نقد وحوارات حول عرض الكراهية

 

كلمة المخرج      مسرحية الكراهية  

 

ابتعد  نص برغمان (سوناتا الخريف) عن مرجعيته ليقترب من شموسنا ويلامس عالمنا عبر ورشة عرض (الكراهية):  

في الكراهية ما من معجزة أخرى … الأنسان يتكلم!! في جوهره ممارسة يومية للقتل أو بث الحياة … زيارة قصيرة جداً … وحديث عابر عن الماضي … يوديان بحياة هشة قائمة على الكراهية … جمل نصف مضاءة … عالم مصاب بالهلع …، شخصيات تصرخ إلا أنها لا تصغي إلا لصوتها … يقدم العرض شخوصه أمامنا لاليدينها بل ليمتحن الحياة نفسها.

علمنا منذ البداية بحذر شديد … ذلك أن شخصيات المسرحية وجدت معزولة عن مشاغلها اليومية … وهي مبتلية بحياة راكدة لا حركة فيها … حياة لا تميل إلى الحركة … بل هي ضد الأفعال بالقدر الذي تؤسس فيه شكلاً خاصاً للإنفعال … عمل الجميع باجتهاد وصبر … وافترضنا العديد من الحلول … كان هذا آخرها … عالم ثابت يميل إلى الإنكسار … كمحاولة لرسم صورة لهذه الحياة المشلولة … لا أمل لها سوى بالتسامح، وصياغة بصرية نعتقد إنها تنتمي لروح الطقس المعاصر وفق أسس معرفية وجمالية.

يهدي فريقنا هذا العرض إلى (أطفال العراق) ومن يموتون هناك جوعاً أو قهراً  أو مرضاً.

 

 

12 الحياة

آفاق

الأثنين 7 أيلول) سبتمبر (1992 الموافق 16 جمادى الأولى

نقلاً عن فيلم) سوناتا الخريف (لانغمار بيرغمان).

مسرحية (الكراهية) في دمشق:

شخوص تهرب من الحرية

دمشق – أكرم قطريب

حين سألت المخرج العراقي هادي المهدي عن سبب اختياره نصاً سينمائياً وتحويله إلى عمل مسرحي أجابني: (أنا لا أميل إلى النص المسرحي الجاهز خصوصاً المترجم، ففي عرض سابق لمسرحية (الكراهية) اعتمدت على حدودته في الشارع ليس إلا. وأما بخصوص سيناريو بيرغمان السينمائي فهو مكتوب بصيغة مسرحية، ويتحدث عن قضية خطيرة لا تقف على السطح وهي إمكان التعايش مع الآخر على أساس أنه إنسان بما فيه من سلبيات وإيجابيات) .

يقدم بيرغمان نفسه ككاتب وسينمائي عبر مشروع يهتم، على حد تعبير النقاد، باختبار الحياة ومحنة الوجود. عالمه يكاد يكون عالماً واضحاً، يقدم شخصياته أمام أزمة، في الغالب تكون نفسية أكثر منها مادية أو سياسية، زاجاً بها في دائرة البوح والتعري الداخلي، لتكتشف الطبيعة البشرية وتتجلى بمكنوناتها العميقة وتشظيها.

عالم يتحرك بين الرغبة والموت. عالم ضد الموت محاولاً من خلالها تقديم شخصياتها بيقظة وعي مفاجئ أمام حدث طارئ، تدافع عن نفسها ببوح وجداني ونفسي مركب ومعقد، وبشيء من الشاعرية والعمق، مقاوم النواميس الاجتماعية والطبائع التقليدية والموت والتلف عالم يحتاج إلى عين خاصة تشاهده. من هنا لا يمكن حساب بيرغمان على تيار ما. هو أشبه برجل متفرد. يعود ذلك لسبب أن السويد كبلد لا يوجد فيها منهج مسرحي أو سينمائي. هي بلد يستورد الثقافة. لكنه كان ظاهرة سويدية استطاع أن يثبت جدارته في عالم الكتابة والمسرح والسينما. يميل إلى الثبات والسكون وتركيز الضوء على العالم الجواني.

لحظات بيرغمان وشخوصه تكتشف معها تدريجياً أن عزلتها هي حاصل علائق اجتماعية غاية في التعقيد ومع الحوار نكتشف أنها عنوان لحالة عميقة من الشعور بالعزلة وعدم التواصل مع الآخر، لذلك يبعد شخصياته عن المشاكل اليومية، ويختار لحظة وعي الشخصية أمام الحياة وعراء الوجود (مثلاً لحظة زيارة الأم لابنتها)

لذلك تم تسليط الضوء على مشكلة الكراهية التي سنلمحها في الحوارات العادية، وخلف العبارات اللطيفة، مخزونة منذ الطفولة وهي تحاول أن تأخذ موقعاً في الحياة.

في مسرحية (الكراهية) يقوم هادي المهدي ببعض التحويرات التقنية والفنية في نص (سوناتا الخريف) ومحاولته تقويل بيرغمان شرقياً من خلال إعادة صياغة الجملة ومنحها شاعرية التركيب والصياغة. تحديداً إن بيرغمان يقتدي بتشيخوف بشكل أساسي، كونه يبحث عن الشعر اليومي في الجملة، لا البحث عن البلاغة والمجاز على طريقة شكسبير وراسين.

تبدو (الكراهية) عرضاً لسياسة المشاعر والطبائع البشرية. أما (السوناتا) فتتحدث عن دور الفرد، حيث الجميع يتهرب من ممارسة المسؤولية تجاه ما يحدث إضافة إلى مقاطع موسيقية مشهورة ولها دلالاتها بينما في (الكراهية) سنجد مقاطع شعرية لشكسبير، كما تم تحويل عازفة البيانو في (سوناتا الخريف) إلى ممثلة على الخشبة، وإحداث علاقة محرمة بين الأم وزوج الأبنة، هي بمثابة صدمة أخلاقية في عالم لا أخلاقي: الأم شارلوت (خديجة غانم) تحب فيكتور (طلال نصر الدين) زوج ابنتها ايفا (ميديا رؤوف) وهي معتقدة بأنه سيكون جاهزاً لها في أي لحظة.

البنت ايفا تتوقع من الأم أن تتخلى عن كينونتها، وأن تمارس دورها تجاهها كأم فقط. زوج البنت فيكتور يعول على الغائب المؤجل، الميتافيزيقي، وعندما يصدم بموت والده يختلف مع طريق الإيمان إلى الشك والحيرة والقلق.

الأم ترغب في أن تعيش وتفعل كل ما تريد وهي نموذج للإنسان الغرائزي البراغماتي، ومع ذلك فهي تطالب بالحب وبأن تبقى في مقدمة المشهد الحياتي.

تكتيك العمل وخطاب العرض          

بيرغمان يميل إلى اللقطة المتوسطة والقريبة وهو يحتاج إلى وجه الممثل لأنه يعتمد على العوامل الداخلية وحركتها، كما يخلق لقطة طويلة ومونولوجاً طويلاً يختار المشهد في اللحظة التي تكون الشخصية معزولة تماماً.

