مسرحية

ليس لدى الكولونيل من يكاتبه

رواية : غابريل غارسيا ماركيز.

 

مقترح لفضاء العرض:

( بيت الكولونيل ، غرفة كبيرة يتوسطها سرير غالباً ما تحتله الزوجة وهي غارقة في  هذيانها وحياكة كفنها ، في عمق اليمين خزانة حديدية قديمة ، يقطع العمق ومن اليمين إلى اليسار حبل غسيل علقت عليه مختلف أنواع الملابس المهترئة، ساعة جدارية معلقة بشكل مائل، إطار لصورة الابن القتيل، في مقدمة اليسار ثمة كرسي هزاز غارق بالصحف اليومية هو مكان  الكولونيل، شماعة ملابس خلف الكرسي... في جهة مقدمة اليمين ينتصب الديك "محنطاً"... )

 

الحركة الأولى

 

(الزوجة تصلي بجانب السرير)

الزوجة :        طوبى لأنقياء القلوب لأنهم سيرثون العالم... أزور قبر ولدي كل يوم سبت... قلت له ألف مرة اترك مصارعة الديكة إنها تجلب النحس ولكنه لم يسمع كلامي... ظل يحمل ديكه كل يوم أمام الناس... يا ولدي إنهم يحسدونك... يتآمرون عليك... أخيراً... آه... أمطروا ولدي بالرصاص  في حلبة المصارعة... قتلوه الأوغاد... يا الله كيف تركتهم يقتلونه... كيف تدعه يموت... أصلي كل يوم من أجله ولكني لا أزال غير مدركة كيف يسمح الله لأطفال بأن يموتوا، يقتلوا، يعذبوا قلوب أمهاتهم بهذا الشكل... طوبى لأنقياء القلوب لأنهم سيرثون العالم...      

( يدخل  الكولونيل يحملها يضعها فوق السرير، يفتح علبة القهوة، يجدها فارغة يرميها... )  

الكولونيل  :        لا شيء... لا شيء... إنه الشتاء... أشعر بأن عظامي رطبة... منذ بدأ المطر يهطل وأنا أموت في هذه الرطوبة...  

الزوجة    :        ألف مرة قلت لك بأن تنام لابساً جواربك...  

الكولونيل  :        منذ أسبوع وأنا أنام بالجوارب...

الزوجة    :        وهذا الديك ماذا يفعل هنا... إنه يقززني... لِمَ أدخلته إلى هذه الغرفة... هل تتعمد إزعاجي؟... لا أريده هيا أخرجه بسرعة... إنه ينظر إلينا ونحن ننام معاً في السرير...   

الكولونيل :        يا امرأة لا أستطيع تركه في الخارج فالأطفال ينظرون إليه طوال الوقت والديكة تتآكل من كثرة النظر إليها...       

الزوجة    :        ليتآكل... ليموت... ليذهب إلى الجحيم ألا يكفي أنه كان السبب بمقتل ولدي... أخرجه...   

الكولونيل  :        هنالك ميت في القرية (فترة صمت)      

الزوجة    :        ميت؟ ميـ... ت...؟! مات حقاً؟!  

الكولونيل  :        نعم... ياه... يا للشتاء... لابد أن دفن المرء في هذا البرد شيء رهيب... إنه بعمر ولدنا تماماً... إيه مات... لا بد وأنه التقى مع ولدنا الآن... ولا بد أنه حكى له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد معرفة... هاه؟... ماذا؟

الزوجة    :        ماذا هل تسمعهما؟   

الكولونيل  :        نعم.  

الزوجة    :        ماذا يقولان.      

الكولونيل  :        إنهما يتناقشان عن الديكة...     

الزوجة    :        يا للهراء... يا للميت الجاحد... ألم نوصيه أن يخبره عن حالتنا.       

الكولونيل  :        كنت أمزح معك... هل صدقتي أيتها الزاهدة؟! هيه انظري إلى مظلتنا كيف صارت... إنها كمظلات مهرجي السيرك... إنها تنفع الآن لعد النجوم فقط... كل شيءٍ هكذا... إننا نتعفن في الحياة!!     

