طرحها، إن ماندركه تماماً حين نشاهد عملاً فنياً هو الأشكال ومن خلال هذه الأشكال التي يبتكرها الفنان سيتم تحاورنا مع العمل الفني لتحال ثانية -داخل الشبكية العقلية لدينا كمتلقين- إلى معلومات ومعارف وأفكار بنسب مختلفة ومتعددة بحسب درجة وعي كل منا واهتمامه وحساسيته الجمالية، أي إن العمل الفني "ما هو إلا عملية تحويل المعرفة إلى موجات صورية يتم إرسالها تباعا " ضمن  نسق معين - يحدد هذا النسق أسلوب وصوصية كل فنان عن الآخر -إلى ذهن المتلقي لتتحول إلى معارف وأفكار مرة أخرى -و لكنها أفكار وحقائق الوجدان البشري والمشاعر الباطنية- أي أن العمل الفني يجعلنا ندرك و نلمس اللا مدرك في الحياة من حولنا، ولكن ما سر تميز الصور الفنية عن الواقع نفسه وما هي ضرورتها؟ إن سر تميزها وضرورتها يكمن في اعتقادي بقدرتها على إعادة خلق وابتكار أشكال متجددة ومتغايرة للواقع الحقيقي، يقول (بيتر بروك): ليس المهم أوالجديد هو الانفعال ولكن المهم هو نحت أشكال متجددة لهذا الانفعال.

إن الفن ليس من وظيفته إعادة صيغ و صور الواقع اليومي إلى جانب كونه يعجز عن نقلها بحيويتها وحرارتها كما هي عليه حقاً وإلا فإنه سيتحول إلى واقع يتم فيه القتل وإراقة الدماء وحدوث الكوارث الطبيعة وسيخضع لقوانين الواقع العلمي أيضاً، ثانياً: مادام لدينا الواقع الحقيقي نفسه فما ضرورة وجود هذا الفن الذي ينقله حرفياً؟ ثالثاً: إن ما يتم نقله من الواقع في الفنون الواقعية الساذجة أو المبسطة ما هي إلا الأشكال والسطوح دون النفاذ إلى جوهره و كشف كنهه الحقيقي وهنا تكمن المقدرة الفنية، أي من خلال ابتكار الصور المغايرة يتم الإبحار داخل السطح وكشف البعد الداخلي للواقع و الوجدان البشري إنها عملية معالجة الواقع من خلال واقعية الفن الخاصة (الواقع الصوري، الذي ينقل لنا ما لم نستطيع فهمه وإدراكه سابقاً في الواقع الحقيقي) وما دمنا نعتقد بأن هذه الصور الفنية المبتكرة لابد وأن تكشف و تعبر عن الجانب اللامرئي والباطني من الواقع فذلك يعني بأنها لابد وأن تكون مدركة من قبل المتلقي و هنا تقع مسؤولية جعلها مدركة ملقاة على عاتق الفنان الذي سيتميز بقدرته وتفرده الأسلوبي عن غيره من الفنانين بجعل مادته على قدر كبير من الجمالية المدهشة. فما قيمة الصور الفنية المبتكرة التي لا تستطيع أن تعبر أو أن تحملنا على تكوين فكرة ما، وهذا العجز في التعبير الصوري يرجع إلى أسباب مهمة منها:

عجز الفنان عن امتلاك ناصية مادته الفنية الصورية وجعلها قادرة على التعبير عن فكره، أو أنه "أي الفنان" قد وقع في اشتباه وغموض في مهمة تجسيد فكره الذي يريد طرحه فيأتي تعبيره الصوري غامضاً وعاجزاً هو الآخر.

ولكن لنتساءل مم تتكون الصورة الفنية هذه؟

ولا يطول بنا التفكير فنجيب بأنها تتكون من حشد من الرموز المادية والبشرية (الأزياء/الديكورات/الإكسسوارات الأضواء/الألوان/الممثلين) حيث أن أي أطروحة فنية وخصوصاً في الفن المسرحي بجانبها المعرفي لابد وأن يعبر عنها جمالياً (صورياً) بوسيلة مادية ما ذلك أن المسرح فن بصري يستدعي ابتكار كم من الرموز المادية أواللامادية للتعبير عن أفكاره وبثها إلى المتلقي بشرط أن تكون مدركة لكي تتحاور معه، أي أن يكون الرمز قابلاً للإدراك بتحوله من فكر تصوري إلى صور مادية محسوسة، وبهذا فإن الرموز الفنية ما هي إلا جسور من العلاقات ولغة تحاور بين العمل الفني والمتلقي. وبدون ذلك يبقى العمل الفني سجين ذاته ومنكفئا عليها، إن الرمز وسيلة فاعلة لتحويل الأطروحة المعرفية الجافة التي يتضمنها العمل الفني إلى صور وأشكال تتجسم أمامنا بجمالية فنية نلمسها ونحسها ونتفاعل معها.

وهكذا نحدد مفهومنا مرة أخرى عن خصوصية العمل الفني فنقول: إن هو إلا عملية تحويل المادة المعرفية إلى ذبذبات تتكون من كم من الرموز تبث ضمن نسق معين وتكون مجتمعة جسوراً يتم إرسالها تباعاً لتنعكس في ذهن المتلقي وتتغاير إلى معرفة مرة ثانية، معرفة قابلة للإدراك ومثيرة للجدل والحوار الفني.

وبعد أن اتضح لدينا أن العمل الفني هو ابتكار صور مغايرة تكشف الواقع وتنفذ إلى باطنه من خلال هذه الصور التي تكون بدورها الكل للأجزاء الرمزية المتفرقة والتي اتحدت ضمناً بنسق جمالي (الإيقاع) والذي يعد ضرورة لتأطير وتحديد فاعلية الرمز الفني، لذا تراه يجنح نحو صياغتها ضمن نسق معين ليعكس لنا خصوصية الثقافة الجمالية، الأمر الذي  يستدعي أن تتوافق دلالات هذه الرموز الباطنية والظاهرية فمن العبث أن يُستخدم الرمز في غير محله أو يوحي بما لا يريد الفنان الإيحاء به أو يبدو الرمز غريباً على جسد العمل الفني وغير متجانس مع غاياته وعناصره الأخرى، وهو يبحث عن أبسط الطرق التي تجعل من الرمز متفاعلاً مع ذهن المتلقي، أي أن يتمتع الرمز الفني بجمالية صورية ومظهره الخارجي يبعث على الدهشة والتأمل لا أن يكون مألوفاً ومستهلكاً أو غامضاً أو مشتتاً، وبذلك فهو سيتوصل إلى صياغة رموزه من خلال المعادلة الفنية الصعبة، تلك المعادلة التي تستوجب التجانس بين الرمز ومعناه ومادته وغايته أي أنه لابد وأن تخضع عملية ابتكاره وإنتاجه إلى العلل الأرسطية الأربع والتي نادى بها أرسطوعلى أن كل شيء ينشأ فيتكون بتأثيرها:

1-العلة الماديــة: وهي المادة التي يتكون منها الشيء.

2-العلة الصورية: وهي الصورة التي تصير بها المادة شيئا معيناً.

3-العلة الفاعلــة: وهي العلة التي تصنع الشيء وتعطيه شكله وصورته.

4-العلة الغائيــة: وهي الغاية التي من أجلها قامت العلة الفاعلة بصنع ذلك الشيء على تلك الهيئة.

 

-2-

 ولو أننا أعدنا ترتيب تلك العلل وعلاقتها الجدلية ببعضها حسب خصوصية العمل الفني لنتوصل إلى صياغة الرمز الأمثل فنقسم العلل إلى مرحلتين:

أ- المرحلة التصورية/النظرية:

 أي عمل العلة الفاعلة /الفنان، ففي هذه المرحلة يقوم العقل المفكر والمدبر بعملية تحديده لأفكار ولإمكانية إحالتها إلى صور فنية، فالعلة الفاعلة (أي الفنان) تحدد لنا على وجه الخصوص الضرورة لتوفر هذه القدرة الإبداعية التي تتميز بتفرده الأسلوبي عن الآخرين بحسب الثقافة والوعي والإمكانية على تحويل الأفكار إلى صور فنية متميزة. فالأفكار والرموز متوفرة في كل مكان ولكن تقع على الفنان مسؤولية انتزاعها وتنظيمها وبثها بشكل مبتكر وهذه المرحلة مرتبطة بالعلة (الغائية) أي الهدف من وراء ذلك، وأي الأهداف التي يريد ترسيخها والدفاع عنها والترويج لها لابد من أن يكون هناك تجانساً بين فكر المبدع (الفنان) وغايته حتى لا تكون هنالك هوةً وتشويشاً في الأطروحة الفنية، وأخيراً لتّكون هذه الرموز بتكاتفها (الغاية) لتصوب أهدافها ولتلج غايتها بأيسر الطرق وبأقل كثافة وبفترة زمنية محسوبة.

أتوقف هنا لدراسة هذه الرموز من حيث إنتاجها وتكوينها وقدرتها على حمل الدلالات المعرفية وكيفية جعلها مدركة ومثيرة لذهن المتلقي وابتدأ بالتمييز بين نوعين من الرموز (الرمز الواقعي) العلمي و(الرمز الفني). فالأول يشير إلى شيء ما محدد خارجه وبدون هذا الخارج لا يمكن لهذا الرمز العلمي أن يوجد أو يدرك أو أن تكون له قيمة كما هي عليه الإشارة المرورية التي ترمز إلى التواء الطريق أو وجود حفر وهذا النوع من الرموز مرتبط تماماً بقوانين الواقع العلمي ومبرمج ضمن قاموس معلوماتي محدد وعند حدوث أي خلل فيه أو خطأ فإنه يسبب كوارث حقيقية في حياة الإنسان ولهذا فهو مرتبط بالحقيقة الواقعية العلمية أكثر من ارتباطه بالجمالية الفنية ولا يدخل المجال الفني إلا كعنصر ثانوي مساعد لتحديده وإعطائه شكله النهائي الثابت. إضافة إلى أن هذا النوع من الرموز يستخدمها الفن بعد أن يتم تفريغها من ارتباطها بالواقع الحقيقي، وتحال إلى معنى جديد متحرك يخضع لنفس خصوصية الرمز الفني، أما النوع الآخر (الرمز الفني) فهو رمز شمولي يكمن معناه في باطنه دون أن يتوسل الإشارة إلى شيء خارجه وهكذا تتسنى له الديمومة والاستقلالية في كيانه الجمالي حيث يتصف بالغيرية والكفاية الذاتية وهو لا يرتبط بالواقع الحقيقي إلا عن طريق إعادة صياغة أشكال الواقع أو كونه يكشف وينقب في باطن ذلك الواقع اليومي الذي نعيشه نحن. إذاً فإن عملية ربط الرمز الفني بالواقع إنما يجري في أذهاننا نحن كمتلقين من خلال قياس ذلك الرمز الفني بالخبرات المتراكمة لدينا، فهو متحرر من قيود وقوانين الواقع حاملاً دهشة جمالية متفردة  تتصف بالمرونة والحركة والتغيير تتم صياغته بدون اتفاق مسبق وبشكل غير مألوف ومستهلك من قبل -كسابقه الرمز الواقعي العلمي- وهو مثير للدهشة الجمالية إنما لاستفزاز روح التساؤل والحوار وإعادة صياغة معلوماتنا نحن كمتلقين، بل إن أروع الرموز الفنية تلك الرموز التي تفاجئنا بحضورها اللامتوقع لتحفر في ذاكرتنا حروف وصور وأفكار جديدة لم نكن نمتلكها سابقاً، تلك الرموز التي لها قابلية متفردة في التعبير وحمل أكثر من دلالة فإن الفنان حينما ينجح يكون قادراً على التأثير والتحاور مع المتلقي.

