دم شرقي نقد وحوارات

 

عن التجربة:

ثمة أناس لهم قدرة عظيمة على اصطياد فرص الحياة ومباهجها بينما هنالك آخرون لا ينالون منها شيئاً، إنهم محرومون ومقهورون تماماً وكأنهم خلقوا فحسب.

دم شرقي كتبت تجربة حقيقية بالنسبة لي ولمن عاشها معي بمواجهة أسئلة حياتنا الملحة: الاختيار / الندم / من المسؤول؟ / خيبة المضحي! / الملل والنحل / زحف قيم السوق على حساب الكائن البشري / المرأة بوصفها ملخص فضيحتنا العقلية والروحية / أسئلة عقائد المسرح الموجهة … الخ. ورشة أكيدة لحوار طويل وموسع ابتداءً بالمؤلف مروراً بالممثل والإخراج وانتهاءً بالموسيقى وبقية الفنيين، كما أضاء ورشتنا أصدقاء المسرح بحضورهم واهتمامهم المميز … إنها محاولة مرهقة لتجاوز علل المونودراما السقيمة بروح الرواية وشعر الفضاء المسرحي.

لذلك أستطيع أن أقول بأنني مواطن مسرحي فيه ولدت وبه أتنفس هواء أيامي وأزداد يقيناً أن العالم سيغدو جنة في يوم ما.

 

 

النقد والمسرح

مونوداراما لغتها الأضواء والموسيقى والأبواب

 (دم شرقي)

بين تحولات الأحلام وصدمة الصحوة

 الكل يتألف من مكونات أولى) جزئيات (ولا معنى لوجود من دونها، والقفز فوق الاهتمام بالجزيئات إلى الكليات ينتهي بخسارة الأثنين معاً.

مونودارما (دم شرقي) تسلط رزمة من الضوء التحذيري على حالة انتهت إليها خلية اجتماعية) أسرة (قامت على حلم كبير بتغيير العالم، وتحرير البشر، فقادها العالم، بواقعيته وقسوته إلى التلاشي، وداس حلمها بلا رحمة.

 

تقديم:

 في كلمته المطبوعة على بطاقة العمل يبدو المخرج هادي المهدي غارقاً في حلمه، بوعي واستسلام … كما لو أنه يعيد مسرحة عمله على الواقع: فهو يعرف أن (ثمة أناس لهم قدرة عظيمة على اصطياد فرص الحياة ومباهجها، بينما هنالك آخرون لا ينالون منها شيئاً، أنهم محرومون ومقهورون تماماً، وكأنهم خلقوا فحسب) . ومع ذلك فإنه يزداد "يقيناً أن العالم سيغدو جنة في يوم ما"!.

أما الممثلة (ميديا رؤوف) فعبرت عن علاقتها بالنص بالقول: (كنت أحس أني أتحدث من خلاله، بل كان النص يتحدث من خلالي … كأنما كنت أنا من أصنعه) .

الكاتب طلال نصر الدين، بدوره، ليس جديداً على المسرح، وهو صاحب تجربة، سواء في التمثيل أو في الإخراج أو في الكتابة، ورغم أنه ما زال مغموراً عندنا، فإنه واحد ممن حصدوا جائزة عربية مهمة على نص مسرحي لم يأخذ طريقه إلى العرض، رغم مرور السنين عليه، ورغم أن وفرة النصوص المحلية واحدة من شكاوانا في حقل المسرح!.

في نصه الجديد، (دم شرقي) تناول الكاتب مشكلة ذات وجهين: عالمية (عامة)ومحلية (خاصة) إذ يدخل إلى تبعات التحولات التي يشهدها العالم المعاصر، من باب حالة خاصة لأسرة مكونة من شخصين، أضيف لها شخص ثالث (مولود) حديثاً.

زوج هارب من أعباء ومتطلبات أسرته الصغيرة هذه وقد كان إلى حين، مغرماً بمواجهة العالم وتحرير شعوب الأرض قاطبة وتجديد التاريخ، وزوجة تنتظره بلا أمل، وقد كشفت عجزه عن تجديد ثوبها ومواجهة أعباء مولودهما، وطفل رضيع لا يعرف عن العالم شيئاً – كما لو أنه صورة للمستقبل المجهول والغامض.

خطاب كبير، لمثقف شامل واهم، يتضخم إلى أن يهزم صاحبه، ويدفع به إلى الهرب أمام أبسط متطلبات الحياة، تقول الزوجة (لم تحاول أن تتأكد أنك لم تعد تهتم، ليس لأن الذي يجري لم يعد موجوداً، وإنما لأنك لا تريد أن تراه) .

مشاريع ضخمة زينها لنفسه ولزوجته ولأصدقائه … وهو اليوم في حل منها ومنهم جميعاً، ورغم حنين الزوجة إلى تلك المحاضرات، وإلى حرارة اللحظات التي كان يولدها اهتمام زوجها) عشيقها (بها … لكن حالة الخسارة الحاضرة تتركها في أزمة ثقة محمومة، تدفعها لإعادة النظر بيقينياتها السابقة وتجعل منها مريضة شك، يتحول في ذهولها المقيم، كل شيء إلى كذب بكذب: الماضي والحاضر والمستقبل … وفي دوامة من الهياج والجنون تتشنج أصابعها على خناق طفلها، وبيديها اللتين خنقت بهما الطفل تذهب إلى أهلها، وتقدم لهم جسدها وروحها لقمة لرغبتهم في الانتقام منها، عقاباً وغسلاً لعارهم في زواجها من غير الملة؟.