يتسائل هادي المهدي هنا: (كيف تصوغ عرضاً يخلو من الرتابة وفيه شيئ من الجمال العالي ومستوى من التلقي من دون أن يقع في الثبات والسكون؟) .

أراد هادي المهدي في مسرحيته (الكراهية) أن يصوغ عالماً مشلولاً لا أفعال فيه، لا توجد قصيدة، ولا منطق للحركة وفقاً للأفق التي صنعها ستانسلافسكي، لنراه على الخشبة، من خلال شخوص، يكتشف الميل إلى الفعل الداخلي. فالشخصية لا تتحرك بمنطق سببي، بل تنفعل ولا تفعل ليظهر اندفاع لا وعيها إلى السطح (على الجسد أن يتحرك من دون وعي، فالمكبوت غريزياً يظهر خارج الحوار،

والشخصية ما أن تتحرك حتى تميل إلى الإنهيار) ويكمل هادي المهدي: (اعتمدت على العفوية الطازجة لدى الممثل، حاولت أن أجد مخرجاً لكسر الإيقاع البارد في (سوناتا الخريف) وكنت استمتع بلحظات هدم المشهد، بيرغمان يهدم المشهد بالانتقال من فكرة إلى أخرى، وأنا حاولت أن أنتقل عن طريق الحركة) .

في عمل الممثل على الخشبة ثمة ميل إلى الهدوء في الحركة والتقطيع والروحانية. العرض ينتج جسداً واحداً وسنجد صياغة أكثر ما تنتمي إلى الواقعية السحرية مع لمسات متخيلة من خلال الديكور الذي شكله حسام عرب (صالة بورجوازي، الأشياء فيها أنيقة ومرتبة كدلالة رمزية للقطيعة وسوء التفاهم، وبالنسبة إلى الحبال المتدلية في مقدمة الخشبة، فهي أجزاء الوهم على المسرح، الحبال بوصفها جزءاً من المنـزل. الشخصيات كانت تتمسك بالحبال كأنها تتسلى بقيودها لا بعزلتها، تتعامل مع الحبال من دون صدمة كأنها تهرب من الحرية) .

أخيراً تأتي تجربة هادي المهدي هذه بعد سلسلة من العروض المسرحية التي قام بإخراجها وتنفيذها (هاملت، كاليغولا، أيها العالم الغريب، بانتظار غودو، مزامير أدونيس، الخسوف، الأميرة …) وتمت في بغداد، أما في سورية فقد أخرج (دائماً وأبداً) والأخيرة (الكراهية) إضافة إلى ذلك صدور كتابه النقدي (الطقس المسرحي المعاصر) في دمشق.

 

العدد 10657 – 16 – 8 – 1998  

11 الثورة الثقافي    

الكراهية … وطقوس التحولات المنكسرة   

يتابع المخرج هادي المهدي محاولته البحث عن جوهر العلاقة التي تربط بين المادي والفلسفي في أعماق الإنسان وذلك من خلال عرضه الجديد الكراهية عن فيلم سوناتا الخريف لانغمار برغمان والذي تقدمه فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية على خشبة مسرح القباني.

وهو بهذا يضع منمنمة أخرى في البانوراما النفسية التي يحاول إزاحة الستار عن أجزائها تباعاً.

فمنذ عمله الأول دائماً وأبداً ومروراً بدم شرقي عمله الثاني وصولاً إلى عرضه الأخير الكراهية سعى المخرج لنبش مكنونات الذات بتناقضاتها وتباينها في إطار المحيط والمؤثرات ورصد تبدلاتها وتحولاتها ضمن رؤى تقدم النقيض ليتسنى للمتفرج الامساك بخيوط المقولة الأساسية لكل عمل. وقد قدم المخرج عمله هذا معتمداً على جملة من أشكال التعبير التي تتجاوز المعنى اللفظي إلى مساحات أعمق تتلاقح فيها صيغ الخطاب الفردي ضمن وعائها الاجتماعي لتتيح للمتفرج أن يشرف على معان تتعدى الآني والراهن لتلامس ما يتعلق بحقيقة الطبيعة البشرية وتغيراتها.

تدور أحداث المسرحية في جو فجائعي … حديث بين ايفا الابنة وبين فيكتور الزوج يفصح عن رغبة في استضافة شارلوت الأم التي سرقها السفر وأضواء المسارح … تتم الزيارة ويبدأ الحديث عن الماضي، حديث يستنفر الأحقاد الدفينة ويدفعها للتفجير، من المخطئ ومن المحق؟ لكل مبرراته ووسائل دفاعه، صراخ ورعب ينتهي بالهروب أو اليأس أو الموت كنتائج حتمية تسفر عنها الكراهية.

الإضاءة

منذ بداية العرض يشتم المتفرج رائحة الفجيعة إذ تطغى الإضاءة الحمراء منذرة بوقوعها، ومع تنامي الحوار وعند الاقتراب من تلك الهوة في أعماق الشخصيات تأتي الإضاءة لتفضح طقوس هذا الاقتراب من تلك الهوة الخائف تارة والساخر تارة أخرى ويشير إلى هذه الطقوس أيضاً أطفاء الشموع الموقدة بالتتالي في آلية موازية لذلك الإنطفاء  الروحي الذي كان يعتري الشخصيات في وقوفها أمام مراياها.

الديكور    

بيت يوحي بالترف والثراء ولكن هذا لم يكن ليخفي الجو القلق والمضطرب الذي يسيطر عليه. أرضية حمراء، ستائر حمراء نصف مسدلة تحاكي الرغبة في الكشف عن الأجزاء الغامضة في عوالم الشخصيات، أعمدة غير مكتملة استقرت عليها شموع في طريقها إلى الانطفاء، حبال مثبتة تشكل حواجز ومتكآت مضطربة وأخرى مبتورة توحي بالعبث برغبة القتل أو على هيئة بقعة من الدم تنتشر بطيئة متثاقلة.

الموسيقى         

جاءت موسيقى العرض كنسية حزينة تتنامى لتنسجم مع الصراعات الداخلية التي تنتاب الشخصيات وتلبي الرغبة في تفسير المشهد الجنائزي المخيم، وكأنها بهذا  تتداخل لتشكل جزءاً من الحوار أو لتكمل ما لم يبح به.

الأداء           

لم يخيب الممثلون الظن عندما انبروا لأداء أدوراهم المركبة والصعبة والتي تحتاج إلى قدرة وخبرة كبيرتين، فالممثل هنا يتعامل مع شخصيات قلقة وغير سوية على الصعيد النفسي وهي رغم هذا تحاول أن تحافظ على توازنها في إطارها الاجتماعي وهذا الأمر استدعى نشوء حوارات مضطربة ومتقلبة بين الحدة والرقة والانتقال المفاجئ من حالة إلى أخرى.

وبالطبع كان لا بد من الاعتماد على تفجير الطاقات الجسدية واستغلال لغة الحركة لتشكيل علاقة بصرية تساعد على الدخول إلى العالم الجواني للشخصية وإيصال الفكرة كما ينبغي.