الزوجة    :        ماذا تقول... عفن... خبز؟! وأين هو الخبز ليتعفن... أين؟  

الكولونيل  :        لا... لاشيء... اليوم لبست أجمل ما لدي... بنطال ليلة زفافنا... كنت كمن يذهب إلى حدث هام! حدث هام! نعم فهذا الميت هو الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة... بلا سرطان وبلا جلطة... مات هكذا وحسب! لا بد وأنني أبدو كببغاء؟      

الزوجة    :        هل شاهدت الطبيب؟.    

الكولونيل  :        شاهدته...  

الزوجة    :        وهل سألته لم لا يأتي... هل سكبت عليه ماءً ساخناً في هذا المنزل؟     

الكولونيل  :        قلت له ذلك.  

الزوجة    :        وماذا أجاب؟       

الكولونيل  :        قال سيأتي... إيه... كانت  القرية مجللة بالسواد والزهور... والنساء جلسنَّ أمام البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد... عند الساحة كان المطر يهطل ناعماً... ناداني صاحب البليارد (يقلد صوته) كولونيل... كولونيل... انتظر سأعيرك مظلتي (صمت) شكراً فالحال حسنة هكذا... أنا أحب المطر في هذه الفترة من الشتاء... دخلت إلى بيت الميت لأعزي والدته... كانت رائحة الزهور متنوعة... وشعرت بالحر... شققت طريقي وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم... وصلت ودون أن أدري لأقف أمام فتحتا أنف الميت... هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت... قلت لها... تعازي... ومشاعري... فجأة فتحت فمها وأطلقت نباحاً حاداً... شعرت بالذعر... فخرجت مسرعاً أبحث عن الهواء... أخيراً خرج التابوت إيه يا للمسكين... بدأت الموسيقا الجنائزية... إيه يا للمسكين.... وفي هذه اللحظة سمعت صرخة... إلى أين تذهبون بهذا الميت؟ صمت الجميع ولكني تساءلت... مجرد تساؤل... ماذا هناك؟... صرخ الشرطي... ممنوع... لا يمكن للجنازة أن تمر أمام مركز الشرطة... تساءلت بطبيعة الحال ولماذا يمنع مرور الجنازة أمام مركز الشرطة؟... صرخ الشرطي بي... هل نسيت؟... إننا في حالة طوارئ... تأسفت له... إنني دائم النسيان... حالة طوارئ هل سمعت؟... بسبب الطوارئ يمنع مرور الجنازة أمام مركز الشرطة (يضحك بشكل غير طبيعي هو و الزوجة، يختنق) ولكن هذا ليس تمرداً بل جنازة مسكين...    

الزوجة   :        حالة طوارئ... وما معنى هذا... طوارئ؟! ( تضحك ،صمت) ما بك؟ كولونيل ؟ هل مت ؟ 

الكولونيل :        لا... لا شيء...   

الزوجة   :        ماذا جرى لك؟   

الكولونيل :        إنه الشتاء يا زهرتي.     

الزوجة   :        عليك أن تعرض نفسك على طبيب.       

الكولونيل :        لست مريضاً... لست مريضاً... كل ما في الأمر أنني أشعر بأن حيوانات تنهش في أحشائي...                                                                       (موسيقا)    

الحركة الثانية  ( الكولونيل يعطي الذرة للديك ويغني قصيدة لوركا الشهيرة)    

الكولونيل :        الديكة... تحفر بمناقيرها الظلام بحثاً عن الفجر... إيه أيها الرفيق، الجميع يدخر المال ليراهنوا عليك... عليك أن تستعد أيها البطل.... الجميع يعتمدون عليك.

الزوجة   :        لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح، إنه أشبه بحيوان خرافي... رأسه صغير، وجسمه كبير. 

الكولونيل :        إنه أفضل ديك في المنطقة... يساوي حوالي الخمسين ألفاً...

الزوجة   :        خمسون ألفاً؟!... لِمَ لا تبيعه؟... بعه... خمسون ألفاً تنقذنا... أتسمعني؟ بعه... إننا نتعفن من الجوع ولا نستطيع إطعامه... وعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا.     

الكولونيل :        لا... أنها فقط شهور قليلة... فقد أصبح هذا البطل معروفاً... والمصارعة ستجري في كانون الثاني وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل...     

الزوجة   :        كانون الثاني؟... وماذا سنفعل حتى  يأتي كانون الثاني هذا؟... أقول لك بعه... إن هذا الحيوان الملعون هو السبب في موت ابني...