 

ب- العملية الإجرائية/التجريبية للرمز:

هنا وبعد أن حدد المبدع أفكاره وغاياته يبدأ بالبحث عن الصور الفنية والرموز التي سيحملها أفكاره شريطة أن تكون مبتكرة وقادرة على حمل الدلالات المعرفية وعلى إثارة المتلقي لتحقق أخيراً الغاية النهائية للعمل الفني، ومرحلة اختيار الرمز المعبر مرحلة انتقالية حيث ينتقل العمل الفني من حيز التصور والتأمل إلى حيز التجريب العملي ليأتي أخيراً دور العلة المادية والتي ستحدد نوع مادة الرمز (مادية أو تقنية) وأي قالب سيصب فيه الرمز ويأخذ شكله النهائي المحسوس، وهنا لابد من تجانس مادة الرمز مع معناه وغايته فلا تأتي المادة مغايرة أو بعيدة عن المعنى، كذلك على أن تكون على قدر من الجمال الفني قابلة للتغاير والتحرك ومثيرة للدهشة الجمالية (وخير مثال على تضاد المادة مع المعنى الذي يراد طرحه مع ما حدث عند المخرج الكبير " كوردن كريك " حيث كان يدعو إلى صدق وكشف حرارة العواطف بعيداً عن التصنع ولكنه استخدم الدمية في التعبير عن ذلك فجاءت المادة مضادة للمعنى تماماً). وهنا تجدر الإشارة إلى أن العلة الفاعلة الغائبة تشكل في الحقيقة العلة المادية، الصورة التي تشكل ماهية الرمز فهي علة كامنة في نفس الغاية ونابعة منها حيث أن الرمز يتحقق عند أخذه صورته منها، وإذا كانت العلة الصورية مرتبطة بالعلة الغائية والعلة الفاعلة فالرمز لا يمكن أن ينتج إلا إذا سبقت الغاية هذا الإنتاج ولا تخرج الغاية من التصور إلى الفعل إلا بعد أن يتم تكوين الرمز وإعطائه صورته المخصصة، والفاعل (الذي هو الفنان) لم يكن فاعلاً إلا بعد أن أنتج وابتكر المادة (العلة المادية) التي تشكل عنصراً مهماً في تكوين الرمز واتخاذه صورته، ولكن يجب التركيز في اختيار نوعيتها حتى لا تغاير المعنى وتتضاد معه. إن هذه المجانسة في عملية ابتكار الرموز الفنية وخصوصاً في الفن المسرحي سوف تجنبنا الكثير من المغالطات والخلط والاشتباه الفكري في عملية تلقي تلك الرموز، فعندما يتطابق معنى وشكل الرمز مع غايته بمادته سوف لن تضيع وتتبدد تلك الذبذبات الصورية الرمزية المرسلة باتجاهنا من جانب العمل الفني، آما عندما تكون هنالك عملية تضاد بين معنى الرمز وصورته أو مادته سوف تكوّن في أذهاننا صوراً مشوشة ومثيرة للعتمة والضجيج وغالباً ما يحدث هذا في مسرحنا العربي على وجه الخصوص، حيث يعمل الفنان على زخرفة الشكل وإهمال المعنى ودلالته أو أن يهتم بالغاية والمعنى ويترك عمله الفني خالياً من الصور والجمال المدهشين.

إن ما أردنا تأكيده باستخدامنا للمنطق الأرسطي لتكوين الأشياء في الكون،هو ضرورة التجانس والتوازن وصولاً لصنع عروض يتواصل فيها المتلقي ويتحول بفعل الفنان المبدع إلى منتج ثاني للعمل الفني، من خلال ابتكار رموز فنية تكوّن صوراً جمالية دالة ومثيرة لذاكرته والابتعاد عن المألوف والسائد والسلفي الذي لا يثير أي غبار لسؤال أو حوار واعٍ.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لذة تأثيث الفضاء المسرحي

 

                                                      على المسرح آن يلامس بالمادي

       حضـــور الأشـــــياء اللامـــــرئية

 

 مفتتح:

بعد أن كان كل شيء على ما يرام ومغلق، والطبيعة مستحكمة الانكفاء على ذاتها، راح البدائي الجميل يتمكن منها بخياله الشعري النفاذ فأنتج ألواناً وأساطير مازالت تنضح حيوية شعرية إلى يومنا هذا، ولكن ما أن تمكن العقل "مرض العقل" نشاطه العلمي بالكشف والتحليل و التعرف من الأسرار الكونية حتى افتضح كل عنصر من عناصر هذه الأسرار بل حتى تفاصيلها الجوهرية الغائرة في السرية لذا تقوقع كل شيء داخل تعريف محدد   (حسب فاعليته وسماته وخصوصيته) كل شيء دخل في تعريفه حتى أمسى الأدب والفن يلهث وراء الأخذ بهذه التعليلات العلمية والعقلانية كقاعدة منهجية لطروحاته المعرفية والجمالية فأصبحت بالتالي(محاكاة الطبيعة) قولاً مقدساً في الفعل الإبداعي في بحثه واستنباطاته النهائية، مما أوقع النتاج الفني والأدبي في متحفية القوالب والاستهلاك المميت حتى أنه لم يعد يشبع ذلك العطش الجمالي الذي يرجوه الكائن البشري منه ذلك الجمال السامي الذي نرتوي به روحياً وعقلياً  فنسموا على الواقع المادي الموضوعي السببي ليصل إلى ذروة الدهشة والنشوة كي يعود إلى واقعه اليومي متشافٍ ومحصناً بالقيم الجمالية الجديدة المبتكرة المتنامية.

ومن هنا تولدت وظيفة الفن والأدب المعاصر في خلخلة تلك الأشكال والقواعد وتهشيم السطوح المادية الواقعية وازاحتها من خلال التأثيث الجديد والمغاير والمضاد نحو تحقيق جماليات ومعارف جديدة وشحن العمل الإبداعي بكم هائل من القدرات على إشباع تلك الحاجات الضرورية للكائن البشري وخصوصاً الجمالية منها وذلك ما يفعله أئمة الفن والأدب الحديث على مختلف وسائلهم ومضاميرهم، من خلال التجريب اللامحدود حيث لا يوجد مقدس جمالي يحد توقهم لتأسيس علاقات جديدة بين عناصر المنجز الفني أو الأدبي الداخلية من جهة وعلاقة المنجز بالمتلقي من جهة أخرى وهذا الذي سنعنى به في هذه الدراسة، أي تسليط الضوء على السبل و القوانين والغايات التي يتوسلها المبدع في إنتاجه منجزاته الجمالية والمعرفية الجديدة في حقل الفن المسرحي حسب تخصصنا.

 أسئلة :

لِمَ يصر المبدع أن يكتب على جلد الطبيعة ويغاير عناصرها عبر الصور والأناشيد وعبر نبؤاته وانذارته المبكرة، هل الطبيعة ناقصة أم سيئة وبشعة؟ ذلك هو السؤال المهم في توجيه عجلة الفن نحو إعادة تأثيث الطبيعة بالعناصر الجمالية الفنية، فهي كتابة تزيح وتلغي وتخلخل وتفضح بل تنمي شكل الطبيعة من عمقها وصولاً إلى مظهرها الخارجي .

سؤال آخر لابد منه: إذا ما كانت عناصر وروح وجسد الطبيعة مرنة ومتفاعلة ومتكاملة. وهذا ما نتفق عليه في نظرتنا إلى عناصر الطبيعة. فهل يعد الفن مجرد عملية محاكاة لهذه الطبيعة وتكاملها؟ إذاً يرد سؤال بمنتهى القسوة (ما هي ضرورة الفن) إذا كان المنجز عبارة عن هامش وإيحاء وإشارة ثانوية لها؟ لِمَ لا يتوجب على المتلقي العودة إلى المرجع الأصلي للطبيعة المثالية المتكاملة؟ لِمَ لانصرف نظرنا عن الفن كونه لا يعد إلا هامشاً ونسخاً لها؟ هذا من جانب ومن جانب آخر قد توصلنا جميعاً إلى حقيقة مفادها أن الفن منذ أن بدأ وإلى يومنا هذا لم يتوصل عبر محاكاته للطبيعة أن ينقلها بحذافيرها، فقد عجزت كل الفنون وحتى التي ادعت بطبيعيتها وواقعيتها الدقيقة (كالفنون البيئية والـ POP ART) وغيرها، لم تستطع أن تتوصل إلى نقل جوهر الطبيعة طازجاً وسكونيته الهائلة وحركته الدقيقة. هذا ولم تنفذ إلى أعماق الطبيعة في الوقت نفسه بل وقفت عند السطح شارحة ومستنسخة ومعلقة كما هو الموظف السياحي، أي عند حدود الدهشة بالطبيعة وتمجيدها.

 إذن فما هي ضرورة الفن إذا لم تكن ضرورته تكمن في قدرته على بث الدهشة لنا ومغايرة الطبيعة جمالياً ومعرفياً، إذ أن دهشتنا التي يشاركنا فيها موظفو الفن السياحي أمام الطبيعة ما هي إلا دهشة وجدانية لا تتعدى المشاعر ومعرفة الضرورة والمنفعة التي تكمن وراء ذلك المشهد الطبيعي، إضافة إلى كونها دهشة تبعث على الاسترخاء والتماهي بروح المطلق المحيط والكامن  بثناياها مما يشل عزمنا على الابتكار والإبداع          (حق الخليفة -الإنسان- على الأرض) ويكسر أجنحتنا لتجاوز المسمى والمؤثث سلفاً.

أما بالنسبة إلى الفنان المقتدر على توليد تلك الدهشة الباعثة على التأمل    -تأمل المقدرة الإنسانية في تحريك سكون المسميات وتقريب المتناقضات ومزج اللامتجانس واستنباط صور جديدة تحث العقل على التغيير في عجلة التفكير والتموقف جمالياً ومعرفياً من الحياة- أما دهشة الطبيعة لا تؤدي إلى موقف اجتماعي تغيري كهذا.

وإذن فما هي علاقة الحواس الإبداعية بهذا الواقع المادي والطبيعي؟ ليس بمحاكاتها بالطبع إنما يكمن دور الحواس الإبداعية في قدرتها على تفهم وإدراك سر القوانين الجمالية والسببية التي تحتويها الطبيعة هذه، إنما من يحاكي فهو لا ينتج بل ينسخ قوانين التجانس فيها وحسب، إن إدراك تلك النظم والقوانين التي تنتظم الطبيعة وفقها، بالإضافة إلى إدراك عوامل المنفعة والديمومة القائمة فيها، هي التي يتأمل فيها المبدع من خلال حواسه ويتسلح بها كمرجع في عملية صياغة كيانات منجزاته الفنية "تلك هي مسألة" جمالية المشهد الطبيعي وديمومته علمتنا أن نشحذ الوسائل نحو صياغة المنجز بصفته خالداً لا آنياً، علمتنا أن الإبداع لحظة محفورة على جلد الزمن، "سحر شلال" يتدفق منذ آلاف السنين وسحر المونوليزا المتدفق باستمرار تعبيراً عن خلود الإبداع الإنساني وخرقه للعادي.