لقد استطاع المخرج إدارة – ورشة الكراهية – بنجاح وتمكن من كتابة كلمة التسامح كمقولة أساسية للعرض عبر سينوغرافيا منسجمة ومتكاملة ومن خلال أداء جميل مؤثر واستطاع صياغة خطاب مسرحي تحلى بخصوصية الاقتراب من عوالمنا وهمومنا بشكل أو بآخر رغم استناد العرض على فيلم ينتمي إلى بيئة أخرى.

منصور حرب هنيدي       

 

الحرية

مسرح

الكراهية … سوناتا الخريف

نظرة من الداخل

بسام سفر

· درجت عمادة المعهد العالي للفنون المسرحية على تقديم مسرحية خاصة بفرقة المعهد في كل موسم مسرحي، ويقوم عرض الفرقة الأكاديمية على مفهومي التجديد مع التجريب كوحدة فعلية متكاملة، وشاءت الأقدار أن أكون أحد المشاركين في نجربو كزسك 1998. ولأهمية التجربة قررت عرض بعض المفاصل الأساسية في عمل الفرقة.

· سوناتا الخريف … والأعداد

· كل من شاهد فيلم سوناتا الخريف لانغمار برغمان يجمع على أن ما بقي من الفيلم في عرض الكراهية هي أسماء الشخصيات – والفكرة الأساسية للفيلم.

· إن عملية الإعداد التي قام بها المخرج عن الفيلم تعرضت إلى تمزيق أكاديمي ذررتها رياح الارتجال والبروفات اليومية لفريق العمل فالمخرج )هادي المهدي (لم يكن متمسكاً بنصه المعد، وإنما انحاز إلى التجريب والبناء المشهدي لكل حالة انفعالية تمر بها شخصيات هذا العمل لكن من المفيد التأكيد على أن مقاربة هادي المهدي للنص البرغماني وفق الانـزياحات المشرقية كانت منطلقة من الواقع المشرقي العربي المعاش.

· الانـزياح الأول: جاء في نقل الأم شارلوت من عازفة بيانو إلى ممثلة سينمائية مسرحية بحيث تتقارب مع واقعنا المحلي.

1-      في النص البرغماني هذه الممثلة عازفة تعزف أحد معزوفات شوبان مرتين.

2-      في النص المعد تقوم الممثلة المؤدية باستعارة مقطع شكسبير،3-      ومقطع آخر راسيني.

وبخصوص هذين المقطعين عرض المخرج استعارات تشيخوفية، إلا أن الممثلة لم تجد ذلك مناسباً فاختارت ما وجدته مناسباً لحالتها وظروف عملنا، ويمكننا تسجيل فتح بوابة الارتجال في عرضنا.

الانـزياح الثاني: هو تفعيل الشخصية الذكورية في العرض وإعطائها مساحة فعل ارتجالي بما يتناسب وحضور الممثل الذي يقوم بالدور. فعندما كان زميل آخر يلعب الشخصية ضاقت فسحة الارتجال وجرى العمل على النص المعد. وبعد اعتذاره ودخول الفنان طلال نصر الدين إلى مساحة الفعل التمثيلي جاء الفعل الارتجالي ليوسع من الحضور الذكوري، ويلعب دوراً أساسياً في الصراع الأسروي على مستويين:

1-      مستوى الأسرة (ايفا – فيكتور) واستمرارية الحياة كفعل وجود إنساني بدون عكازات خارجية.

2-      مستوى علاقة (فيكتور – شارلوت) الصراعية من خلال مدخل الحب المحرم،3-        وإنعدام الحس الإنساني لدى شارلوت تجاه ابنتها المريضة هيلين.

لن أطيل في شرح عملية البناء الجديدة التي قام بها فريق العمل حيث الفعل التركيبي واضح في البنية المشهدية لكل وحدة فعلية تمثيلية، حتى اكتمال البناء الدرامي للعرض المسرحي كوحدة بنائية حكائية لتصل إلى المتلقي بأفضل الصيغ النصية.

معالجة التمثيل

التقطيع المشهدي ساعدنا في بداية البروفات على تلمس الخطوات الأولى، لكن ما إن أوغلنا قليلاً في البروفات حتى ذهب التقطيع المشهدي إدارج البروفات، وبات البناء الحيوي للنص والمشهد يأخذ طريقه عبر محاولة خلق فعل حركي، ونحت داخلي انفعالي لكل حرف وكل كلمة في جهد جماعي خلاق. فإذا كانت المشهديات التلقية بصياغة (خديجة غانم، وأمل عمران) فتحت بوابات النحت الداخلي على الشخصيات فإن الدفء والحنان الذي خلقته ميديا رؤوف في شخصية ايفا بعد ما تخلت عنها أمل جعل امكانية استقرار الفعل المسرحي لبناء الشخصيات يكتمل.

فدموع خديجة غانم سردبت الشخصية وغسلت أفعالها عبر فعل تطهيري يومي، لكن عشق شارلوت للحياة جعل من إمكانية انطوائها لفعل الخواء بعيد المنال على إيفا: وهذا أدخل الحركة بمفهوم الاختزال الحركي وأطلقها في دواخل الشخصيات الجوانية ليكشف المشاعر والنوايا بإشارات بسيطة ونيرة، ويخلص الشخصيات من العذابات المؤلمة، فإن الجمعية والأخلاص والثقة والمصداقية التي عمل بها فريق العمل جعل إحساس الأمان يحرر ممثليه من التوتر والهبوط الأدائي.

الإخراج   

سعى الإخراج نحو ملامسة شكل خاص بالانفعال، لأن الشخصيات تظهر بمعزل عن حياتها الاجتماعية، تنصرف عن مشاغلها اليومية بلعبة البوح، لهذا تميل الحركة إلى الثبات بإذكاء نار الممثل الداخلية وتعبئة البوح الوجداني بطاقة عاطفية جياشة إلى حد عدم لفت انتباه المتفرج إلى سكون الجسد، ثبات مليء ومتحرك بجوانب الشخصيات وكوابيسها، وفي الوقت نفسه تتجه خطوط الحركة نحو الانكسار باستمرار لرسم صورة عالم الكراهية وأمراضه، حيث يميل كل شيء نحو الاندحار والزوال.

ثمة حبال ذات خطوط حادة وقاسية تدخل بشكل مفاجئ لتقطيع فضاء الصالة الأنيقة وتحيله إلى أمكنة كدلالة لعالم القطيعة، ولحوار الطرشان الذي يجري بين الشخصيات.

وإلى جانب هذا تدخل الإضاءة ذات التصميم الدقيق إلى شحوب هذا العالم المنغلق شحوباً لونياً، ويعالج الإخراج السكون بوصفه بطل العرض بالضوء والصوت فيضع لوحة الكآبة الجميلة بحركة لونية وبآهات صوتية اقترحها الفنان رعد خلف كبديل للموسيقى وذلك عمق الجرح الإنساني وعمق الرتابة، والإنطواء الذي تعيشه الشخصيات.