الكولونيل :        حسناً سأخرج... سأخرج رغم البرد.  

الزوجة   :        إلى أين؟. 

الكولونيل :        إلى البريد.       

الزوجة   :        (بعد صمت وبشماتة) اليوم هو الجمعة.      

الكولونيل :        أوه لقد نسيت

الزوجة   :        "تنفجر ضاحكة بشماتة" أنت دائم النسيان.

الكولونيل :        (بغضب) هذا الحذاء للرمي... إلى متى وأن ألبسه؟... إنه يبدو كأحذية الأيتام... كلما لبسته شعرت وكأنني هارب من ملجأ الأيتام... نحن أيتام حقاً... أيتام من نحن؟... نحن أيتام ابننا (موسيقى) أمس وقفت في الميناء أنتظر مركب البريد... كان الجو بارداً... جزعت من الانتظار والقلق... وفي النهاية شاهدته يرسو... شاهدت كيف أن البريد معلقٌ بأنابيب البخار... لقد شحذت حسي خمسة عشر عاماً من الانتظار فصرت أعرف مركب البريد... وكيس البريد... صعد موظف البريد إلى المركب... نزع الكيس وحمله على ظهره... بقيت أتابعه عبر المتاهة التي تمتد من الميناء وإلى مكتب البريد... في المكتب شاهدت الطبيب، كان ينتظر ليستلم صحفه... سألته... قلت له زوجتي تنتظر زيارتك... هي بحاجة لك... قال سيأتي... غير أن عيوني كانت تراقب موظف البريد وهو يفرز الرسائل... استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة... رزمة من الصحف... بعدها قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين... أنا بقيت واقفاً هكذا... فارغ اليدين... صحت للموظف وأنا؟... أجاب وبطريقته اللاذعة... لا شيء للكولونيل... 

الزوجة    :        لا شيء للكولونيل... نعم لا شيء...      

الكولونيل  :        لم أكن أنتظر شيئاً... قلت للطبيب هيا لنذهب فأنا لا أنتظر شيئاً... ليس لدي من يكاتبني... رجعت من الميناء برفقة الدكتور ورأسي مطأطئاً كمن يبحث عن قطعة نقود ضائعة... انصرف الطبيب إلى صحفه... سألته إن كان يسمح بإعارتي بعض الصحف... (يمتد أرضاً ويقرأ) قال خذها... إقراءها هذه الليلة وأعدها لي غداً...    

الزوجة   :        وماذا يوجد في الصحف؟...

الكولونيل :        أخبار.       

الزوجة    :        ما هي آخر الأخبار إذاً؟...

الكولونيل :        لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها... (يردد بعض العناوين البارزة)     

الزوجة   :        والانتخابات؟؟؟ هل ستجري الانتخابات؟ 

الكولونيل :        لا أمل في إجراء انتخابات... لا تكوني ساذجة... لقد أصبحنا كباراً على انتظار المخلص... عيب، هل تصدقين بهذه الخدعة التي يسمونها الانتخابات؟...     

الزوجة   :        أليس في الصحف شيئاً عن قدماء المحاربين؟.

الكولونيل :        لا شيء... لقد كانوا سابقاً ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين على التقاعد... ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريباً لا يذكرون شيئاً... (يخلع ملابسه ويعلقها على المشجب) في طريق العودة مررت أمام السينما... إنهم يعرضون الأفلام الإباحية فقط... منذ سنين وهم يعرضون هذه الأفلام السيئة ولجميع الأعمار... لقد فسد العالم...      

الزوجة   :        نعم فسد العالم... فسد... (تنتبه له عارياً، تضحك، يرتدي البيجامة) ما هذا؟... إنه المطر... المطر ينساب من السقف... السقف مثقوب...    

الكولونيل :        لا... (يركض وهو يحمل صحناً لجمع المياه من الثقوب العديدة) إنك تهذين من الحمى... مطر أين هو المطر؟      

الزوجة   :        مطر... إنه المطر... سينهار السقف فوق رؤوسنا...   

الكولونيل :        لا... لا يوجد شيء... إنك كعادتك تحلمين بالعناكب...غني... إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني... فهو مفيد من أجل الغدة الصفراء...  

الزوجة   :        أغني؟... أقول لك إنه المطر.  