زمن التأثيث:

  التأثيث الجديد والمغاير ما هو إلا سباق وجودي وصراع مع الزمن المتحرك، ملاحقة وتربص مستمرين باللحظة المواتية لكي يفعل الفنان فعلته التاريخية وينسحب بهدوء، وقد نجد ممن يتأخر أو يتقدم على زمنه الإبداعي،  لكن المبدع الحق هو الذي يطعن طعنته الرشيقة في الوقت المناسب لها، ذلك الوقت الذي تتهيأ له فيه كل الظروف أو يعمل هو على صنعها ليختم بأصابع من فضة فعله الوجودي على شريط تاريخ الزمن المهرول دون توقف أو تلفت دون أن يأبه لأحد (الزمن لا يعرف بيكاسو    أو كاندنسكي أو بيتربروك أو سعد الله ونوس أو برشيد أو أي آخر فكلهم سواسية وعليهم أن يطاردوه ويمسكوا به وينقشوا عليه نسقهم الإبداعي المغاير والمبتكر) ولذلك نجد أن بيكاسو يقول: الفنان لا يبحث بل يجد، إنما هو يقصد كم من الباحثين اجتهدوا دون أن يتوصلوا إلى شيء فيهملهم متحف تاريخ الإبداع حيث يمجد أولئك اللذين وجدوا واكتشفوا بدائلاً وصوراً وتركوا أثاراً نستدل بها عليهم.

 

أنواع اللذة وفلسفتها:

اللذة متعددة ومتلونة بتعددية الأسباب والأعصاب والذائقة الروحية والجسدية والعقلية وهي في المحصلة نشوة تؤدي إلى تحرر الجسد         و الروح والعقل من قيود وأطر الواقع. اللذة هي انتشار الجسد عبر ثنايا الكون والزمن وهي لون من أفعال الخلود التي يمارسها الإنسان بقوة        و إرادة ليتناسل عبر تساميه في جسد الزمن واتحادهما ثمرته خلود الجنين (المنجز الفني)، ولك أن تتصور قيمة وعمق ذلك الحب والجماع والقوة والإرادة والوعي على إنجاز هكذا فعل وجودي خالد مستمر التوالد والتكاثر، ولك أن تعتقد أن الولادات المشوهة والساذجة والغبية والفاسدة ما هي إلا نتيجة لجماع همجي وقسري جاء اعتباطاً ومجانياً، حيث غاب عنه الانفراج الروحي والجسدي وغابت عنه تلك الثمرة التي لا ينتجها     إلا الحب بإمكانية فتح أقواس الذات وكنوزها ومنحها للآخر وإلغاء حدود الوجدان و الجسد وتنافذ الآخر عبر الآخر.

فاللذة قدرة على المنح والعطاء، قدرة على التساكن والتزامن والانفتاح والأخذ وإنبات بذرة الخلود في رحم الآخر، عمقه في النهاية، ولهذا يعمد الفنانون الروس إلى تسميته المبدع بالذكر/الديك/ لكونه المخصب لفضاء ولعناصر الفن البكر.

بذلك نتوصل إلى أن البذرة الجديدة تختلف باختلاف الجسد ورياضته وميوله وذوقه وقدراته الداخلية الكامنة على التحريض والتحفيز على البذر ولذلك لا نجد تشابهاً بين بذرة وأخرى، بين جنين وأخر، شكلاً ووعياً، وحتى التوأم يختلف عن توأمه نفسياً وسلوكياً وأن تقاربا في الشكل.

على أننا يجب أن نذكر ملاحظة هامة حول التماثل والتشابه بين       (الجنين والأب/ المبدع وعمله الفني/ التوأم وتوأمه/ عمل المبدع وعمله الأخر وأعمال الآخرين).

إن المنجز الفاعل حيث ينطلق بعملية إنجاز فعل الخلود يطمح بإصرار على حفر أثره في الطبيعة وتركه دالاً عليه، يشير إليه بالتواجد الدائم لحظة غيابه عن عالم الوجود الدنيوي، وفي الحقيقة فإن رغبة تأكيد الذات داخل حقل الوجود المستمر تعد المحرك الأساسي لرغبة التكاثر والجماع، بل إن حب الذات التي فطرت عليها النفس كمحفز لولوج طريق الجنة والإحساس العالي بها، هو الذي يدفع الذات ويحرضها على حب الأخر والتساكن إليه. إذاً فليست النشوة فعلاً همجياً مجانياً لا يعني شيئاً سوى المتعة، ولهذا السبب نجد الكائن البشري أشبه بنواة داخل مدارات واسعة تبحث عن نواتها الأخرى (المفضلة والأثيرة بالنسبة لها/ الأرض الملائمة للبذار وطقوسها المناخية/ العناصر والصور والفضاء والمعمار واللغة المناسبة أيضا) والتي تملك القدرة هي أيضاً على تحفيزه وشده وإثارته إليها، بذلك يحدث التوالد البشري والإبداعي المستمر /ذكر /أنثى / بذرة /ثمرة/ مبدع/ إبداع...

ومن العيوب التي تؤدي إلى إفساد الثمرة الإبداعية   ما هي إلا أحادية الإثارة في التفاعل:

1- إما كونها رغبة جمالية تفتقر إلى العقلانية.

2- أو رغبة عقلانية تفتقر إلى الجمالية.

3- أو جمالية وعقلانية تفتقر إلى القدرة البيولوجية( قصر الوسائل والرموز في التعبير الفني).

 وعندما تلتقي تلك النواتين أحاديتي الإثارة فبالتأكيد لا تنتجا إلا بذرة أحادية عاجزة عن إحداث فعل المغايرة أو تؤسس فعلاً قوياً خالداً تطمح إليه ذات المنتج/ المبدع /الأب، كذلك هي عملية تخبط الفنان في سبل أو أشكال تثير المخيلة الجمالية دون أن تصل إلى عقل المتلقي وتنيره، أو عجزه عن تحقيق تلك الوحدة الجمالية والمعرفية في مادة غير ملائمة لتشكيل تلك الوحدة التي ينوي تحقيقها، إذاً فهو بالضرورة يتجه حسب ميوله وقدراته ودوافعه نحو فعل معين ومادة معينة تثير عقله ووجدانه ليحقق من خلالها ذلك الإنجاز النموذجي والمثالي، من خلالها فحسب سوف ينطلق بوق إبداعه الأكبر ويحقق وجوده الفاعل ويحضر في الذاكرة البشرية ومتحف الإبداع أثر خلوده إلى جانب تحقيق النشوة الذاتية في تلاحمه مع تلك العناصر التي أثارته وحفزت قدراته ومخيلته، بالتالي فهو يحقق ذاته عبر إنجازه الفني، وهنا لا نجد بداً من أن تحمل البذرة الإبداعية (الجنين/العمل الفني) سمات وخصوصيات المبدع (الأثر الوراثي الذي يتركه الأب في الابن ودون أن يشبهه في القدرة على التحرك المستمر والتواجد الحر) في حرية قراءة العمل الإبداعي وتأويله المستمر وتوالده الذهني في مختلف الأذهان البشرية المتلقية والمتذوقة المدركة له.

تلك هي إحدى قوانين الخلق التي تظهر أمامنا وبشكل عملي واضح في العمل الإبداعي، إنها محاكاة لقوانين الخلق أو مغايرتها لأشكال الخلق، من جانب آخر نجد أن عملية التشابه بين المنجز /البذرة/ وتوأمها تشابها       لا ينفذ إلى الجوهر، فالجوهر مختلف كل الاختلاف بين التوائم من حيث العقلية والسلوك والميول وإن حدث أن ظهر تشابهاً دقيقاً بين تلك البذرات التو أمية فبالضرورة تجدنا ننظر إليها نظرتنا إلى الواحد وبذلك نلغى وجود أحد التوائم ونستغني عنه، فالآخر هو ظل ورجع صدى، وإذا ما حدث أن خرج التوأمان بجسد واحد أو رأس واحد أو قلب واحد فتجده رغم العمليات الجراحية ينتهي إلى الهلاك، ذلك هو العمل الإبداعي أيضاً، الذي لابد أن يختلف وإن تشابه من حيث المنهج (فالمنهج وسيلة تؤدي إلى ابتكار أشكال مختلفة من حيث الجوهر) وإن حدث أي تشابه فإن هذا التشابه سيلغي وجود العمل الذي ينسخ نفسه وفق الآخر ويصبح مجرد هامش وصدى لا أهمية له وإن امتدت عملية التشابه إلى حد النسخ فإن ذلك سيؤدي إلى هلاك العمل الفني المنسوخ بل سننظر إليه بعين السخرية والتسفيه، وذلك هو الموت الحقيقي للعمل الفني كما هو الموت الحقيقي للتوائم المتلاصقة، ولا أعتقد أن أحداً يختلف معنا في أن المنجزات الفنية التي عملت داخل منهج واحد كم تختلف باختلاف مبدعيها واختلاف قدراتهم وميولهم (الواقعية مثلاً عند تشيخوف، ليست هي عند غوركي، والأسلوب الواقعي في الإخراج عند ستنسلافسكي ليس هو عند المخرج الواقعي كازان). بالتالي فإن رغبة الخلود ونقش الذات داخل هيكل الوجود هذا يؤدي إلى عملية البحث والجهاد والتقصي والاختلاف والتضاد المستمر من أجل تحقيق فعل الذات (بل إن حب الذات هو المحرك نحو العمل والبحث ولا أعني تمحور الذات وانغلاقها على نفسها مما يؤدي إلى نرجسيتها وجهلها بعلوم وإنجاز الآخر، بل على أساس التثاقف المستمر والمتواصل مع منجز الذات الأخرى شرط عدم نسخه والتماثل معه.

 

لذة الطبيعة ولذة الفن:

تتكشف لنا أبعاد اللذة بكشف معانيها وخصوصيتها واختلافها وتعدديتها فهي وإن كانت حفر وكتابة على جسد الطبيعة بعناصرها، ومن وحي قوانينها إلا أنها تشكل تفرداً فكرياً يختلف مع نتائجها النهائية. فالطبيعة تؤدي إلى فعل دهشة تبتلع الذات دون أن تضيف معرفة جمالية إنسانية كونها تشكل قيم ومعارف وقدرات (ميتافيزقية) خارجة عن قدراتنا وإرادتنا، إلا أن الفعل الفني ودهشتهُ تتولد فينا من كونه فعلاً بشرياً واعياً يفتح لنا الأبواب المغلقة ويفك طلاسم الجمال الغائب الذي نتعطش له، ومن القوانين المهمة التي نستنبطها من الطبيعة:

1- إنها مدركة وحتى الغامض فيها يغطيه جمال الإدراك.

2- كونها ساذجة ونفعية في جما ليتها من حيث اعتمادها على القوانين النسبية في علائقها المتبادلة /بينما الفن يعتمد على العلاقات الوهمية والإيهامية والإيحائية والباطنية والفلسفية المختلفة.

3- كونها ثابتة ومحكمة "صمدية".

4- متحولة ومتغيرة ببطء غير ملحوظ.

5- شاملة وتفصيلية "بانورامية"  متعددة الزوايا والتأمل.

6- تتسم بأنها "مر وعلقم" في تلقيها، كونها ثابتة في جما ليتها الهائلة "الكتل الحجرية،  الشلال، الأشجار"  بينما الفن يحاول أن يُحرك الأشياء ويغاير من دلالاتها باستمرار.

7- للطبيعة قوانينها السببية، وللفن قوانينه المتعددة، إذ أن الطبيعة في كل مكان من العالم تنتظم حسب هذا القانون السببي وحسب.

بينما المنجز الفني يختلف بين فنان وآخر، وبين مكان وآخر، وبين مُنجز الفنان نفسه ومنُجزه الآخر، سيختلف في تحديد علاقاتها الجمالية ولا ننسى الاختلاف الشاسع بين قوانين وأساليب وتجارب تركيب الأشكال الفنية وتوحيد عناصرها، وبين القوانين الثابتة لتشكيل الطبيعة.