هل قاربنا أجواء برغمان؟

يؤكد الناقد السينمائي سعيد مراد إن "الإنسان عند برغمان تبعد به أزمته وقلقه الروحي عن معطيات الواقع وحركته بقدر ما تثقل عليه تلك المعطيات بمزيد من حقائقها المرعبة، فينفيها منسلخاً عنها متحصناً بقلقه، وتأمل هذا القلق، سائراً نحو نفي الواقع بنفي ذاته، أي بالاستسلام للشرط الأساسي الوحيد لوجوده، وهو الموت، ولا بد أن يغدو ميتاً عدما ً بالنسبة لهذا الإنسان، عندئذ يستوي لديه الموت والحياة".

في عرضنا المسرحي هناك حكم بالموت على الواقع العقيم اللاإنساني، وهذا جوهر الفهم البرغماني للحياة حيث انهارت هيلين وانتحرت. وايفا عادت إلى المفاهيم المثالية الدينية مثلما يعتقد برغمان، وخرج فيكتور يبحث عن الحقيقة في دواخله أيضاً …وماذا تريد إيفا من شارلوت الأم؟ وبموت هيلين إدانة للواقع المتعفن حيث الأم التي لم تزرها واختها التي حاولت الانتقام من الأم، والموت هنا رد مثالي لعلاقة الإنسان بالواقع، وهذا الموت ليس سقوطاً وإنما انتصار لكشف علاقة الواقع بالزمن في إطار تاريخي عبر المواجهة والتصدي والتحدي.

 

الهدف الثقافي

 (الكراهية) لـ هادي المهدي

عن فيلم سوناتا الخريف لأنغمار برغمان

( نوسان بين ظلال الأضواء وعتمتها! )

علي الكردي

مسرح

الكراهية لا الحب هو الموضوع الذي اختاره المخرج المسرحي( هادي المهدي) عنواناً لعرضه المسرحي (الكراهية) الذي شاهدناه مؤخراً على خشبة القباني بدمشق، عن سيناريو فيلم (سوناتا الخريف) لأنغمار برغمان، فهل هو الضد الذي يظهر حسنه، أو قبحه الضد؟!.

لعل الأمر، في الحقيقة أطياف من الأضداد المتراكمة، عبر سنوات من الركود الباردة المغلفة بالكراهية، والنوسان بين ظلال الأضواء وعتمتها ثم يأتي الموت كصرخة عاتية، يصفع ويهدد ويعري هذا العالم البارد الذي لا يجيد سوى العنف والكراهية.

إيفا( ميديا رؤوف ) إمرأة شابة تعيش مع زوجها فيكتور( طلال نصر الدين) في بيت هادئ، يوحي كل ما فيه بالأناقة والنظافة والجمال، لكن هذا المظهر الخارجي سرعان ما نشعر أنه مجرد شكل لا يعكس حقيقة العلاقة، المتوترة القائمة بين الزوج والزوجة اللذين يجمعهما سقف واحد، حيث يعيش كل منهما عزلته بعيداً عن الآخر، ورغم تفهم الزوج للحالة النفسية الإنقلابية التي تعيشها بعد فقدان ولدهما الوحيد) وهو في الرابعة من عمره (في حادث مأساوي نراه  عبر مونولوج طويل يتفجر سخطاً على زوجته، وعلى هذه الحالة التي أشاعت في البيت مناخاً من الكراهية.

يحاول الزوج إعادة زوجته إلى الواقع وإقناعها بأن ولدهما قد مات وانتهى، ولكن الزوجة لا تستطيع النسيان وترفض الإقرار بحقيقة فقدان ولدها، الذي تراه في أحلامها وتتحدث معه في حالة استيهامية شبه كابوسية. وفيما يعمل الزوج على إقناع زوجته بالكف عن كتابة الرسائل الإستغاثية المتواصلة إلى أمها التي لا ترد على رسائلها ، والعودة إلى الواقع، والتكيف معه، يطرأ تطور مهم على الأحداث بسبب الزيارة المفاجئة للأم شارلوت (خديجة غانم ) وذلك بعد طول انقطاع. هذا التطور يدفع الأحداث إلى ضفاف جديدة، تكشف لنا أن المستوى الأول الذي لامسناه لم يكن سوى السطح الأول البسيط، الذي يخفي وراءه أعماقاً وسطوحاً أخرى أكثر تعقيداً وجوهرية وربما رعباً.

فمنذ اللحظة الأولى تظهر الفجوة المرعبة بين الأم الفنانة النرجسية، المتصابية، التي تعيش الحياة بكل صخبها وحسيتها (وبين ابنتها) المكتئبة الحزينة على فقدان ولدها، والمنغلقة على ذاتها، ففي الوقت الذي تشعر فيه الابنة بحاجتها إلى صدر أمومي دافئ لتبوح له بآلامها، لا تصغي الأم وتغير مجرى الحديث، لذلك لا تستطيع الابنة ردم الفجوة بينها وبين أمها لأنها فجوة من عدم التواصل والغربة بل والكراهية التي ترشح عميقاً في الأرواح المعذبة.

شيئاً فشيئاً يبدأ الكلام (والكلام في جوهره ممارسة يومية للقتل أو بث الحياة)، الحديث العابر عن الماضي يكشف أنه لم يكن عابراً، وإنما أورث ندوباً، وجروحاً تنـزف.

لذلك، تبدأ سلسلة من المواجهات بين الأم وابنتها، فالابنة تعيش تناقضاً وجدانياً، حب – كراهية تجاه أمها لذا فهي تتمسح بها أحياناً استجداءً لعواطفها وتهاجمها بقسوة أحياناً أخرى مستحضرة الماضي الذي تحاول الأم أن تتناساه، وتهرب منه وحين تلمح الابنة إلى عدم وفاء أمها لأبيها، وعدم الاهتمام بها وبأختها ( المشلولة) تنفجر عاصفة غضب الأم بدورها متهمة الابنة بالغباء وعدم التفهم لظروفها وطبيعة عملها المهني، فهي فنانة في الوسط الفني، وهذا بطبيعة الحال يتناقض مع أمومتها ومع كونها زوجة وربة أسرة عليها أن تفي بالتزاماتها، ومع ذلك كانت تفعل أقصى ما تستطيع فعله تجاه الأسرة، وكانت تضحي من أجلها، وفي لحظة مضيئة تحدثت عن العذاب الذي كانت تعانيه جراء التناقض بين الحياة في الوسط الفني الصاخب، وبين حلمها بلحظة هدوء تعيشها في أحضان أسرتها لكن ما إن تدخل بيتها، حتى سرعان ما تشعر بالملل ويقتلها الضجر، فتسارع إلى مغادرة البيت، لتهرب من عزلتها وتغرق نفسها من جديد في صخب العمل والتنقل والسفر.