الكولونيل :        لو  مضت سنة على وفاة ولدنا لكنت غنيت أنا بنفسي... غني... غني...   (يتوقف، موسيقا)     

الحركة الثالثة ( تسقط كما الميت على السرير هو يدثرها ويلف حولها ويغني)      

الكولونيل :        لقد مات المرضى... وفي يوم قريب... عندما نموت... سأحملك معي إلى الجحيم أيتها الزهرة... (بعد فترة صمت) ماذا أفعل؟... ماذا أفعل؟ بكم مدينون للدكتور... ونحن بحاجة للبن... وجبناً للصباح... وعصفوراً مذهباً نعلقه عند الباب!! والديك بحاجة للذرة... لا بد من الحصول على رطل من الذرة... (صمت)كلا...     

الزوجة   :        كلا... إن الديك حيوان... عليه أن ينتظر بلا طعام.

الكولونيل :        يا امرأة أنا لا أريد الديك لنفسي... لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة منه... أو بيعه بخمسين ألف... ولكن ما يشغل تفكيري هو هؤلاء الشبان المساكين إنهم يدخرون النقود للرهان عليه... الله وحده يعلم كيف سنتدبر أمرنا... (يصعد على السرير إلى جانبها) ماذا أفعل؟... كل يوم أذهب إلى مكتب البريد وأعود صفر اليدين... لا شيء للكولونيل... لا شيء... لقد حفظتها... ولكن يجب أن ننتظر دورنا...     

الزوجة   :        لقد انتظرنا بما فيه الكفاية... يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك حتى ينتظر رسالة طوال خمسة عشر سنة...

الكولونيل :        يجب أن ننتظر يا زهرتي يجب أن ننتظر دورنا... فرقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرين... 

الزوجة   :        لقد كسب هذا الرقم مرتين في  اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.    

الكولونيل :        أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة؟... قصاصة رقمنا في المحاربين القدماء والوثائق أيضاً...      

الزوجة   :        نعم... يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.    

الكولونيل :        فتشي عنها... السيء في الأمر هو استبدال محام بآخر... لأنه يتطلب المزيد من النقود

الزوجة   :        قل للمحامي أن يحسم أتعابه من الراتب التقاعدي عندما نحصل عليه... إنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.    

الكولونيل :        ابحثي عن القصاصة اللعينة تلك... عندما ذهبت إلى آخر محام وكلته بقضيتي... وجدته يهش الذباب... قال لي... لقد حذرتك يا كولونيل من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر... إن وكلائي كثيراً ما يكتبون لي بأنه يجب ألا نيأس... ولكني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاماً... لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الـ... منذ خمسة عشر سنة كان الأمر أكثر سهولة... ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين... والاتحاد يصنع القوة... الاتحاد قوة... هيه... ولكنه لم يفعل شيئاً لقضيتنا... فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد... لقد صدر القانون متأخر جداً... ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك. فقد كنت كولونيلاً في  العشرين من  عمرك... وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع هذه الميزانية...  

الزوجة   :        دائماً نفس القصة... نفس الكلام. 

الكولونيل :        هيا ابحثي عن تلك القصاصة... قلت للمحامي... إن ما أطلبه ليست صدقة أو إحساناً... لقد تمزقت جلودنا لننقذ الوطن... فأجاب...  نعم الأمر هكذا يا كولونيل... ولكن الجحود البشري لا حدود له والجميع يعرف هذا... أخشى أن أتحول إلى مثل أولئك الفتية اليافعين الذين هربوا من مدارسهم للالتحاق بالثورة... حيث وعدوهم ببدل سفر وتعويض مدى الحياة... عسكروا هناك في الغابات لمدة ثلاث سنوات، بعدها رجعوا إلى بيوتهم وعلى نفقتهم الخاصة... ماتوا وهم ينتظرون التعويض... لقد صممت على اتخاذ قرار أيها المحامي...لك  ما تشاء أيها الكولونيل... فأنا لا أستطيع القيام بالمعجزات... نعم أنا متأكد لو كنت قادراً على تحقيق المعجزات لما سكنت في هذا القن... اسمع لقد عمل ابني طوال حياته... وبيتي مرهون، لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحاميين مدى الحياة... أين التوكيل؟... رماه في وجهي وقال مزقه بنفسك... لا إنها عشرون عاماً من الذكريات كيف أمزقها... إنني بحاجة إلى وثائق أيضاً... أية وثائق؟ الإثباتات... تاريخي... إنها وثائق ذات قيمة لا تقدر... أجاب... أعرف ذلك... ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي... وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري إلى أية دائرة في وزارة الحربية؟... ولكن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية... نعم... ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة... تذكر بأن ستة رؤوساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل... ولكن لا يمكن لأي منهم أن  يأخذ تلك الوثائق إلى بيته... إن استعادتها يحتاج إلى قرن من الزمن... ليس مهماً من انتظر الكثير ينتظر القليل...      