8- ومن الناحية التاريخية فإننا نستطيع القول (أنّ الفن كان هكذا و في المرحلة الفلانية كان بالشكل التالي) وبذلك نصنع تاريخاً و متحفا ومدرسة للجماليات عبر العصور، فهل نستطيع أن نفعل ذلك مع تاريخ الطبيعة؟ كلا، وإلا كانت الطبيعة ستتحول إلى متحف يحرم علينا العيش فيه، ولأصبحت درساً مستمراً لا ينقطع يشغلنا عن كل ما دونه، إضافة إلى كون الطبيعة ثابتة "صمدية" بيد خالق ثابت. أما الفن فهو بيد المبدع /الفنان/ المتغير بحسب تغير أهوائه وأراءه وميوله وذوقه الجمالي.

 

لذة المعمار ولذة الفن:

 أما المعمار هو محاولة لاستنتاج قوانين الطبيعة السائبة وإحالتها إلى قوانين هندسية ثابتة وظيفية غير قابلة للإزاحة، خاضعة لمبادئ القوة والمتانة والزوايا والميلان والتحمل والمتعة والجدوى والسعة والكثافة و...الخ.

هذه القوانين الضرورية لها، فهي تقام لغاية المنفعة، وعند حدوث أي خلط أو سوء اجتهاد، قد يؤدي ذلك إلى كارثة في الحياة البشرية تدمر الحياة وتنسفها، أما الفن فهو يلعب في المنطقة العقلية والوجدانية داخل المضمار التخيلي، وعند حدوث أي خلل في تركيب عناصره أو في اجتهاده، فهو بالتأكيد لن يهدد الحياة الاجتماعية سوى أنهُ يشوه الزائفة الجمالية الجماهيرية، وتلك خطورة من نوع آخر يمكن علاجها وتطبيعها برؤية جمالية مضادة. إلا أن المعمار والطبيعة لا يمكن لهما أن يُعيدا الحياة لصرعى انهيار السدود وانفجار البراكين، أما بالنسبة إلى العنصر الجمالي في المعمار فما هو إلا إطار يخفي قسوة الهندسة الجافة لكي تبدو مقبولة ومهضومة وقابلة للإحتواء والألفة والسكن إليها وهذا يعني أن الضرورة الجمالية في المعمار وإن كانت تأتي بالمرتبة الثانية من القوانين الهندسية الصارمة ومبدأ المنفعة الحتمي، إلا أنها الوسيلة الوحيدة التي تؤدي إلى جعل المعمار مقبولاً ورائقاً بعين البشر، ومن هنا نجد إلحاح الإنسان الفطري على نقل روح السهول والغابات والأنهار إلى جفاف الكونكريت (يرسم ويزين) الهندسة والمعمار هذا بإبداعات إنسانية ليتمكن من التحالف والتآلف معها.

معالم على دروب التأثيث:

مراحل التأثيث في الخلق الإلهــي:

يصف لنا القرآن الكريم مراحل الخلق فلم يقل إن عملية الخلق تأتي هكذا ودفعة واحدة إنما على مراحل ليعلمنا - كورثة - للخالق على الأرض عمليه التأثيث الجديدة والمغايرة من حيث القاعدة والمنطلق والمرحلية في الابتكار والإنشاء والتي تستدعي بالضرورة التأمل في الفراغ الذي يدعو إلى التأثيث والحاجة والجديد من وراء ذلك، الغاية منه / الهيئة التي سيكون عليها / المادة التي سيتكون منها / مضمار التأثيث ( مسرحاً - رسماً - شعراً) وهكذا إلى أية خصوصية صغيرة لإتمام المنجز، ولو رجعنا إلى تأمل عملية الخلق ( خلق الإنسان) في القرآن فنجدها تقوم على شروط يمكن قراءتها جمالياً وبالشكل التالي:

1- الرحم/ الفراغ الخصب المؤهل لعملية البذر والإنجاب "يقابله الفضاء المسرحي"

2- الفاعل/ الذي يخصب ويدفع عملية التوالد والابتكار "يقابله المخرج، الكاتب، الممثل"

3- الجينات الوراثية/التي ستعطي للجنين شكله وخصوصيتُه "يقابلها المزاج والأفكار"

4- الجنين /الثمرة النهائية للعملية (يقابله المنجز الإبداعي/ النص/السيناريو/ العرض) والجنين بدوره يشبه العمل الفني الذي يحتوي عناصر فنية وتقنية داخلية (العناصر السينوغرافية = إضاءة +زي +ديكور إكسسوار +صوت +موسيقى +صورة متحركة +سلايد موسيقى... الخ) وبتكاتف و تظافر هذه العناصر يتكون  العمل الفني والجنين يتكون في النص القرآني من العناصر والمراحل أيضاً (من الطين/ فالنطفة/ فالعلقة/ فالمضغة/ فالعظام/ فاللحم /ثم أنشأناها خلقاً آخر /اكتمال الكائن بتحول عناصره إلى منجز خالص).

تلك هي القوانين الإبداعية والمختبرية الكبرى لعملية الخلق والابتكار تكشفها لنا الإرادة الإلهية في قوانين الطبيعة لتعلمنا كورثة لها على الأرض، القوانين الإبداعية( وللوريث حق التصرف في الملك أي الإبداع والابتكار وليس التقيد والسير على نهج سيرة الوارث وحسب) هكذا يعلمنا القرآن قوانين الإبداع.

والمراحل التجريبية الكبرى في ابتكار المنجز الذي سيحفر ذاتنا داخل حيز الوجود وينقذنا من العدم، ولنتحاور مع متلقي الزمن /الآتي/ ونتوالد في الوعي المستمر والمتكاثر من خلال حكمهم علينا "بذلُكَ حسنٌ" أو موتنا بحكمهم علينا "بذلُكَ سيئ".

وإن قالَ قائلْ إن الفنون وخصوصاً المسرح ما هي إلا ضرب من ضروب الوجود الآني إنما يغالط وعيه ذلك أن الإبداع والابتكار ما هو إلا عملية اتقاد وتوهج كبير يأسر الزمن و يوشمهُ بسماته الجديدة ويتركه بعد ذلك في مشيته مترنحاً يسير إلى الأمام أو كيفما شاء فقد وشمته يد الإبداع ولصق عليه منجز الإبداع في لحظة الوقوف الكبرى. وما يأتي بعد ذلك من مواقف معيارية أو نقدية سوف تقرأ وتأول ما شاءت ولكن الوشم الإبداعي مر وانتهى كل شيء على أحسن ما يكون.

لذة تأثيث الفضاء المسرحي:

أما بالنسبة للمسرح فلا أجد مجالاً أوسع للذة منه، ذلك أن الفن المسرحي هو فضاء موسوعي يشمل الحياة بصورها وقوانينها المكثفة.

 تبدأ عملية الإزاحة والخلخلة والتأثيث من اللغة حيث تؤسس الأكوان وساحات متخيلة في حدود الحرف والكلمات المجففة على السطور وذلك هو سحر اللغة عبر الأسطورة والشعر والدراما والرواية والنثر حيث تغاير الكون عبر تشكيلها. وتحيله عبر مختبرها إلى عالم يتجلى بالبلاغة والمجاز والاستعارة والوصف والسحر، واللغة هنا سلاح لمقاومة الطبيعة وسكونيتها ولهزمها وخرق ستارها المألوف الفاقع وبذلك يقول "البرت بيغوين":  (الشاعر هو الإنسان الذي يعرف كيف يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، بأسمائها السرية، فهو يبتكر الغائب و اللاملموس و اللامتوقع باللغة حيث يتسنى له إزاحة الواقع المادي بلا مادية اللغة وتلك هي لعبة اللذة الفلسفية الكبرى/ عن الشعر، الكلمات)، وبينما تقف الدراما الاستهلاكية عند حدود الوصف والشرح والتفهم لواقع ونماذج معينة ضمن شروط محددة عبر لغة استهلاكية وصحفية غير نضرة وجاهزة تصيبنا بالغثيان، تتقدم الدراما الكونية الشمولية التي تتحدى الحدود المكانية و الزمانية لتصل إلى شغاف الحقيقة و جوهريتها بالشعر وإمكانيتها اللامحدودة ولو نظرنا إلى تاريخ الدراما لوجدنا أن أكثر النصوص خلوداً هي تلك النصوص الشعرية في تكوينها، ذلك هو نص شكسبير و بيكيت و كامو و تشيخوف، بينما مرت بنا النصوص الاستهلاكية مرور الكرام فيما بقيت النصوص الكونية وبسلطتها الشعرية وقدرتها على إزاحة المسميات المحددة قابلة للإدراك والقراءة والتأويل "التماهي إلى يومنا هذا بل وستبقى إلى يوم غد كذلك" ذلك أنها وعبر جنوحها للإزاحة، إزاحة الواقع المادي باللامادي والحس المرهف والرؤية النافذة، إضافة إلى ما يحمله الشعر من مخزون بلاغي يُقرأ باختلاف تعدد الآراء به عند الآلاف من المتلقين. والشعر يجب أن يلامس بالمادي حضور الأشياء اللامرئية، ذلك هو منتهى الفراغ الوجداني والحسي للطبيعة والذات الإنسانية، وإذا ما تقدمت الواقعية الاشتراكية بكونها تغير الواقع، بينما الواقعية الأخرى تصفه، إلا أنها قتلت الشعر وكونيتهُ المتواصلة وأحالت الدراما المتأصلة إلى درس في السياحة والاقتصاد، إلا أننا نتفق معها كون الدراما لا يكمن دورها بالوصف للواقع وإنما بالكشف عن القوانين المحركة له، إلا أن ذلك وحده ليس كافياً لكونه لا يحقق تلك اللذة الروحية وإنما يغذي العقل بالمعلومات المعرفية وحسب، وبالتالي فالدراما التي ننشدها هي موت الشاعر في الإبداع عبر اختفائه عن الرؤيا العينية ليحل بديله الخلود النصي ويفرض هيمنة وجودية لا يمكن إزاحتها، ويأتي بعد ذلك دور "المتلقي/ المخرج/ الممثل" الذي تدعوه لذة النص وشعريته إلى تأثيث منجزه الصوري من خلاله فيتحول النص إلى صور "يهدم/ يحذف/ يضيف" ويؤسس قراءته الخاصة التي تمثل وعيه وذائقته على جلد النص وروحه فيعيد إنتاجه بالعناصر الصورية، لتغيب اللغة وتحل الصور بديلاً عنها، وتلك هي اللذة الأخرى، على صعيد أخر فاللذة هنا لذة إزاحة المادي عن الصورة الفنية، ولذة إزاحة اللغة أيضاً بالصورة الفنية، وهنا يكمن دور المخرج بصفته قارئاً ومبدعاً، ولو كانت الجهود المسرحية تنصب لأجل ترجمة اللغة ونصها حرفياً على المسرح، فماذا يعني زمن الإبداع المضاف إلى زمن النص المتوقف والمنتهي، يبتدأ المخرج متلقياً للنص فيحيله في مختبره إلى صورٍ مادية تتنافى واللغة، لتنتجها بالوقت نفسه وتحولها إلى إيحاءات جمالية وبالعناصر المادية "الممثل + العناصر السينوغرافية الأخرى" وتوجيهها لبث ذبذباتها اتجاه ذهن المتلقي الذي سيستعيد إنتاجها أو إحالتها في مختبره الذهني إلى أفكار تغير وتطور وتنمي واقعه الاجتماعي، وهي لذة مشتركة بين المبدع والشاعر والمتلقي بقدرة كل منهم على إعادة قراءة منجز الأخر وإعادة إنتاجه.