أبعاد أخرى

تتكشف أبعاد أخرى لشخصية (شارلوت) الإشكالية بعد حديث مكاشفة وتعارف مع فكتور زوج ابنتها، حيث تشعر بميل ما نحوه، خاصة بعد أن تعرف مدى العزلة النفسية التي يعانيها بسبب عدم قدرة زوجته على التواصل معه بسبب هواجسها الدائمة وكوابيسها. شيئاً فشيئاً تبدأ شارلوت بإغوائه مستخدمة كل خبرتها وقوة شخصيتها وحضورها الجسدي والنفسي، ويكاد فيكتور يقع في الخطيئة، في مشهد تعبيري في غاية الجمال، حيث يبدو وكأنه المسيح مصلوباً على خشبة إغوائها، لكنه في اللحظة الحاسمة يتخلص من ضعفه ويتحرر من سطوة هيمنتها، رافضاً السقوط في مستنقع المحرم رغم النيران التي تأججت في داخله بعد أن أشعلتها (شارلوت) مستغلة حياتهم الرتيبة الراكدة.

تطور آخر

ثمة تطور آخر مفاجئ، يدخل على الخط عندما تأتي أصوات لكأنها غير آدمية قادمة من عمق الخشبة نسمعها ولا نرى صاحبتها، إنها أصوات الأخت المشلولة وصراخها فهذه الشخصية لا تظهر على الخشبة، ويقتصر حضورها على صوتها وعلى إخبار أختها وزوج أختها عنها، حيث تطلب (إيفا) من أمها أن ترى "هيلين" أختها التي تبكي طوال الوقت لأنها علمت بحضورها، لكن الأم ترفض مشاهدة ابنتها المعوّقة، ترفض بشكل خجول في البداية (بالمواربة واللف والدوران) لكنها تنفجر في النهاية لتدافع عن موقفها، حين تضطر إلى تبرير هذا الموقف أمام زوج ابنتها الذي يتهمها بالقسوة وقلة الرحمة، فتكاد تنهار، فيما هي تعترف بعجزها وخوفها من المرض والموت، فهي تخاف أن ترى صدى صورتها في حالة ابنتها لذلك فهي تهرب وتغرق نفسها أكثر فأكثر في السفر والعمل وربما في أحضان الرجال، وبالفعل تتصل سراً بعشيقها طالبة منه أن يرسل بأي شكل من الأشكال برقية كي تكون الذريعة لتقطع زيارتها وتهرب مرة أخرى من مواجهة مصيرها وماضيها أمام ابنتيها لكن ذروة المأساة، أن الابنة المعوّقة التي لا نسمع سوى صوتها وصراخ ألمها تفارق الحياة حزناً وكمداً، لأن أمها رفضت مشاهدتها.

حقيقة، قدم المخرج هادي المهدي وفرقة المعهد العالي للفنون المسرحية عرضاً مشغولاً باقتراحات بصرية وجمالية ومعرفية تنتمي (لروح الطقس المعاصر). واللافت في هذا العرض، أن إيقاعه الداخلي يشبه إلى حد كبير حركة موسيقية تنساب في هدوء ثم تتصاعد وتتصاعد ومن ثم تعود وتهدأ. إن هذا الزخم في النوسان بين هدوء الحركة وتصاعدها، ثم تفجرها يقارب حركة أرواحنا المعذبة بهذا المناخ الخريفي الهادئ والحزين.

ولفت هادي المهدي الإنتباه إلى أنه أقل صخباً في عرضه المسرحي هذا من عروضه السابقة، لكنه في الآن ذاته أكثر عمقاً واتزاناً، يحفر في دواخل شخصياته، وينقب ليكشف عن عمق وتعقيد وشفافية الروح الإنسانية المعطوبة، ويعيد صياغتها باقتراحات فنية وجمالية موفقة.

من الواضح أن الشغل على الممثل، كان الهاجس الأساس بالنسبة للمخرج في هذا العرض، حيث نجده يختبئ وراء الممثل، الذي تألق، فطلال نصر الدين كان في أجمل حالاته، وخديجة غانم كانت محور العرض في مقاربتها لشخصية شارلوت الإشكالية المتقلبة، وقدمت بشكل خاص(ميزانسي) معبر ومدروس ومتناغم مع الدلالات والحالات الإنفعالية التي كانت تقاربها وكذا كانت ميديا رؤوف التي لعبت دور (إيفا) بقوة، وجسدت الكراهية بالتعبير والحركة والصوت على نحو آخر.

حاول المخرج المزج في بعض المشاهد بين تقنية المسرح وتقنية السينما، وقد لعبت الإضاءة دوراً هاماً هنا في مزج الخطوط ورسم حالة التماهي بين العالمين، كذلك لعبت الإضاءة دوراً دلالياً هاماً في خلقها عالماً نصف مضاء، يتحرك في ألوان أقرب إلى وهج الأحمر الكآبي دلالة على هذا الصخب والتوتر الداخلي الذي يميل إلى ضبط النفس والتوازن الخارجي.

ثمة ملاحظة على الأغاني التي رافقت العرض، فهي أولاً تنتمي إلى مرجعية ثقافية وروحية تختلف عن مرجعية العرض) على الأقل (في السياق الذي قدم لنا، وإذا صرفنا النظر عن هذه النقطة فإن الصوت العالي للغناء كان يطغى أحياناً على الحوار وفي أحيان أخرى لم يكن يتلاءم مع اللحظة الدرامية المعطاة.

16 الحياة     

آداب وفنون    

الجمعة 28 آب) أغسطس (1998 الموافق لـ 6 جمادى الأولى 1419هـ / العدد 12960     

 (سوناتا الخريف) لبرغمان في اقتباس   

مسرحية (الكراهية) … أو الهروب من الحرية   

دمشق – خالد  سليمان    

تقدم فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية على مسرح القباني في دمشق، مسرحية (الكراهية) من إعداد المخرج العراقي هادي المهدي وإخراجه.

تتحدث المسرحية عن حياة امرأة ممثلة تهجر ابنتيها الإثنتين بعد فترة قصيرة من وفاة زوجها لتمارس حياتها الفنية بعيداً عن الأجواء العائلية والالتزامات الأمومية. وتستمر هذه الهجرة عقداً كاملاً تحدث فيه تغيرات اجتماعية ونفسية في حياة ابنتيها هيلين وإيفا اللتين أهملتهما كل الإهمال، هيلين في دار الحضانة تتعرض لشلل جسدي بسبب لا مبالاة والدتها، وإيفا تنمو عصابياً ولم تدرك مناحي الحياة (الأيروسية) وفيها يسكن ظلام الوحدة وهي بدورها تسكن فيه.

يسبق هذا العقد موت الأب أيضاً لتكونا أكثر تشبثاً بهذه الحالة العصابية التي تركتها شارلوت بحثاً عن أهوائها النجومية واعتناقها الفردانية الخالصة بعيداً عن الأسرة وإشكالياتها المؤسسية تجاه الفرد.

هناك شخص آخر دخل حياة إيفا خلال العقد المنصرم وهو فيكتور المتدين الشكاك الذي يحاول أن يستعيدها ويخرجها من المأزق الروحي الذي تعيشه.