الزوجة   :        ها هي الوثائق اللعينة.       

الكولونيل :        أخيراً استعدتها.. (موسيقا)    

  الحركة الرابعة ( تنهض باتجاه الكرسي يشاكسها)   

الكولونيل :        هيا أيتها الزهرة البرية... عندما تكونين بحالة جيدة فأنت قادرة على بعث الميت من قبره... لا تقلقي فغداً يأتي البريد... إن الطائرة يا زوجتي شيء عظيم... إنها تقطع الطريق من أوربا وإلى هنا في ليلة واحدة... ولكن رغم ذلك فإن للطائرة مخاطرها... إن الإنسانية لا تتقدم مجاناً... الطائرة يا زهرتي شيء كبير و لا يشبه البساط... اللعنة على الصحف... منذ فرضت الرقابة والصحف هنا لا تتحدث إلا عن أوربا... من الأفضل أن يأتي الأوربيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوربا وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده... تكلمي...     

الزوجة   :        هل بقي شيء نبيعه؟.       

الكولونيل :        أوه... لقد فضحتنا يا امرأة... آخر مرة أخذت فيها اللوحة... مررت على كل تجار المواد المستعملة ولم يشتريها أحد منك... ماذا تريدينهم أن يقولوا؟ الكولونيل يموت من الجوع.      

الزوجة   :        نعم إننا نموت من الجوع...

الكولونيل :        حسنٌ... في أي يوم نحن؟

الزوجة   :        نحن في يوم... صحيح في أي يوم نحن؟...     

الكولونيل :        ليس مهماً في أي يوم نحن... (يتمدد على السرير ليكتب) اسمعي سأكتب نداءً... نداء من الكولونيل ... جميع الحقوق محفوظة ... أنا الكولونيل ... أدخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين عام ... في أي عام ؟    

الزوجة   :        ليس مهماً... أكتب لهم، إننا نتعفن في الحياة ولا أحد يبالي بنا.   

الكولونيل :        سأكتب... حسنٌ. 

الزوجة           واكتب لهم... اسمع يمكن أن تطلب من أحدهم أن ينسخها لك على الآلة الكاتبة.      

الكولونيل :        كلا... لقد تعبت وأنا أطلب المعروف من الآخرين... لن أكتب لهم... لن أكتب لأحد... هل أستجدي منهم؟

الزوجة   :        هل جننت؟... يجب أن تكتب لهم... قل لهم إن زوجتي تحتضر... وأن ولدنا قتل في حلبة مصارعة الديكة... قل لهم إننا لا نملك ثمن القهوة.       

الكولونيل:        لقد فقدت كرامتي وأنا أستجدي الآخرين... في كل مرة أضغط على أسناني وأنا أطلب منهم النقود أو المساعدة... حتى الأسبوع القادم... إلى نهاية الشهر فقط... ثمة نقود ستصلني يوم الجمعة... كلا... لن أطلب المساعدة من أحد... ولن أكتب لأحد... اسمعي إنه المطر (صمت) كان يجب إصلاح هذا السقف منذ زمن طويل...     

الزوجة    :        من الأفضل أن تفهم الأمور في حينها.   

الكولونيل :        لا يهم... يمكن إصلاح كل شيء... وعندما ينتهي رهن البيت..       

الزوجة   :        رهنت البيت أيضاً؟!... ضاع البيت أيضاً؟... كيف سنسدد الرهن؟...   

الكولونيل :        سيأتي راتبي التقاعدي... وسيفوز الديك أيضاً...      

الزوجة    :        ترهن البيت ولا تبيع الديك أيها العجوز الأحمق؟.    