وتبرز هنا دلالة مركبة: لا مستقبل مع الأوهام، لا ضمانة لبناء تهمل مكوناته الصغيرة، والحاضر، رغم قسوته الرهيبة، هو الرهان.

لم تأخذ المونودراما هذا المسار الناشف … لقد خاضت في البوح والنجوى في العتاب والحنين، في المسامحة والشوق في الغناء والأشجان، في الحنان والنواح، في نشوة الذكريات اللذيذة، في رعب مواجهة العالم من غير حول ولا قوة، في خيبة تسرب الأحلام، في فضيحة عري المثقف وخوائه … لكنها لم تنس طرح السؤال: "من المسؤول؟" وهو سؤال مركزي في المونودراما، أحسن الكاتب في تركه دونما جواب، فلم يندفع للبحث عن ضحية يحملها أوزار العالم، باستسهال مثير للأعصاب نمارسه عادة في خطاباتنا الثقافية.

العالم اليوم يغرق في لجة الفوضى والتحولات العصية على التفسيرات القاطعة … ولم يعد من السهل قبول النصوص النبوية، التي توزع اللعنات والإدانات هنا. وصكوك البراءة هناك، والخطاب الشمولي خسر نفسه وخسر العالم إذ ناب نفسه عن العالم، وبقي العالم يهزأ بكل النظريات والمشاريع الشمولية، ومن الغباء أن يدفن المرء رأسه في رمال الأوهام، لينعم باعتقاد خادع يزين له ما لا صلة له بالواقع.

يسخر (زياد الرحباني) على لسان إحدى شخصياته، من مثقف ثوري يقرع الآخرين لتقصيرهم، مكرراً عبارة "تغيير، تغيير" وتقول له الشخصية: "تغيير! أي قوم غير بنطلونك، الأول"! … دلالة بالغة لجملة بسيطة شديدة الواقعية، تشير إلى أولوية الخاص على العام، وإلى عملية الوصول إلى العام، عبر الخاص … وإلا تحول العالم إلىكلمات، دوامة كلمات تبتلع كل شيء، ويغدو معها الواقع مجموعة مجردات فارغة في الذهن، ويتحول صاحبها، بانفصاله عن الواقع وحركة الحياة وانحباسه داخل الكلمات والأحلام، إلى مجرد (دونكيشوت) بائس.

إنها، إذن محاولة لتلمس التغيرات العالمية في واقعنا، حيث يتحول العالم الحي المعاش، في واقعنا، إلى تهويمات وصور وكلمات، وفي حين تشهد البشرية اليوم نقلة نوعية – عقب حالة قطيعة مع الماضي – نغوص في رمال أوهامنا عميقاً، مثقلين برغبتنا الطوباوية، في حين يرقد واقعنا – من حولنا – في سكونية، ويستقر البشر في جهلهم وعاداتهم في حالة من العماء السعيد … وتكون النتيجة) نتيجة المونودارما – خاتمتها (منسجمة مع صدقية القراءة: تواجه البطلة، التي رضيت الزواج من غير ملتها، طلقات النار) غسلاً للعار (من أهلها، برضى اليائس المستسلم – وقد صحا على صدمة الجدار، كما يواجه زوجها ورفاقه مصيراً لا يقل في دلالته، إذ يبتلعهم الفشل والفراغ والهروب!.

أداء الممثلة خدم النص في دلالاته، نقلة نقلة، وحركة حركة ففي الحبور والإشراق كانت "ميديا" تنطلق في الهواء، ويسافر شعرها الطويل، أو تفترش الأرض، ويتحول جسدها إلى تراب، وفي حالات الخيبة كانت تفتح أوراق وطنها، أما الإخراج فكان نوعاً من التحدي، وظف فيه المخرج دراياته وحبه لهذا الفن، الذي لا يغفر هفوة، ولا يسامح على لحظة مجانية، فكانت الإضاءة لغة، وليست مجرد أضواء، أما مفردات الخشبة التي لم تتجاوز الأربع صور (الغيوم الراكضة في الأفق والأبواب والكرسي الوحيد والوشاح الأبيض الوحيد) فقد كانت لتغطية وظائف دلالية كثيرة لكل منها، فالغيوم مرة تدعوك إلى الرقص ومرة تأخذك إلى الوحشة، ومرة إلى الخوف على العمر الذي يهرب، والأبواب (وهذه حديثها يطول) تنقلك إلى حالات عديدة، منها تلك الإيحاءات بأغنية السيدة فيروز (الأبواب)، وأما الكرسي، عرش الزوج الغائب / الهارب، وأما الشال الأبيض فمن تشكيلات الفرح والتحليق إلى تشكيلات الإنطواء والخوف إلى شكل الطفل إلى شكل الكفن … الخ.