تبدأ المسرحية وإيفا تكتب رسالتها العاشرة خلال شهر واحد إلى أمها المهاجرة منذ عشر سنوات من دون أن تجيبها على أي رسالة. منذ هذه اللحظة يشعر المرء بأن إيفا تريد أن تقول لأمها: أنني كبرت، تزوجت، أنجبت ولداً ومات، أتيت بـ (هيلين) إلى هنا، إلى بيتي الذي أسكنه مع زوجي فيكتور، وهي مشلولة تماماً وتتحرق للقاء بك، أنا أيضاً أتحرق وأتشوق لرؤيتك. إنه إحساس بالزمن وتقلباته من خلال الآخر وتصور الذات عبره، ولكن حين تعود شارلوت في وقت متأخر في الليل وبشكل مفاجئ تنقلب الصورة التي رسمتها إيفا لها، حيث تتصرف كأنها حالة كينونية خاصة بذاتها من دون الإحساس بالآخرين وترى في صورة ابنتيها قيد حريتها ورغباتها المكنونة في قدرتها على التجاوز والنسيان، هذا ما يدفعها لتخترق محرمات الأسرة وتقع في حب زوج ابنتها فيكتور وتكره رؤية هيلين مع احتقارها لإيفا أكثر فأكثر، لأنها صورة عن أبيها، كومة من التشوهات والعقد وهي، بالمقابل لا تجدي معها تصرفات والدتها هذه، تتشبث بها لتبقى معهم!.

إنها لعبة الهروب من الحرية، متزامنة مع كراهية متداخلة مع الحب والشوق، ليلة ممطرة بالغضب والمحن والابتسامات الباردة وحنين (المنـزليين) للخارجين عنها، أما شارلوت فتحلم حتى في عودتها المفاجئة هذه، بأن ابنتيها هيلين وإيفا تريدان قتلها.

نستطيع القول أن هذه الحرية التي تمارسها شارلوت وتفتقر لها كل من ابنتيها هي المعضلة الرئيسية في العلاقات وعدم إدراكها، أي تصور الذات من كلا الطرفين على حساب الآخر، وإذا نظرنا إلى الشخصيات نظرة تقسيمية نرى في شخصية شارلوت طبيبة لم تدرك علاقتها بمرضاها، وفيكتور يمثل (الأنا) – الذات – المساومة بين العصابية والنرجسية، إذ يحاول التوازن بين كراهية إيفا الكامنة ونرجسية والدتها.

هذا النص الذي كتبه (انغمار برغمان) أساساً كسيناريو للفيلم وأخرجه بعنوان (سوناتا الخريف) يعده ويخرجه المخرج هادي المهدي على المسرح عبر مقارنة تناصية وفق تقنيات العرض المسرحي بتحويله من لغة الكاميرا إلى لغة الخشبة من حيث الحوار والشخصيات والأصوات والتحولات الدرامية، ويأتي هذا العمل التناصي بشكل دقيق في شخصية شارلوت، فهي في الفيلم كانت عازفة بيانو، أما في (الكراهية) فهي ممثلة سينمائية ومسرحية مشهورة، تعيش في حياتها اليومية كما تعيش على المسرح وتلوذ بإيحاءات تمثيلية كلما تأزمت حالتها مع (المنـزليين) المعزولين الذين (لا يعرفون معنى الحياة) حسب تعبيرها، وهذا ما يدفع إيفا لتقول لها (يا من تمثلين في الحياة كما تمثلين على المسرح) .

يحاول المخرج في عمله هذا أن يخلق أجواءً من العنف والصمت والحزن والإنفعالات، لا تتماسك فيها واحدة من الشخصيات إلا بالكراهية والغضب تجاه الأخرى. ولتجسيد هذا الطقس العنفي بين حالتين من الكراهية عاشتا فترة كمون وظهرتا في ليلة لقاء كادت أن تكون دافئة وحميمة، يعتمد المخرج فكرة تأسيس علاقة متكافئة في القوة والموقع بين شارلوت وإيفا، وهناك قوة بلاغية خفية تدفع بمجمل العلاقات والأجواء إلى التوتر الدائم من دون أن تتجلى مفردات قوتها هذه، وهو طيف هيلين.

إن هذا الطقس الصوفي (الكلام للمخرج) والصوفي المضاد الذي يتبدى في عوالم الشخصيات بتقنية جسدية عنفية يعتمد بدرجة أساسية على طاقة الممثل وتدفقاته الحياتية في العرض، بالطبع هناك عناصر العرض الأخرى من الديكور إلى الإضاءة إلى الموسيقى تفعل فعلها في تأسيس أجواء الكراهية، لكن تدفق الممثل الجسدي والذهني (التخيلي) بتماهيه في الفعل المولد الرئيسي لإنشاء أجواء المسرحية المتبدية في التوجه نحو الذات الرافضة للآخر، والممثلون الثلاثة طلال نصر الدين (فيكتور) خديجة غانم (شارلوت) ميديا رؤوف (إيفا) يقفون في الصدارة باستخدام مهاراتهم التمثيلية وتأسيسهم لعوالم الكراهية، فنرى أن كل واحد منهم ينفعل، يكره، يحب، يقاطع غيره، يتواصل ويبني علاقاته المختبرية، أقول مختبرية لأني عاينت المشروع منذ بداياته ولاحظت كيف أن الممثل لا يتوقف في نقطة معينة ويستقصي في ثنايا تمارينه المختبرية عن إرشادية داخلية تقوده إلى توليدات متكررة في الشخصية واستراتيجيتها الجمالية وهناك تقنيات سينمائية يستخدمها المخرج ضمن رؤيته الإخراجية وهي إدخال صور سينمائية تعبيرية لإيفا وهيلين تحاولان فيها خنق والدتهما في لحظة حلمها بهذه الحالة، وتشكل هذه الصورة السينمائية جمالية بصرية تتزامن مع حركة شارلوت في عمق الخشبة.

ضمن هذه الرؤية الإخراجية لمقاربة العرض المسرحي بالتصوير السينمائي يحاول المخرج إدخال حالة أخرى مشابهة للأولى للعرض لكن بطريقة مغايرة من حيث التصوير والاستخدام وهي عرض أحلام الشخصيات على المسرح على شكل ألوان تتداخل بعضها مع بعض وتتلاشى لتعبر عن دواخلها. تأتي هذه العملية ضمن تأثيث المكان المسرحي من مكونات العرض الأخرى، وقامت بتصويرها وتركيبها بثينة أبو الفضل، وساهم مصصم الإضاءة ماهر هربش مساهمة إبداعية بعمله التركيبـي اللون والحالات النفسية، بالإضافة إلى توزيعه للفضاء حسب دلالاته المتعددة للفعل وللحدث أيضاً، والديكور الذي صممه المخرج بالإضافة إلى حركة الممثلين وطقوسهم الداخلية، فيضم هذه التقاسيم في البقع الضوئية والصور السينمائية في تناسق فني متناغم يعطي جمالية بصرية للمتلقي.