الكولونيل :        اسمعي بعد فوز الديك تكون قد مرت سنة على وفاة ولدنا... عندها نستطيع الذهاب إلى السينما... متى ذهبنا إلى السينما آخر مرة؟   

الزوجة    :        كان ذلك منذ عدة أعوام.       

الكولونيل :        كان فلماً ثورياً... يتحدث عن الحرب... أتذكرين (يحمل الممسحة ويحولها إلى بندقية) كانوا مقاتليين أشداء... يقاتلون بضراوة... وبعد المعركة اجتمعوا حول قائدهم... حينها قلت للقائد يا سيدي... لا تستسلم... لا تستسلم لهم... إنهم يخادعوننا في هذا المفاوضات... هذه المفاوضات ستكون السبب في ضياع الجميع... لا تستسلم لهم... لا تسلم مستقبلنا لهم... (يختنق يسقط، هي تحيك بصمت)     

الزوجة   :        (بعد فترة) أيها الكولونيل... ماذا جرى لك؟  

الكولونيل :        (يرفع جسده نحو السرير) لاشيء... إنه الشتاء... كل شيء سينتهي عندما يمر هذا الشتاء... لقد صرت عظماً أجرداً... إنني أعتني بنفسي لأكون صالحاً للبيع... وقد بعت نفسي لمصنع المزامير... (يضحكان، يتجه للديك) إيه أيها الرفيق... الحياة صعبة... خذ هذا الخبز... نعم إنه جاف تماماً... اسمع عند الجوع لا يوجد خبز سيء...      

الزوجة   :        أخرج هذا الديك من  هنا.  

الكولونيل :        ماذا؟... لا تصغي، إنها امرأة حمقاء... لم يعد الأمر يستحق أكثر من ذلك... فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها ستفوز... (يلتفت لها) حينها سنبيعه بأغلى سعر...      

الزوجة   :        القضية ليست قضية نقود... أعطه لأصدقاء ابننا وليفعلوا به ما يشاؤون.    

الكولونيل :        إنني أحتفظ به من أجل ولدنا... تصوري وجهه لو يوم أتى ليخبرنا بفوزه...     

الزوجة   :        لقد كان هذا الديك اللعين هو السبب في ضياعه... لو أنه بقي في البيت ذلك اليوم لما فاجأته ساعة النحس تلك... يبدو لي وكأني كنت أدري ما سيجري عندما خرج حاملاً الديك تحت ذراعه... لقد  حذرته ألا يذهب بحثاً عن موته في حلبة مصارعة الديكة ولكنه ضحك وقال أماه... هذا المساء سنتعفن من كثرة النقود... اطرد هذا الديك الملعون من منزلي هيا... إنه هو السبب في الحالة التي وصلنا لها... فمن الكفر اقتطاع الخبز من أفواهنا وإعطائه للديك...      

الكولونيل :        يا امرأة... لا أحد يموت في ثلاثة شهور.       

الزوجة   :        وماذا سنأكل خلال هذا الوقت؟...   

الكولونيل :        لست أدري... ولكن لو أننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن... إنها الحياة أيها الصديق... نعم (يضحك) تذكر الذرة التي جلبها لك أصدقاء المرحوم ابننا؟... لقد شاركناك في أكلها... نعم... ماذا نفعل؟.       

الزوجة   :        مع من تتحدث؟.    

الكولونيل :        هش... تعالي (تقترب) إن هذا الديك يتحدث.      

الزوجة   :        ماذا؟ 

الكولونيل :        أنصتي (يقلد صراخ الديك)

الزوجة   :        اذهب إلى الجحيم أنت وديكك هذا... أتسخر مني؟.

الكولونيل :        ماذا أفعل أيتها الزهرة... أريدك تتقدين...     

الزوجة   :        اسمع إذا كنت تريد أن تصنع لي معروفاً بع الساعة.      

الكولونيل :        نعم... حاضر ولكن في الغد.     

الزوجة   :        لا... اذهب الآن إلى صديقك الدكتور وقل له أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني...       