يقوم المخرج بالتصارع مع الطبيعة بأن يعيد تركيبها حسب منطقه الجمالي المغاير لمنطق الشعر "النص" إضافة إلى كونه يختصر ويحيل المعارف والمعلومات الطبيعية والفلسفية المعجمية الكبرى إلى صور تجسد الفكر والقوانين والتواريخ بالصور لا بالكتابة أو الصناعة أو الدرس العلمي.

إن لذة الإخراج المسرحي بتأثيث الفضاء ما هي إلا لذة محاربة الطبيعة بأدوات وأبجديات جديدة تقنية وبشرية، والمبدع الحقيقي هو الذي يشدنا إلى تلك الأكاذيب الجمالية اللطيفة ويخلدها في إدراكنا وعبر منطقه الجمالي المطلق  (حيث لا نؤمن بعشوائية الصراع مع الطبيعة في عملية إنجاز العمل الفني)، يستطيع أن يدخلنا في هم الحوار مع منجزه الفني بل ويمنحنا لذة إدراك أشكاله وإعادة قراءتها وتأويلها وإنتاجها، وتنشأ هنا إشكالية جديدة ومهمة بينَ خبرة وخيال المتفرج وخبرة وخيال الممثل ومقدرة كل منهما على إزاحة المألوف والمؤثث مسبقاً حيث ينطلق في عملية الإبداع معاً كفاً بكف وبجموح متباين وإدراك مختلف لا يسلم أحدهما زمامه إلى الأخر كونهما كائنات مدركه ومنتجه للجمال وللمعرفة، وهنا يأتي دور الممثل بإزاحة المخرج روآه الجمالية والمعرفية القائمة على إزاحة النص اللغوي إلى صوري إلى حركة ونقش ومشاعر وهو بالوقت نفسه يحمل المبدعين السابقين (المؤلف/ المخرج)  على كتف إبداعه، فهو يحول ما أراده المخرج إلى حياة طازجة ملموسة تفوق رؤيا المخرج، ويحول الكلمات إلى كائنات حية تتقافز أمامنا في الفضاء المسرحي وتشتبك مع وجداننا ومركبنا العقلي، إضافة إلى كونه يزيح اللغة بالتعبير الجسدي المنتقى والمنتخب حسب وعيه ولذته وذائقته ويحول رؤيا المتفرج الصورية إلى حياة متحركة عبر حركة عضلاته ومساماته الجلدية ليسلمها لرؤيا إبداعية ثالثة للمتلقي وبهذا نجد أن المعادلة المسرحية تتكون بالشكل التالي:

1- المؤلف: متلقياً+ مخرجاً+ مؤثثاً= مزيجياً.

2- المخرج: مؤلفا+ ممثلاً+ متلقياً+ مؤثثاً إبداعياً= مزيجياً.

3- الممثل: مزيجاً متلقياً ومؤثثاً بشكل أدق من سابقيه.

أو بشكل آخر:

1- المؤلف: يزيح الواقع= يؤثث واقع أخر باللغة

21- المخرج: متلقياً للواقع وللمؤلف= مزيحاً للواقع وللمؤلف مؤثثاً لرؤيا الصورة.

3- الممثل : متلقياً للواقع وللمؤلف وللمخرج= مزيجاً للواقع وللمؤلف وللمخرج=  مؤثثاً للحياة المسرحية.

وهنا يأتي دور المتلقي في قراءة ثالثة ولإعادة إنتاج العمل الفني تبعاً لوعيه ورغبته بالتأثيث المغاير، وحبه لطبع ذاته في حقل الوجود كمتلقي مدرك ومتحيز(الناقد/ صديق المسرح/ المتابع المهموم بالمسرح) وذلك حسب منطقية الرؤية الثالثة وإمكانيتها على التحاور معه، وعلى قدرتها الكامنة فيها على التأويل المتعدد في الأذهان المختلفة، وهذا ما يؤكد أن المتلقي شريك فاعل في العملية الإبداعية، وليس مستهلكاً حيادياً، والتأثيث الإبداعي هو الذي ينتهي بنهاية عرضه حيث يموت في ذهن المتلقي، والإبداع الحي هو الذي يبث الإبداع في ذات المتلقي من جهته، ويتوالد باستمرار في الأذهان المختلفة على الأصعدة المتعددة، والمنجز الفني الحقيقي هو الذي يولد لحظة نهاية طرحه، ويتوالد باستمرار. ذلك هو هدف الفن والأدب الحديث، والمسرح على وجه الخصوص في سعيه نحو دراما كونية وشمولية، نحو لذة الخلود السامية المؤلمة! يقول نيتشة: على المبدع إذا شاء أن يكون هو نفسه طفل الولادة الجديد أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها.

 

1995

 

 

البحث في منطقة الخيال الفاعل

المسرح والميتافيزيقيا الفاعلة

 

الخيال:

 يعني بالضرورة التصور/ تلمس لما هو غير محسوس، أو هو حضور للغائب المستتر في ذهن المتخيل، وهو الإمساك باللامرئي و اللامتجسد/ خرق لجدار العادة السائدة، لذلك فمن غير المجدي أن نناقش أهمية حضور الموضوعة تصورياً قبل إنجازها، كذلك نجد أنه من العبث أن ننفي وجود شيء نستطيع تصوره، ولكن لماذا الخيال والتصور مادام الإنسان يملك القدرة العقلية على ترتيب المعلومات و الكشوفات، ومن خلالها يتم إنتاج ابتكاره؟ إن عملية الترتيب والتنسيق هي بحد ذاتها (التصور والتخيل) حيث أن المبدع يرتب كل شيء على مستوى عالمه الداخلي، يتبعها بعملية فرز ليصبها كمنجز على مستوى الواقع الخارجي والموضوعي.

الخيال والتخطي:

إن عملية التجاوز والتخطي لأي منطق أو قانون أو إنجاز متعارف عليه (التخطي النابع عن حاجة لا عن فراغ) تحتاج بالضرورة إلى منطق أو إنجاز سابق لها ومضاد لها حيث يقوم الأخير بخرقه، أي أن هذا المنجز الجديد يمتلك أولاً القدرة التصورية لوجوده العيني، وتصوره لطبيعة صراعه مع المنطق السابق عليه، ومن خلال هذا التصور يقوم بتسليح نفسه ويقتحم الخطاب السلفي، لكن بعد إنجازه وتكراره مراراً سيصبح بحاجة إلى قوة إبداعية تخيلية أخرى لتخرقه هو الآخر ... وهكذا.

هذا يعني أن كل منجز إبداعي نابع أولاً وأخيراً عن تصور سابق لطبائع المنجزات السابقة عليه ولطبيعة وجوده التي هي في نية الإنجاز، وهكذا يتضح بأن التخيل /التصور الحر من أي قانون سابق يعمل بهذه الحرية داخل المساحة الواسعة للذهن بتركيب وحذف واستنتاج، يقوم بعمليات المختبر السرية لصهر الماضي والمستقبل لينجز حاضره، حيث يمتلك وحده رؤى ما كان وما يمكن أن يكون.

لغة الخيال:

إن للخيال (وعلينا أن ندرك ذلك) لغتين فاعلتين هما:

1- لغة منعكسة على نفسها تنبع من حاجة دون المعرفة.

2- لغة نافذة (لغة الإزاحة) والتي تنبع عن حاجة ممتلكة ناصية المعرفة.

ولا أريد أن أعتبر عمليات التصنيع التخيلية لغة، ذلك لأنها عمليات قسرية تنشأ دون حاجة أو وعي، وأن هاتين اللغتين تحملان جانباً كبيراً من (الصدق) اللامتناهي لرؤية وفهم الذات والعالم، ولا أقول أنهما تمتلكان (الحقيقة) لأنهما تمثلان صدقها النابع عن حاجتهما الملحة، غير أنهما      لا تمثلان الحقيقة إطلاقاً، فهما مجرد اقتراح سري نابع عن الحاجة والدراية الذاتية الداخلية للعالم الخارجي.

 

اللغة المنعكسة:

نحن نؤمن بأن الإنسان عموماً مبدع ولكن بدرجات وقدرات متفاوتة، حيث أننا نلمس لديه لغة الرفض والاحتجاج الداخلية إزاء المواقف المختلفة في الحياة والوسط الاجتماعي، لكنه عاجز تماماً عن امتلاك قوة الدفع إلى الخارج، دفع الموضوع أو المادة المتخيلة الجديدة إلى الآخر الخارجي عنه، كذلك فهو لا يعي تمام الوعي بالإنجازات السابقة ومقدار فعالية منجزه المتخيل، لذلك أطلقنا عليه اسم اللغة الداخلية /الانعكاسية/، حيث أنها تأخذ من الفعل (المصدر /المنجز الخارجي) التحفيظ وتعكس رد الفعل على نفسها وحسب، وهذا ما يوضح محدودية فعاليتها حيث أنها تنتظر فعلاً خارجياً وبشكلٍ دائمٍ لإنتاج وفرز تخيلها الداخلي الرافض       أو  الجديد كونها لا تمثل قوة الصراع والجدل اللامتناهي لرؤية و فهم الذات للعالم، ولا أقول الحقيقة لأنها تمثل صدقها النابع من حاجاتها الداخلية الملحة.

اللغة الدافعة:

وهي لغة الابتكار (الفن /العلم /المعرفة) والتي تعي تماماً الإنجاز الخارجي وتنوعه وتعدده، وتعي تمام الوعي حاجاتها ومطالبها الداخلية، كذلك فهي تمتلك نظرة شاسعة ترى من خلالها إلى المستقبل وكيف يمكن أن يكون، لذلك فهي عندما تنجز تخيلها الرافض أو المطور للمنجز السلفي تكون واعيةً بما تفعل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجدها لغةً بصوتين، صوت الصدق الداخلي، وصوت العالم الخارجي (الحقيقة) الذي تتعامل    أو تريد الصراع معه.

إنها على العكس من سابقتها تقف وسط الألم والحاجة وتفرز نتاجها، وبذات الوقت تمتلك قوة الدفع إلى الخارج وإمكانية طرح اقتراحها لقلب وتغيير  أو تطوير المنطق السابق عليها، ولكونها تقترب من المنطق، أو لنقل تقترب بمحاولتها من رسم منطقٍ خاصٍ بها قابلٍ للجدل والإدراك، فهي على العكس من الأولى (التي تمتلك صدقاً أكثر منها) إلا أنها تتميز عليها بالدراية والوعي لحاجاتها والقوة التعبيرية والكفاءة في التجسيد، واللغة الدافعة أكثر قرباً من (الحقيقة) حيث تصهر المنجزات والخبرات الماضية ونبوءات المستقبل في زمن (الآن / الآن الحاضر /الفعال) وبذلك فهي تختلف عن اللغة الانعكاسية ولغة الخطاب السلفي بكونها تقفز وتختصر الأزمنة لتلاقي المستقبل فهي تختصر خطوات طويلة من السير البطيء، الخجول، المتردد، وتتقدم بكل جرأة لكي تصل الغائب، اللامرئي، اللامدرك، المستقبلي، ذلك أن المستقبل هو بالضرورة الغير مكتشف واللامتحقق بعد، غير أن هذه اللغة تحمل وفور ولادتها سر غيابها أيضاً، وهذه حقيقةٌ يجب التسليم بها (ذلك هو سحر الفن /نشوته الفذة الخاطفة) غير أن هنالك رؤية تقفز بعيداً لتمتد نحو الأزمنة وهذه حالةٌ استثنائية.