الموسيقى وهي من تأليف رعد خلف، كانت لها مشاركة عميقة في الأحداث بتأثيرها الحسي وإنشائها لغة مركبة من هارمونيات صوتية متعددة بأسلوب كنسي، وقد واكبت تحولات العرض كخط مواز لها، حتى اللحظة التي تنتحر فيها هيلين بعد مغادرة شارلوت للمنـزل، في هذه اللحظة تخبرنا حالة سمعية بأن هناك فاجعة ما من دون أية إشارة من الممثلين ولا العناصر الأخرى للعرض، وهذه اللحظة (السمعية) هي التي توقظ إيفا من سبات كراهيتها.

الكفاح العربي  

29/7/1998   

فن  

عن فيلم (سوناتا الخريف) لإنغمار برغمان  

 (الكراهية) معزوفة مسرحية على أوتار الأحلام والحب والحرمان

دمشق (الكفاح العربي)

قدمت فرقة المعهد العالي مسرحية (الكراهية) المعدة عن فيلم (سوناتا الخريف) لإنغمار برغمان، وهي من إعداد وإخراج هادي المهدي … ويعتبر تقديم عرض مسرحي في هذا الموسم مغامرة غير مضمونة النتائج، لأن غالبية الجمهور في إجازات صيفية، والمهتمون بالحركة المسرحية مرتبطون بأعمال   تلفزيونية والجمهور الباقي أغلب الظن لا يتحمل حرارة الجو، وهذا ما بدا واضحاً في العرض.

المتابع لعروض فرقة (المعهد العالي للفنون المسرحية) منذ تأسيسها وحتى الآن، يلاحظ أنها تمضي وفق نمط معين، وتحاول أن تقدم عروضاً ذات سوية ملائمة، تنسجم مع الهدف الذي أسست من أجله، وهو رفع سوية العروض ورفد الحركة المسرحية في سوريا، من خلال اختيار النصوص، واختيار الممثلين المحترفين، في الوقت الذي هرب الممثل من عروض (المسرح القومي) وباتت هذه القضية معروفة لدى الجميع لأسباب كثيرة علماً أن (المسرح القومي) يضم ممثلين محترفين موظفين وعلى الرغم من ذلك يستعين بالهواة مرة، وأخرى ببعض الخريجين غير الموظفين.

 (الكراهية) عرض كلاسيكي من حيث البنية الدرامية يتقيد بوحدة الزمان والمكان والموضوع، تجري الأحداث في منـزل (فيكتور) خلال فترة زمنية لا تتجاوز ساعات عدة من المساء وحتى الصباح، وهي زيارة قصيرة جداً تقوم بها (شارلوت) الفنانة المشهور إلى منـزل ابنتها (إيفا) بعد غياب عشر سنوات.

يجري الحدث بين (إيفا) و (فيكتور) ضمن نسق معين تدخل (شارلوت) ويتحول مجرى الأحداث … يستنهض الماضي ضمن حالات نفسية، ترتكز على الشخصية أكثر مما ترتكز على الفعل المسرحي، وتستعرض (شارلوت) من خلالها قصة حياتها الفنية، والاجتماعية، وعلاقتها بزوجها وابنتيها، وهي التي تحب الحياة، ولا تترك فرصة تفلت منها فتحب (فيكتور) زوج ابنتها (الحب المحرم) وترفض رؤية (هيلين) ابنتها المريضة الثانية التي تعيش في منـزل (فيكتور) أيضاً تفجر (إيفا) الماضي وتستعرض من خلاله علاقتها بوالدتها، وكذلك يروي (فيكتور) قصة علاقته بـ (إيفا)، وكيف أنها لم تكن تحب على الرغم من أنها تزوجت به، وأخيراً أنجبت طفلاً يموت في ظروف غامضة بالنسبة للجمهور، وتنفجر الأحداث من جديد … يسيطر الماضي على الشخصيات، وينقطع الاتصال بينهم، فكل واحدة تروي المونولوج من دون سماع الآخر خصوصاً الاتهامات المتبادلة بين (إيفا) و (شارلوت) تجاه (هيلين) المريضة يشعر الجمهور بالملل، تحلم (شارلوت) أن ابنتها ستقتلها، وبعدها تتصل برجل ما، يختلق لها قصة كي تخرج من هذه الأزمة، ثم تخرج فعلاً.

أحدثت هذه الزيارة القصيرة التي لم تدم ساعات، تغيراً في مجرى الأحداث، وفي مجرى حياة الزوجين الشابين أثراً كبيراً حيث تتخلى (إيفا) عن كراهيتها، وتصبح متسامحة، وتنتحر (هيلين) عندما تسمع أن والدتها سافرت من دون أن تراها، هذه هي أهمية الدراما ودورها في الحياة، وفي المجتمعات الإنسانية، قد تؤدي إلى التقدم وإصلاح النفس البشرية، وإلا فلا داعي لحضور الشخصية.

يقدم العرض حالة إنسانية مملوءة بالكراهية والحب والحرمان، ولا يستطيع الجمهور أن يقف في جانب شخصية الأم (شارلوت) ولا في جانب (إيفا) .

يختفي المخرج في هذه العروض وراء الممثل ويهتم به بشكل أساس، لأنه من العروض السايكولوجية، فيكون الصراع داخلياً وخارجياً في آن واحد، ويحمل الممثل العرض، وأي خلل في أداء الممثل، لا يمكن للديكور والإضاءة، والموسيقى أن تشفع له وتنقذه من هذا الخلل لأن التقنيات مكملة للممثل، وليست أساسية ولا تستطيع أن تقدم عرضاً جيداً ما لم يكن الممثل قديراً، وهنا يفسح في المجال للحوار والصمت أكثر من الأفعال، والحركات، والممثل هو الذي يفجر الحدث من خلال نبرة الصوت وتعابير الوجه والأداء التمثيلي.

حاول المخرج أن يستخدم حلولاً إخراجية تتلائم مع الجو العام للعرض، فقد جسد الحلم عن طريق استخدام المادة الفيلمية على خلفية الخشبة، والملاحظ أننا لم نجد فترة إظلام على الخشبة طوال العرض، وهذا ما يبرز أيضاً أن الحدث لم يستغرق إلا ساعات قليلة، تحولت الحالة أحياناً إلى هبوط في مستوى الإيقاع ولم يشعر الجمهور بأنه أمام موقف حقيقي وكان الأداء باهتاً، لم يرتق إلى مستوى الحالة النفسية، وساعد الجمهور في ذلك حرارة الجو والصالة معاً.

حاول المخرج أن يضيف خطاً شاعرياً شفافاً إلى العرض وخصوصاً بعد خروج (شارلوت) وقد لعبت دورها الممثلة خديجة غانم وهي على الرغم من غيابها سنوات طويلة، الفنانة المسرحية والسينمائية من جهة، وهي غير (شارلوت) الأم اللامبالية من جهة ثانية.