الكولونيل :        إن حملها سيكون كمن يحمل لحداً... وماذا لو رآني الناس في الشارع حاملاً هذه الساعة... سيؤلفون عني أغنية... الكولونيل يبيع الساعة... الكولونيل يموت من الجوع... أتذكرين المرة السابقة... تذكري أرجوك... لقد حملت الساعة وهي ملفوفة بورق الصحيفة... فاجأني الحلاق قائلاً... ماذا تحمل معك أيها الكولونيل... فضولي... لا شيء إنها ساعة البيت أريد أخذها لمن يصلحها لي... لا تكن أحمق أيها الكولونيل... انتظر وسأفحصها لك بنفسي... قاومت ولكن لا فائدة... أخذها مني... فتحها وقال... يا إلهي إنها تعمل... هل تريد أن أذهب معك لأعلقها في مكانها... يا إلهي... ليلتها نمنا بلا عشاء...     

الزوجة   :        (تتجه للسرير) يحدث هذا بسبب خجلك الذي لا مبرر له...  

الكولونيل :        كنت جالساً يومها على كرسي الحلاقة... فاجأني الحلاق يومها بشيء آخر...       

الزوجة   :        ماذا؟ 

الكولونيل:        قال... خراء أيها الكولونيل... ماذا تعني... الحذاء الذي تلبسه مريعاً... رجاءً بدون كلمات نابية... إن عمر هذا الحذاء الفظيع أربعون عاماً... وهاهو يسمع الآن ولأول مرة في حياته كلمة نابية... أرجوك  لن أسمح لك بالإساءة لحذائي... إنها عشرة عمر... عندما رجعت... مسكت أصدقاء إبننا وقلت لهم خذوا الديك... إنني عجوز ولا أستطيع تربيته... تفهموا الأمر... سيدي سنتكفل نحن بإطعامه... (موسيقا)    

   الحركة الخامسة     

الزوجة   :        بماذا تفكر؟.       

الكولونيل :        أحلم. 

الزوجة   :        الأحلام لا تؤكل...

الكولونيل:        البارحة خرجت أليس كذلك؟ 

الزوجة   :        نعم.  

الكولونيل :        إلى أين ذهبت.  

الزوجة   :        كان المطر جميلاً.       

الكولونيل :        لم تجيبيني عن سؤالي.      

الزوجة   :        إي سؤال؟       

الكولونيل :        أين كنت؟.       

الزوجة   :        في زيارة بعض الصديقات.  

الكولونيل :        إنني أفهم، أسوء ما في حالات الشدة هي إنها تجبرنا على الكذب...     

الزوجة   :        ذهبت للأب أنجل... لأطلب قرضاً مقابل خاتم الزواج.       

الكولونيل :        وماذا قال لك؟.    

الزوجة   :        قال إن المتاجرة بالأشياء المقدسة... خطيئة...    

الكولونيل :        وبذلك أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعاً...     

الزوجة   :        لقد تعبت وأنتم معشر الرجال لا تنتبهون للمشاكل، لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يفهم الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر... إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت... لقد طفح كيلي... من الصبر والوقار... عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها... بعد كل انتخابات... ومن هذا الانتظار ماذا بقي لنا؟... ابن ميت... ولاشيء سوى ابن ميت...       

الكولونيل :        لقد قمنا بواجبنا.

الزوجة   :        أهلاً واجب... وهم قاموا بكسب الآلاف من مجلس النواب طوال عشرين سنة... فهذا صديقك جاء إلى القرية كبائع أدوية وهو الآن يسكن في قصر بطابقين وقصره لا يتسع لنقوده

الكولونيل :        ولكنه يموت بالسكري .  

الزوجة   :        ونحن نموت جوعاً... أقول لك كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يأكل... لا يأكل... (تسعل، تختنق)      

الكولونيل :        إن هذا يصيبك لأنك لا تمسكين لسانك... لقد قلت لك ألف مرة لا تذكريهم بسوء فحتى الرب عضو في حزبهم...

الزوجة   :        ليقتلني الرب إذاً، لأتخلص من هذا العذاب كله.  

الكولونيل :        اسمعي لقد حزمت الأمر.

الزوجة   :        ماذا؟ 

الكولونيل :        لقد قررت.      

الزوجة   :        ماذا؟ 

الكولونيل:        سأبيع الديك غداً.  

الزوجة  :        صحيح؟ (موسيقا)       

 الحركة السادسة     

الزوجة   :        أوشك الفجر على البزوغ       

الكولونيل :        ماذا تعنين؟       

الزوجة   :        حول بيع الديك.   

الكولونيل :        ولكن...     