هنا يتضح لنا أن جوهر الفن هو التنفس الحر (التخيل المحض) شرط أن يمتلك منطقاً ولو سرياً لذلك التنفس البدائي، كذلك فإن التخيل والخيال الفاعل ما هو إلا احتجاج شفاف ومشاكس بذات الوقت، لأنه يسرح خارج حدود المعهود ليعود له مهشماً أو مطوراً. ولكن لماذا؟ لا بد من أن يكون الفن محتوياً على قدرٍ مثيرٍ من الدهشة أولاً (إذ لا وجود لفنٍّ بلا دهشةٍ جماليةٍ أو معرفيةٍ، وإذا توفر هكذا نوع من الفنون -غير الإدهاشية- فما هي إلا ضربٌ من التعليمية و الشعارية الزائفة الضيقة الأفق، تتطفل على فضاء الفن)، إن الدهشة هي أرقى بواعث الخيال الإبداعي لتحفيز الذهن البشري للشريك (المتفرج) حيث أنها لا تسهل عملية الهضم مجاناً بل تفتح أمامه الحقائق الأكثر سريةً والأكثر كونيةً، والخيال هو المصدر والمولد الحقيقي لكل أنواع هذه الدهشة التي تحطم منطقية القاعدة (المتحفية /الواقعية) والخيال هو وحده القادر على أن يتحدى الجاذبية الروتينية بالانفلات نحو عوالمه اللامنجزة ثم يعود إلينا بابتكارٍ قابلٍ لإثارة الجدل ويحقق التخاطب الذي يتم فيه التكاشف والبوح الوجداني والذهني، لذلك يلتقي المبدع (الفنان) مع العالم والفيلسوف في نقطة تغيير أو تطوير الحياة، لأن عمله قائمٌ على المنطق (المنطق المتحفي، والواقع الباطني، والخيال المتجسد) هكذا يرسم الفنان في عمله الإبداعي صورةً للعالم كما يراه ويلغي سلطة السائد والسلفي من قاموس الحواضر الذهنية لدى الآخرين، وسلطة الخيال ليتمكن من تحطيم عروش الماضي وخلع ملوك السلف المتآكل.

جماليات الخيال:

 إن منطق الفن يحمل سلامة نواياه الواضحة لأن إنتاجه لا يشكل خطراً اجتماعياً أو اقتصادياً أو ما شابه ذلك ولذا نجده (يغير، ينفي، يشذ، يقلب، يتطرف، يتموقف) بواسطة خياله المتحفز ويحيل الأشياء إلى غير ما هي عليه في الواقع (الأزمنة، الأمكنة، الأفكار، الأحداث، اللغة، الألوان، الكائن البشري ..الخ) ويحيلها إلى منطقه الخاص الموازي والمجاور لمنطق الواقع دون أن يتساكن معه أو يتمازج وإياه، كذلك نجد أن جماليات المنطق الفني تكمن في صياغة نوعٍ من أنواع الدهشة (العقلية أو الوجدانية) تلك الدهشة التي تحتاج إلى خيالٍ يحرث الكنوز التي تقف أمامها لتسمو بنا معرفياً وجمالياً عن تلك الجاذبية الروتينية لحركة الواقع، ولتهشم المنطق الفني المتخيل للأبجديات المتعارف عليها، ولتسمو بنا إلى خارج حدود المدارات المغلقة وتبحر بنا إبحاراً حراً وواعياً، بيد أننا نجد بشكلٍ آخر أن الخيال هو تلك الساعات واللحظات الجمالية التي لا تفني العمر، غير وصفه بأنه مجرد وهمٍ يحبط الكثير من آماله، وما الوهم إلا كذبٌ أما الفن فلا بل هو حقائق تمتلك منطقاً يكمن خارج المدرك الواقع البسيط، وهذا ما يجعله مهدِّداً وخطراً بالنسبة لأولئك اليوميين الروتينيين (وأعني بهم القاموسيين والمتحفيين وأصحاب الخطط الوظيفية الجاهزة للإبداع).

 

 

منطق الخيال/ منطق الواقع:

لا أعني إطلاقاً بالخيال القطيعة مع الجذر الضروري المتواصل مع الواقع، لأن الفن لغة اتصال، ولا شك بأن هذا الاتصال يعني وجود الباعث (المرسل)، والمتلقي (المرسل إليه) ولا بد من التوفر بينهما لغة تخاطب (المضمون /الرسالة) والأميز هو ما أعني به المنطق السري /الخفي.

إن وجود منطق ما في سرية العمل الفني ضرورة تمنعه من التأرجح والتخبط العشوائي، وإن المنطق الخفي في العمل الفني يساعد على ولوج الهدف وسلامة الرحلة التخيلية وطمأنينة الوصول والعودة إلى الحياة بعد رحلة الخيال التغيرية البحتة، وهذا ما يفرق بين الهذيان الفنتازي والخيال الفني، فالأول يحلق دون دراية أو وعي بشريكه -المتلقي- على العكس من المبدع الذي يعي ضرورة التحليق والعودة إلى الواقع وضرب الصميم والجوهري، ولكن أي منطق يحتويه الخيال الفني الإبداعي؟ لا نريد أن نعطي شفرات جاهزة فهي مسألة معقدة للغاية وشائكة إلى جانب كونها تخضع بشكل رئيسي للتجربة والاختيار والوعي الذاتي للمبدع، فهو الذي يقرر (المنطق الذي يريده) ولكن لابد من الإشارة عموماً إلى أن هناك منطقين يحتويهما الرحم الإبداعي خفية وعلانية هما (منطق المنجزات السلفية /والمنطق المتولد عن وعي وعمل المبدع نفسه)، الأول يتبناه المبدع وذلك تبعاً لوعيه الجمالي والمعرفي الحر، وفي الوقت الذي يبتكر فيه بالتخيل المتجسد، فهو لا يعلن بشكل مباشر  ذلك أنه لا يعمل (كبوق) لذلك المنطق الذي ينصهر من خلال العملية الإبداعية ليأخذ شكلاً فنياً خاصاً، كما أن أصول هذا المنطق متوفرة في مصادره الطبيعية ويستطيع المتطلع الرجوع إليها دون الحاجة إلى وسيط فني يحيله إلى لغة فنية، هذا بالنسبة إلى الفنان التقليدي، أما ذلك الفنان الذي ينفي و يحتج فهو يجنح إلى توليد منطقه الخاص (المنطق الثاني) وفي الوقت نفسه لا يعلن عن ذلك المنطق الفني الخاص كشعار أو مقولة معرفية جافة، بل يولد من العملية الإبداعية كعنصر خفي متوحد فيها داخلياً، وضرورة هذا المنطق تأتي من أنه يحمي العمل الفني من التبدد والتشظي والضياع، إذ يولد بسرية ولا يتم الكشف عنه إلا بالتأمل الحسي والعقلي معاً، فهو يستبطن العمل الفني والعمل الفني يستنبطه بدوره، وهذا ما نجده عموماً في الأعمال الفنية المعاصرة كالفن التشكيلي والسينمائي والمسرح والموسيقى بل وحتى في الأدب نفسه، فالمنطق الخيالي التصوري والذي أصر على وصفه بالخفي    لا يعني إطلاقاً الوضوح والبساطة في عملية الهضم، لأن مسألة الإدراك تتصل بقضية التلقي وهي قضية أخرى لا نريد مناقشتها هنا، لأنها تتصل بخصوصية المبدع، وتكون البنية الاجتماعية العامة، وطبيعة الطروحات وقدرتها على التفاعل والتأثير بالآخر.

هنا لا بد من توضيح مسألة أخرى حول المنطق المتخيل أو الخيالي، فهو ليس بالضرورة قيداً ألفه حول عنقي أو عنق العمل الفني، ذلك لأنه يختلف عن منطق الحياة المادية والمعنوية، والذي أتعامل به مع المجتمع (دينياً    أو أيديولوجياً) إنما المنطق الفني هو العمود الفقري الذي ينظم الوحدة الهارمونية للعمل الفني، ويدفعه نحو استفزاز الذاكرة المعرفية والجمالية لدى المتلقي.

اللغة المعاصرة للتخاطب والخيال:

تبدو ابتكارات الخيال قريبة جداً من وعي أولئك الحيويين الفعالين، لأنها تخاطب عصرهم وتنمو بينهم لتمتد نحو الغد /المستقبل فتشارك بصياغة صورته، بينما تبدو معقدة وغير رصينة (تهويمية) بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في الماضي ويواصلون المحافظة على لغة الخطاب القديمة، أولئك الذين يتذوقون العمل الفني كما يفعل عامة الناس أيام عصـر النهضة -على سبيل المثال- وهو يبدو كذلك بالنسبة لأولئك الذين تمسكوا بمعالم النظريات القديمة، فلا يحيون عصرهم بل هم أشبه بأشباح تعيش في الماضي، أو هم أشباح الماضي التي تعشش في الحاضر، وتحاول خنقه بلغة الماضي وابتكاراته السلفية.

منطقة الخيال:

بما أن (الخيال) احتجاج قائم على الوقائع المنطقية المتعارف عليها بشكل شائع لذلك فهو يرحل إلى منطقة سرية وغامضة لكي يستشف أحلامه ويسد حاجاته مبتكراً حلولاً ستصبح منجزاً عملياً بعد مرورها بمناطق العقل المختبرية، إذاً نستطيع أن نطلق على منطقة أو ساحة الخيال -إن صح التعبير- تسمية (الفضاء الميتافيزيقي) ذلك لأنه عالم لانهائي وغير خاضع للبحوث و الكشوفات الجغرافية المادية إطلاقاً، لكن هذه المساحة نجدها تتصف بصفتين أو تنقسم إلى قسمين:

1-الميتافيزيقيا العاطلة.

2- الميتافيزيقيا الفاعلة.

الأولى عاطلة لكونها مشتتة لا تملك أي منطق خاص، أو لغة واعية تعبر عن مكنونها، و مكنونها لا يملك بدوره حلولاً جمالية أو معرفية، وهي على الأغلب ميتافيزيقيا تخديرية تهدم وتلغي فعالية العقل البشري و منها (الميتافيزيقيا الصوفية المنغلقة /العصابية الجنونية /السريالية) لأنها تضع المتلقي أمام متاهة معتمة لا حدود لها.

أما الثانية فهي على دراية تامة بحاجاتها، بل تمتلك منطقاً قابلاً لإثارة الجدل  والصراع، وهي لانهائية أيضاً، لكنها تؤدي إلى جوهر الواقع عن طريق ما تملكه من خزين فاعل من الحلول والمقترحات، لذا فهي لا تدعو إلى الانكفاء والعزلة بقدر ما تحرض على قلب وتغيير الواقع حتى لو بدت معقدة وغامضة للوهلة الأولى، لكنها في النهاية تملك المنطق القابل لاختراق جدار القاموس الواقعي وتغيير مفاهيمه ومحدداته، وبالتالي فهي ميتافيزيقيا الفنان المبدع عموماً.

لذلك فالمبدع يعي تماماً هاتين المساحتين ومخاطرهما، ويمتلك وعياً إبداعياً يحصنه في اختيار الأسلوب والاتجاه الذي يريد أن يثمر فيه مقترحاته و احتجاجه الجميل، لذا فهو يتخيل ويتصور لا لأجل التخيل بذاته بل ليفعل، ويكاشف، ويبوح، ويتخاطب مع جوهرية و كوامن الكون والطبيعة والواقع الاجتماعي، بالكشف عن المساحة الميتافيزيقية الفاعلة المغيرة والمطورة للحياة عموماً، لذلك أود أن أشير إلى بعض الكشوفات التخيلية وكيفية الإتيان بها -وهي ليست آخر ما نتوقع بل هي مجرد كشوفات سلطة التجارب الماضية- منها:

1- نظرة ثاقبة وعميقة للواقع (الواقعية الدقيقة) بعين التراجيديا أو السخرية.