ميديا رؤوف أدت دور (إيفا) بشكل مقنع، وهي الوحيدة التي كانت دائمة الحركة على الخشبة، وقدمت كل ما لديها، لترتقي إلى مستوى فنون الإبداع الحركي والإيمائي واللفظي، بكل مواصفاتها، وهي الطرف الأساسي في الصراع.

يظهر الممثل طلال نصر الدين بدور (فيكتور) المعجب بشخصية (شارلوت) في البداية، ويتحول بين يديها إلى لعبة للحظات قليلة، وقد جسد الشخصية من خلال سلوكه ومبررات وجوده على الخشبة في مكان ضيق هو منـزله.

 عبد الناصر حسو      

البعث الصفحة (9) العدد 10676                          ثقافة

سوناتا برغمان وكراهية المهدي

عرضت على خشبة القباني مؤخراً مسرحية الكراهية التي أعدها وأخرجها هادي المهدي.

وقبل أن ندخل في العوالم الداخلية للكراهية لا بد من الولوج لأعمال المخرج العراقي الشاب هادي المهدي والتي ناقش خلالها أفكاراً هامة ففي عمله الأول (دائماً وأبداً) حاول مناقشة أزمة الشباب العربي بشكلها اليومي والوجودي، مع اقتراب حقيقي من سخونة المشهد بشكل كوميدي ساخر معتمداً على مبدأ الثرثرة اليومية بإطار جمالي ينتمي لروح الطقس المعاصر. وفي عمله الثاني (دم شرقي) طرح ملفاً قاسياً قد يعد له السبق بطرقه وهو ازدواجية الرجل الشرقي والمرأة بوصفها ملخصاً لفضيحتنا الروحية والعقلية في ظل انهيار الأيديولوجية المستوردة.

وأما مسرحية الكراهية التي أعدها عن سيناريو فلم سوناتا الخريف لأنغمار برغمان الكاتب والمخرج العالمي المعروف والتي حاول فيها – كما قال في البروشور الاقتراب بالنص من شموس عالمنا الشرقي، من الازدواجيات، من هروب الفرد من مواجهة مسؤولياته إزاء المجتمع وأثر هذا الفرد في أحداث التغيرات الاجتماعية التي لا بد أن ينهض بها.

زيارة قصيرة قامت بها الأم شارلوت والتي حملت منذ نعومة أظفارها الكراهية نتيجة عدم الإهتمام واللامبالاة التي كانت تلاقيهما في طفولتها والتي لم تحب إلا الشهرة والفن والنقود أيضاً زاعمة أنها بذلك تعوض ما فقدته، زيارة لبيت ابنتها( إيفا) والتي أيضاً ملكت في داخلها الكراهية كما أمها نتيجة التعامل الذي لاقته ونتيجة فقدان طفلها الوحيد مما جعل حياتها سوداوية وفي توتر دائم. وزوج إيفا الكاهن( فيكتور )الذي هجر هو الآخر الكنيسة وترك معتقداته.

من خلال تلك الزيارة كانت المسرحية التي عرت الجميع من خلال عالم مشلول معتم وجمل نصف مضاءة وواقع منكسر بعيد عن الحركة.

لم يكن إلا الانفعال والبوح الروحي حيث تواجه كل شخصية العالم بصورة خاصة بناء على رغباتها الداخلية دون إعطاء الذات أي دور إزاء ما يحدث من شروخ وخلل عانت الشخصيات من العزلة ورسمت صوراً للكراهية التي حطمت كل شيء ابتداءً من الذات مروراً بالضحية (هيلين) انتهاءً بالمجتمع.

هذا باختصار خط العمل العريض، والذي اقترح في النهاية مفهوم التسامح كبديل لعالم الكراهية والعزلة والهروب من مواجهة الذات وأزماتها، أما عن أجواء العرض الذي استهلها المخرج كما عمله السابق بحمرة ودموية وتحريك للعالم الساكن وكأنه يبشرنا بفجيعة معتمداً على مفهوم) التشيء (أي تقديم الأشياء على الكائن فالمنـزل الأنيق الذي تسكنه الأرواح المهشمة والفاقدة لأناقة الحياة كان عالماً من القطيعة وعدم التواصل لذلك أتت الحبال بمثابة الجدران الوهمية التي تفصل الشخصيات عن بعضها والإزدحام المتعمد وشغل الفضاء جاء تعويضاً أو بديلاً عن غياب الإنسان في ظل تقدم المادة عليه.

ومن المشاهدات التي تستحق التنويه في العرض، المادة الفلمية التي خلقت حياة أخرى وحركت السكون بألوان ناسبت عوالم الشخصيات الداخلية وعكست ما فيها وجسدت حلم اليقظة الذي اجتاح الأم) رغبة بناتها في قتلها (وجاءت المادة الفلمية كمفتاح للمتفرج أو كدعوة منذ البداية للغوص في أعماق الحكاية والتي تمحورت حول الدراما النفسية أو العالم الداخلي الذي تصارعت خلاله الشخصيات عبر العرض.

وفي النهاية حلت الفجيعة: انتحار الأبنة) هيلين (والمصابة بمرض معد والتي شارك في انتحارها الجميع فلم تكن أنانية الأم وكراهيتها السبب الوحيد بذلك بل جاءت كراهية الأخت وجلدها لأمها، وقت أن أرادت أن تعبر عن إحساسها كأم عاملاً مدعماً للإنتحار.

طرح العرض الذي قام بأداء أدوراه ميديا رؤوف في) إيفا (خديجة غانم) شارلوت (طلال نصر الدين) فيكتور (ونهاد عاصي) هيلين (مقولة التسامح وقيام كل فرد بدوره للوصول لحل يرضي الجميع أو أحد الأطراف على الأقل.

أخيراً ثمة أسئلة فرضت نفسها لا بد من طرحها بشكلها المجرد دون إجابة أو تعليق.

رغم أهمية العرض بما طرحه من قضية تهم الإنسانية جمعاء هل ناسب النص متفرجنا المحلي وهل هي القضية الأهم التي يعانيها.

لا ننكر الصنعة المسرحية التي أمسك بجميع أطرافها المخرج ولكن ألم يكن طول الحوار عاملاً مضعفاً للنص؟ وهل خدمت المادة الفلمية العرض وجاءت داعمة له أم كانت مجرد استعراض في بعض المشاهد ورغم تبرير ازدحام الديكور وتسخيره لصالح العمل بل وحتى تفضيله على الإنسان هل أعاق الحركة وشغل المتفرج وجاء مناسباً للعرض؟!.

رغم ذلك جاء العمل بمثابة الصفعة والتنبيه لفداحة الكارثة التي ستقودنا إليها الكراهية وعدم قدرتنا على التسامح والتعايش الذي سيفكك حاضرنا ويجعلنا هباء.

عدنان عبد الرزاق

 

عودة الى الرئيسية

كتابة السيرة على الماء

دير الملاك

مواقع

ماكتبته الصحافة

تحت الطبع

نصوص خشنة

الحياة تبدأ غداً

الطقس المسرحي

الآن

مفتتح