الزوجة   :        ولكن ماذا؟... كل ما في الأمر أنك لا تمتلك شخصية قوية... فأنت تذهب وكأنك تطلب الصدقة... يتوجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك وتقول له... أيها الصديق... لقد قررت بيعك الديك..

الكولونيل :        هكذا هي الحياة... إنها نفحة... 

الزوجة   :        ليس لديك أي حس تجاري... فمن يذهب ليبيع شيئاً يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري... خذ صديقك جانباً عن الناس وحدثه.      

الكولونيل :        سيظنون أننا نعد لانقلاب.     

الزوجة   :        هراء... تذكر أنك صاحب الديك.

الكولونيل :        ولكن ماذا لو رفض؟.     

الزوجة   :        يا إلهي متى تأتي ساعة الفرج التي يخرج فيها هذا الشؤم من منزلي.  

الكولونيل :        لم يتبق سوى أشهر قليلة على السباق... وسنفوز حتماً... اطلي من النافذة وانسي الأمر... لن أبيع الديك...

الزوجة   :        والديون؟... ورهن البيت؟...    

الكولونيل:        سيصل راتبي التقاعدي.   

الزوجة   :        وإذا لم يصل؟       

الكولونيل :        سيصل.    

الزوجة   :        ولكن إذا لم يصل؟

الكولونيل :        لن أدفع الديون... ولن يستطيع أحد طردي من بيتي...  

الزوجة   :        حاول أن تفكر بتعقل يا كولونيل.    

الكولونيل :        سيكون أمامي ثلاثة أشهر للتفكير... سيصل راتبي... لا يمكن أن يتأخر أكثر من ذلك.     

الزوجة   :        حان الآن وقت الفطور، ماذا سنأكل؟... إنك بلا ضمير... متكبر وعنيد... عليك أن تعرف بأني أموت... وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضاً بل هو احتضاراً.   

الكولونيل :        أعلم ذلك... ولكن لا أستطيع أن أحيا بلا وقار... هل تفهمين؟... لا أستطيع العيش في الظلمة بينما هم يشبعون وإلى حد التخمة... تقول الكنيسة: نجوع ليشبع الآخرون... طز... هاهم يعيشون بينما نحن نتعفن... لقد قمنا بواجبنا... ماذا سنأكل هذا الصباح... وفي الغداء ماذا سنأكل... وفي العشاء... وفي الغد... ماذا سنأكل؟ لا أريد أن أموت في الظلام... سيربح الجميع المراهنة على الديك أما نحن فلا شيء... لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة فقط... كان لي الحق بالحصول على منصب لائق عندما كنت أجعلهم يفوزون بالانتخابات سنة بعد أخرى... أنا بطل الحرب الأهلية، ولولاي لضاع الوطن... ولكن هاهم جميعاً يعيشون  حياتهم المأمونة بينما نحن وحيدان... نموت جوعاً... نتعفن في الحياة... كل يوم أذهب إلى مكتب البريد وانتظر واحتضر هناك دون فائدة... لا شيء للكولونيل... ليس لدى الكولونيل من يكاتبه... ولكنني سأنتظر ليس هنالك حل آخر... كل سبت وكل أحد سأنتظر وأحتضر أمام مكتب البريد... كل سبت قادم وكل أحد وكل اثنين وكل ثلاثاء سأبقى أنتظر وأحتضر... بعد ثلاثة شهور سيفوز الديك... وعندها سينتهي كل شيء... ولكن إلى هذا الوقت ماذا سنأكل... لحظة... لحظة... ماذا لو خسر الديك؟ يا للحماقة لم أفكر بالأمر... لم أحسب لهذا الأمر... ماذا لو خسر الديك؟؟ إنه ديك لا يمكن أن يخسر... ولكن لنفترض أنه خسر... مازال أمامي خمسة وأربعون يوماً لأبد التفكير بهذه الأمور...    

الزوجة   :        وحتى ذلك الحين ماذا سنأكل... قل لي ماذا سنأكل؟؟    

الكولونيل :        خراء... خراء...  

       

 

تمت

 

 

 

 1957 كتبها ماركيز 1992 أعدها للمسرح هادي  المهدي  

عودة الى الرئيسية عودة الى الشبيه
دير الملاك كتابة السيرة على الماء ماكتبته الصحافة مواقع نصوص خشنة الحياة تبدأ غداً الطقس المسرحي الآن مفتتح