2- تحييد الواقع المادي وابتكار واقعٍ مغايرٍ لكشف اللامتوقع واللامنتظر واللامرئي في هذا الواقع.

3- زاوية خاصة ومتفردة بالنظر إلى الواقع، زاوية حرجة وقياسية لم ينتبه لها أحدٌ من قبل.

4- تدشين الحقائق الجديدة.

5- خلط المتناقضين.

6- تجريد الواقع.

7-أسطرة الواقع.

1989   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مسرحية كاليغولا / إخراج المؤلف/ العراق  الجسد مقابل المكان

الجسد فضاء العرض المسرحي

 

توصيف المكان والجسد

بدءاً علينا أن نميز بين المكان كمثال والمكان كمصداق، فالمكان كمثال يقصد منه الفكرة المجردة والنموذجية الذهنية للأمكنة جميعاً، أما المكان كمصداق فيقصد منه المكان والبيئة أو الطراز المحدد لموقع ما بعينه، والمكان الذي يتصل بهذه القراءة هو جميع يتعلق بمفهوم المكان من الناحية الذهنية والفلسفية، كذلك هو ما يمت بصلة لمفهوم الموقع والبيئة والتضاريس الجغرافية، والمكان المسرحي، المعمار الاجتماعي والثقافي الذي يضم منصة التمثيل وصالة المتفرجين على اختلاف أشكالها، والمكان المعطى في النص من قبل المؤلف بصفته أرضية وإطار للحدث المسرحي، كما أنه الموقع التاريخي المرتبط بالحادثة الدرامية، والمكان الشرطي الذي تفترضه الوظيفة والمكانة الاجتماعية للشخصيات، وأيضاً المكان المتخيل والمتجسد على المسرح من قبل عناصر السينوغرافيا "المادية واللامادية" بشكله الواقعي والتجريبي، والمكان بصفته كمفهوم يتعامل داخله الممثل مع الممثل الأخر والشريك/ المتلقي، وبالنتيجة هو المكان "المفهومي" الذي ينتزعه المتلقي من العرض ويميله إلى المكان المغروس في ذاكرته الجمعية وحول كل هذه الأمكنة تدور نظرتنا هذه.

أما الجسد فنعني به المركب المتكامل عضوياً وذهنياً، مبتكر الرسالة/ حاملها والمعبر عنها بأنظمته ومركباته الشاملة(العضلات/ الأعصاب/ الطول/ الحجم/ الياقة /القلب/ المشاعر/ الخيال/ السلوك/ الذائقة/ الوعي/ الابتكار و المغايرة/الإرادة... الخ) وبالتالي فهو الممثل المقدس حامل الرسالة الكونية بالضد من الممثل (الاستهلاكي) أو الكائن البهيمي.

ما من نظرية معاصرة في فن الإخراج المسرحي إلا وقد وضعت فلسفة جديدة في المكان للعرض المسرحي، ذلك أن المكان هو المتعرض الوحيد للتغيير في أي تحديث اللعبة المسرحية، وما تغيير المكان كمفهوم وكمصداق من خلال المفاهيم الجديدة إلا تغيير لوضع ودور المتفرج إزاء الحدث الدرامي وإرساء أيديولوجيا جديدة تتعلق بفن التلقي، تهدف في النهاية إلى خلق نوع من العلاقة بين المبدع والمتفرج بما يجعلها شركاء في إنتاج العرض معرفياً وجمالياً.

لذلك نجد أن طروحات المحدثين من منظري ومخرجي المسرح (أمثال غروتوفسكي في نظرية المسرح الفقير وبيتر بروك في نظرية المكان الخالي) تدفع هذه العلاقة إلى أقصاها حسب صياغة العرض، يتم فيها إزاحة كل شيء مساعد وثانوي من عناصر السينوغرافيا المسرحية لصالح الفراغ والممثل (الجسد والمكان الخارجي) بما يتيح لهذا الجسد الكشف عن إمكانياته الهائلة في التعبير والإيحاء عن الأمكنة عبر نحته الحركي داخل الفضاء الجمالي والمعماري إضافة إلى أدائه للشخصية المسرحية وكذلك بإتاحة فرصة واسعة للمتلقي بمشاركة الممثل بتخيل وانتزاع الشكل الغائب عن حيز الرؤية والتجسيد المادي.

وهذا يعني إن حذف (بروك و غروتوفسكي) للمكان وعناصر السينوغرافيا لم يتم إلا على الصعيد البصري لا المعرفي، حيث تم حذف المكان كمصداق متجسد من خلال عناصر السينوغرافيا وتمت إحالة المكان كمفهوم إلى مستوى الخلق الإيهامي، عبر الإيماءة الجسدية التي يرسلها جسد الممثل والتي توحي دلالياً لمكان ما بعينه، وهنا يظهر المكان من جديد بصفته مفهوماً عاماً قابلاً للقراءة والتأويل في ذهن المتلقي الشريك في العملية الإبداعية وإحالته إلى المكان المغروس في ذاكرته الجمعية.

أننا نجد أن المحافظة على بقاء المكان كمفهوم فلسفي وكفراغ جمالي وبصفته عنصراً نداً وشريكاً للجسد سيجرنا في النهاية إلى العودة والالتزام بتجسيد إمكانية كبيئة محددة أو معمار معين أو تضاريس أي المكان كمصداق للذي تم حذفه بصرياً.

بينما المفهوم الأكثر وعياً للدراما والعرض المسرحي المعاصر ينبغي على تأكيد مفهوم المبدأ وإطلاق كوامنه الخلاقة وحذف ما دونه بما فيها المكان (المفهوم  والمصداق) وكذلك الفراغ الفيزيائي الذي يتم فيه النحت الحركي، ذلك أن الجسد هو صانع العرض الوحيد والرئيسي عبر مركباته الكاملة (العقل والروح، الأعضاء، المهارات) ولكي نتحقق من ذلك علينا أن نعاود حفر الأسئلة من جديد:

ما هو جوهر الدراما بوصفها الشاغل الوحيد والحقيقي للعرض المسرحي؟

الدراما في ملخصها عرض لنماذج بشرية، أنماط سلوكية وأخلاقية وأنواع من الرغبات وطرق متعدد في التفكير تتصارع في إطار محدد (اجتماعي/ ذهني/ فلسفي / مادي/ ميتا فيزيقي)، ذلك أن جوهر الدراما هي الشخصية الإنسانية قبل كل شيء آخر، وما اختلاف فن العرض إلا في أساليب عرض هذه الأنماط والشخصيات بإيجاد أشكال جديدة وحيوية لها (يقول بروك في كتابه المكان الخالي: ليس المهم هو الانفعال بل نحت أشكال جديدة له) وما اختلاف المذاهب والتيارات والمناهج في الكتابة إلا في طرق طرح ومعالجة هذه النماذج الإنسانية عبر فلسفات مختلفة.

ولذلك لو بحثنا في مكتبة الدراما المسرحية (التراث الأدبي) لوجدنا أنها أفكار تمت صياغتها على شكل حوار تردده ألسنة الشخصيات المرسومة والمجففة في علب النص أو السيناريو المكتوب، تبحث هذه الشخصيات وبالضرورة عن فضاء أو حيز وجودي حقيقي يبث فيها الحياة والحركة من جديد، وأهم بحث يشغل الدراما هو البحث عن الحيز الجمالي والمعرفي الخلاق الذي يحتوي هذه الشخصية ويعبر عنها إبداعياً،  أي مهمة البحث عن الممثل المبدع الذي يستطيع أن يتبنى ويولد هذه الشخصية من جديد بشكل متفرد يبعث على الدهشة ويجعل منها كائناً حياً قابلاً للإدراك والتفاعل مع المتلقي.

ولأن الشخصية تتوافر على عناصر محددة من قبل المؤلف أو المخرج     أو الممثل أو الثلاثة معاً ومنها (الصوت/ اللغة/ الانفعالات/ الرغبات/ الوعي /الإرادة/ السلوك وكل ما يميزها من الذوات الأخرى هذا بالإضافة إلى المحددات الكلاسيكية للشخصية: البعد الجسماني/ النفسي/ الاجتماعي) لذلك فإن البحث يتحدد بإمكانية العثور على الحيز الجسدي الذي يمتلك نوعاً من الإمكانيات الخلاقة الدفينة القادرة على ابتكار الشخصية المؤلف  أو المكتوبة ويمنحها القدرة على الحياة مجدداً. وما فضاء جسد الممثل ومركباته إلا حيز حيوي يشكل حجر الأساس في البحث الإخراجي الأولي لصنع دراما العرض المسرحي.

وبذلك تكون نقطة الانطلاق الإبداعية الأولى والرئيسية تتجه بالضرورة نحو العثور على هذا الجسد - المكان والحيز - الفاعل والمتلائم مع الشخصية قبل البحث عن العناصر السينوغرافية الأخرى تؤكد هذا عدة أمور:

أ- عدم قدرة العرض المسرحي على تجاوز الممثل على الرغم من استغناءه عن عناصر أخرى كانت تعد مهمة في صناعة العرض.

ب- إن قراءة الشخصية وتحديد أبعادها من قبل المخرج "قراءة مغايرة" يعني توليد متغاير ومتفرد وجديد للشخصية، ولهذا تختلف محددات الممثل من مخرج لآخر لأداء شخصية ما بعينها.

جـ- إن أي أداء إبداعي ومغاير لشخصية ما محددة يعد ولادة لمرة واحدة وللأبد لن تتكرر عند الممثل نفسه بأدائه الشخصية مرة ثانية، ولا يشبه نفس الشخصية بأداء ممثل آخر، والشخصية بأداء نفس الممثل ليست هي كل ليلة عرض ذلك أنها تنمو وتتطور مع تطور الممثل  وأداؤها من قبل اثنين أو أكثر من الممثلين يعني تعددها لا أحاديتها، والشخصية الدرامية العظيمة هي التي تقبل هذه التعددية فالقراءة والتجسيد والولادة.

ولهذا يعد ظهور الممثل بمثابة ظهور الفضاء الفاعل والحيوي وإحياء الدراما والتعبير عنها بشكل خلاق إلى حد الدهشة  وتفجير لا وعي الشخصية والدراما، واكتشاف اللامنتظر و اللامتوقع منها والذي لم يأتي على ذكره المؤلف نفسه، وفضاء جسد الممثل بمركباته المتكاملة بهذا يعد هو الفضاء الرئيسي الفاعل الذي بدونه لا تتحقق الدراما وعرضها المسرحي.

عند تداخل الشخصية بذات الممثل وتضاريس كيانه ستنمو لها "يدان ورئتان وسلوك وانفعالات، خيال ووعي و شطحات" حيث تطلق صرخة ولادتها من رحم الممثل (جسده) لتتكاثر في أذهان المتفرجين فيما بعد.

وانطلاقاً من هذا الفهم نجد أن حذف العناصر المساعدة في صياغة العرض المسرحي "السينوغرافيا" وتهميش أهمية ظهور المكان كمصداق متجسد، كإطار وخلفية للحوار المسرحي ليس ذو أهمية بالغة في العمل المسرحي المعاصر، ذلك أن العرض المعاصر يهدف إلى تقديم وإحياء الذات الشخصية الإنسانية وأنماط تفكيرها وألوان معاناتها وطرق حلولها بشكل تجريدي يعطي للدراما بعداً كونياً، شمولياً ويحررها من قيود الحدود المكانية والزمنية التي تحد من انغلاقها.

كذلك نجد أن حذف المكان (المصداق) والمحافظة على (المفهوم) كما هو عند غروتوفسكي وبيتر بروك - لا يعد إلا احتيال والتفاف على الوعي الجماهيري لفهم الدراما. حيث ستضاف إلى الجسد مهمة تجسيد الأمكنة والأزمنة والإشارة لها عبر تقنين الحركة داخل الفضاء المسرحي، وهذا ما يعني حصر الجسد وتقييده بمهمة لعب دور السينوغرافيا في صنع الأمكنة والإيماء بها مما يعني أن الجسد هامش للأمكنة، وبذلك يصبح الجسد إشارة إلى ما دونه، إلى الغائب في لعبة العرض/ بينما نجد أن الجسد غير معني بتجسيد هذا المحذوف (الأمكنة، الأزمنة) ذلك أنه وعبر تنشيطه الإبداعي سيتحول إلى المكان والزمان والذات الإنسانية في لحظة نشوء الخلق وهي تتجه إلى ذهن المتلقي تساوي الجهد الدرامي الإبداعي.

وهكذا كان يجدر بالمخرج المسرحي (الباحث، المبدع) حذف المكان كمفهوم بعد أن تم حذفه بصرياً بما يمرر الطاقة الإبداعية لدى الممثل وعدم إثقاله بمهام لا جدوى منها جمالياً أو معرفياً، ذلك أن الجسد هو التجسيد والمجسد معاً، وما تصارع الشخصيات (والذي هو جوهر الدراما) إلا مجموع أمكنة وأزمنة وأفكار متعددة في لحظة الفعل الدرامي تجسد بشكل مادي ومعنوي.

فكل شخصية حامل لفكرة وكل فكرة تحمل دلالة زمنية بالمعنى الفلسفي   لا الفيزيائي.

كذلك فإن الشخصية الدرامية الكبيرة هي تتجاوز أطر المكان الذي تعيش فيه لتمتد إلى مختلف العصور والأزمنة (هملت، كاليغولا، نورا، فانيا...الخ) ولذلك لم يعد المكان الاجتماعي يشكل ضرورة لبروز وولادة الشخصية الدرامية التي تتولد عبر مختلف الأزمنة والأمكنة، كما أن الأزمة الوجودية التي تعاني منها الشخصية الدرامية هي أوسع من دلالة أي مكان أو زمن ما محدد ذلك أن الأسئلة الوجودية الكبرى هي أسئلة أزلية (أسئلة هملت، طموح كاليغولا...) وهذا يعني بالضرورة أن الدراما الحقيقية هي دراما الأسئلة التي تمتد لتعانق جسد الممثل في الآن/ والآتي  على حد سواء.

أما الأزمة التي تثار حول إمكانية الجسد في التعبير عن الأمكنة والأزمنة فهي مشكلة تشغل بال الباحثين من المخرجين والفنانين الإقليمين والمحليين أولئك المعنيين بدراما الحدث اليومي المحدد والتي تحمل موتها معها، كذلك تشغل هذه المشكلة العاملين في حقل الإيماء "فن البانتوميم" والذين يعتبرون الجسد على أداء صورة المكان والزمان بما يجعله لوحة إرشادية ووسيلة إيضاح لا غير لأجل أن يهضم المتلقي العرض بشكل استهلاكي ونمطي.

لقد مر عهد طويل لعب فيه دور المعلم والمرشد الجغرافي والتاريخي و قد آن الأوان لغلق هذا الكتاب وفتح باب الدراما المطلقة والمعبرة عن شمولية المعاناة الإنسانية وتحديها الحدود وتوالدها المستمر في أذهان المئات والآلاف من المتلقين ذلك أن موت الدراما الحقيقي يكمن في إسدال الستار وانصراف المتلقي عنها ذهنياً والانشغال بغيرها وغير أن الدراما الكونية هي التي تولد لحظة إسدال الستار في التأويل الذهني لدى مختلف المتفرجين وانشغالهم بها سلباً أو إيجاباً نحو تغيير ما في الذهن أو الروح.

 

الجسد والأمكنة

الجسد ليس مكاناً بل أمكنة محتملة ومفترضة تقترحها المخيلة الفنية ومنها:

أ- الجسد هو المكان المفترض في الصياغة الأدبية للشخصيات في النص من قبل المؤلف والتي يتلقاها المخرج والممثل.

ب- الجسد هو المكان الافتراضي الذي يقترحه المخرج "بوصفه العقل المدبر للعرض المسرحي" وحسب رؤية جمالية ومعرفية معينة.

جـ- والجسد هو أيضاً المكان الديناميكي اللامؤطر والحركي، النابض من خلال الممثل، أي الجسد ومركباته المتكاملة باتجاه المتفرج "المتلقي".

د- وهو المكان الذي ينتزعه المتلقي من قراءته التأويلية للعرض جمالياً ومعرفياً، فكل صورة لحركة الجسد نحتياً تحيل ذهن المتلقي إلى مكان ودلالة في الذاكرة الجمعية لديه، وما تعدد الأمكنة في مختلف أذهان المتلقين إلا تعدد لأوجه الدراما والجسد.

غير أن الجسد الذي نتحدث عنه بصفته صانع الدراما وفضاءها الحقيقي لا ينطبق على جميع أنواع الأجساد والممثلين في المسرح ولاسيما مسرحنا العربي، إنما ينفرد به ذلك الممثل المفجر والخالق للدراما، الذي يسميه غروتوفسكي (بالممثل المقدس) بينما يبقى الممثل الآخر يؤدي موت الشخصية والدراما في أداءه الوظيفي وتعكزه المستمر على العناصر الأخرى في الفراغ المحيط به ومواد وسنوغرافيا، ذلك إن الإبداع الدرامي لديه مجرد (مشي وكلام) مما سيؤدي إصابة العرض بأحادية وسيادة سلطة المألوف والمستهلك على فضاء الإبداع هذا بشقيه المُجسِّد والمُبِدع المُتلقي.

وإذا ما أصر البعض على أهمية الفضاء كمعمار (ذلك أن الجسد لا يمكن له أن يكون إلا داخل فراغ فيزيائي) فإننا نعتقد أن سر تركيز المتلقي على حركة الجسد وإحالاته الجمالية ودلالاته المعرفية من قبل المتلقي، حذفاً حقيقياً لذلك الفضاء بعدم الإصغاء إليه في الوقت الذي يتم فيه التركيز على هالة الجسد ودلالاته الحركية المتتابعة.

 

 

قراءة مقترحة لبينة العرض/ بنية الجسد

أ- الرأس/ الدماغ/المخرج

وهو الخطاب المعرفي بشتى أنواعه، الرأس هو محل القيادة في الجسد (العرض) وبتنظيم إستراتيجية وأيدلوجيته والتحكم بسير فعالية أعضاءه (الممثلين)، الرأس= مدينة الحواس (الشم، اللمس، التذوق، النظر، السمع) وبذلك فهو الجسر الذي يتواصل به الجسد مع العالم ويتحكم به ويغيره ويتعامل معه، وهو سلطة النطق ومنبر الخطاب، الرأس= المخرج الذي يدير العملية الإبداعية ذلك أنه واضع استراتيجية العرض ومركز إصدار الأوامر وهو مركز المقترحات الفكرية والجمالية المختلفة الواردة إليه من الأعضاء (الممثلين) وهو المسؤول عن إيجاد الحلول والبدائل، وهو القمة، رأس الهرم لهيكل الجسد ولهيكل العملية الإبداعية وبدونه يغدو الجسد/ العرض/ فوضى/ شيزوفرينيا محضة.

 

ب- الأجهزة الهضمية/الورشة المسرحية:

كالمعدة والكبد والغدد الأمعاء... الخ، تشكل العمليات المعملية الداخلية غير المرئية التي تهضم الطعام وتحيله إلى طاقة تمكن الجسد من مهاجمة ومصادمة الواقع والتفاعل معه، وبالتالي الأدوات التي تمكن العقل من إنتاجه الفكري والجمالي والعلمي، التطبيقي والإجرائي، فهي إذن بمثابة الآليات الفنية والكوادر التي تهضم الثغرات والأوامر الصادرة عن "الرأس=المخرج" وتحيلها إلى قوة تمكن الجسد من تجسيد رؤيته بشكل خلاق، وبالتالي فهي الآليات الخفية التي تحرك ديناميكية "العرض= الجسد" دون أن تكون مرئية.

وبينما يصبح الغذاء المحال بعد هضمه إلى خلايا وأعصاب وعضلات تقوي العقل وتمكنه من إنتاج المعرفة والجمال، فإن المعارف والمعلومات الخارجية عن الدراما وفن العرض التي يستخدمها المخرج كخبرات في صناعة عرضه المسرحي تعد هي الغذاء المهضوم والمتحول إلى قوة ذاتية دافعة.

 

جـ- الأعضاء الخارجية/جسور التلقي:

وهي المظهر الخارجي الذي تتجسد من خلاله الديناميكية الداخلية لعمل (الرأس والأعضاء الداخلية) وهي الوسيلة التي تتجسد بها المعرفة والجمال المبتكر وتتحقق بها إرادة الجسد=العرض وبالتالي فهي الجسور التي من خلالها تكون حركة وفكر الجسد مدركة "أي الممثلين وحركتهم الدلالية بما يجعل العرض مدركاً" وبدون هذه الأعضاء لا يمكن فهم مقدرات العقل وإرادته واختياراته وبدونها أيضاً يعجز الجسد وإن توفر له العقل والأعضاء الداخلية للتعبير عن مبتكراته وممارسة نشاطه، وبذلك فهي بمثابة "الممثل" الكاشف والمجسد لأهداف العقل/ المخرج والمتوج لطاقة الأعضاء وآليات ومعلومات وتقنيات.

د-

 يبقى أن نذكر هنا أن الجسد يعمل بديناميكية شاملة (بانو رامية) واسعة، حيوية متوازية ومتعددة بنفس الوقت (العصارات الهضمية تفرز، المعدة تهضم، القلب يضخ الدم، العين تراقب، العقل يتأمل ويستنتج، اليد تتحرك...)

ومثل ذلك النوع من العمل البانورامي يجب أن يعمل العرض وبحيوية تشمل جميع عناصره ومكوناته خارج تلك الرؤية الهندسية وعناصر التركيز التقليدية السائدة بسيطرة نوع أو حركة في كل لحظة من لحظات العرض مما يجعل العرض أحادى الإبداع والتلقي، إن عروض مسرح "البؤر المتعددة" هو تجسيد حقيقي لهذه الرؤية بصنع نوع من العروض البانورامية الديناميكية الحية تجعل من العرض موازي لفعل الخلق والحياة، مسرح العروض الطقسية الكونية القائمة على وحدة المشاركة والانفعال.

 

هـ-

 وكما للجسد والعقل شطحا ته ولا شعوره وأفعاله الإرادية واللاإرادية، يجب أن يتمتع العرض بهذه العفوية من الشطحات التي تنقذه من الهندسة الصارمة في الحركة القصدية المحدودة.

 

 

و-

وكما للجسد روح تضمه وتختفي في ثناياه، روح سرية ومحركة ودافعة للجسد، يجب أن يتوفر للعرض الطقسي معاصر، هذه الروح الحاضرة المحركة والمتخفية في ثنايا عناصره جميعاً.

ن-

لكل جسد إيقاعه وطباعه، كذلك فإن لكل عرض، ولكل مبدع (إيقاع) وذائقة يختلف ويغاير من خلالها المنجزات الفنية الأخرى، وكما أن جسد (الأب) يولد العديد من الأبناء، فإن المخرج يولد إيقاعات ديناميكية (عروض) مختلفة قد تتقاطع فيما بينها.

 

عودة الى الرئيسية

عودة الى الطقس المسرحي

دير الملاك

كتابة السيرة على الماء

ماكتبته الصحافة

تحت الطبع

نصوص خشنة

الحياة تبدأ غداً

مواقع

الآن

مفتتح