الموسيقى واكبت تبدلات المواقف عند الممثلة إلى حد ما، ولكن، ونظراً لتجربة الفنان الموسيقي سميح شقير العريقة، فقد كان المتلقي ينتظر نجاحاً أكبر هنا، قد يكون الفارق بين الأرضية الخامة الحزينة للممثلة العراقية وبين خامة الحزن والفرح أيضاً، في موسيقى شقير، وهي موسيقى شديدة المحلية (جنوب سوريا) هو ما ترك شيئاً من الاهتزاز في التناغم التوافقي. ولكن كيف يمكن لنا أن نفسر أي نجاح (مثل هذا) من غير أن نلتفت إلى معنى الحب (حب المسرح هنا) وإلى معنى الأحلام والإيمان في تغيير العالم؟!.

علي ديوب

17/ 11/ 1997 / 407/ فن 23              

دم شرقي مونودراما الأسئلة الموجهة

انتهى مؤخراً عرض مونودراما (دم شرقي) إخراج هادي المهدي وتمثيل ميديا رؤوف. تلك المونودراما التي نبشت دواخلنا ووخزت ضمائرنا وخيل لنا عبر الصدمات المتتالية أننا أمام عادات لامناص منها إلا بالموت.

فمن خلال النهاية الدموية التي جسدها صاحب فكرة العرض ومخرجه (هادي المهدي) شعرنا بالنهاية الإنهزامية، وقتل فينا كل شيء حتى الحلم.

لكنه وبحرفية رائعة – رغم واقعيته الشديدة – جعل الإنهزام نصراً والضحية بطلاً ولعل الأمل والخيبة التي تارجح خلالهما العرض وعدم الرضوخ والسقوط من قبل (ميديا رؤوف) حتى بعد قتلها كانت مقولة العمل واضحة.

إلتقت البعث المخرج العراقي الشاب هادي المهدي وكان لها حول العرض الحوار التالي:

· أبواب … وخمسة حدود وكأن لبنى تلغي المسافات وتطير متمردة على المعوقات … ماذا عن البداية؟

· للبداية علاقة ببداية مشروع دم شرقي بالأساس، ذلك أن المسرحية كانت فكرتي الشخصية فكرة أوجعتني طويلاً طرحتها على الأخ طلال نصر الدين فقام بتطويرها وكتابتها مسرحياً معتمداً على نص روائي  له لم ينشر بعد ، أخيراً تعاونت معنا مديرية المسارح لجعل هذا المشروع يرى النور، وكانت الممثلة ميديا رؤوف بكل طموحها المكبوت (ذلك أنها لم تعمل منذ سنوات) لجعل هذا المشروع يتحرك، الأبواب هي أسرار تختبئ وراءها أحلام وآلام وسيرة أجيال بأكملها لذلك كان لابد من فتح الأبواب، كسرها، خدشها لإطلاق الأرواح من أسرها نحو البوح، وكان البوح هو الدم الشرقي ذلك الذي شاهدناه، الأبواب هي صورة  وإطار العالم الذكوري أيضاً (لتعدد الوجوه) صورة للمدينة بشوارعها المكتظة بالوجع.

· غاية في البساطة كان الديكور … ماذا عن اختيارك هذا؟

· البساطة هدف جمالي بالغ الصعوبة، فلطالما استطعنا كمخرجين أن نعقد الفضاء المسرحي وبالتالي نعقد حكايتنا وخطابنا وإلى حد القطيعة مع المتلقي. ولكن البساطة الشعرية هي أصعب المحاولات البصرية في صناعة العرض  المسرحي باعتقادي، انطلقت الفكرة وببساطة من إمكانية تحويل صورة الرجل المخاطب في النص إلى عالم متحرك، إلى بيئة وسيرة زمن معاً.

لذلك كانت الإطارات صورة للرجل الزوج، للأب، للأخ، وللجميع من حول الشخصية وغالباً ما كان يقع ضمن إطارها وجه للمتفرج وتخاطبه الممثلة بصورة مباشرة وساخنة وبعد ذلك جاء تحريك الإطارات لتشكل الدلالات اللاحقة من خلال التعامل معها بأسلوب (واقعي / رمزي) وبشفافية، كذلك قطعة القماش كانت جناحاً للطيران ومن بعد صحيفة وأخيراً طفلاً وأثقال الحياة اليومية الأخرى وذلك من خلال التعامل معها بوصفها مفردة دلالية قابلة للتعدد وببساطة ودون تعسف.

· وماذا عن الإضاءة والموسيقى والأغاني التي طعمت العرض بزركشات جميلة؟.

· ألف الفنان سميح شقير 25 مقطوعة للعرض وذلك من خلال حضوره المستمر للبروفا ثم تسجيل العرض على الفيديو وتأليف الموسيقى وفق حالة الممثلة النفسية والجسدية. ولذلك استطاع أن يفجر لنا الفعل نحو فضاءات جديدة لم نكتشفها قبل الموسيقى. لذلك أستطيع أن أقول إن الموسيقى باحت بالذي لم نقله كما ألف أغنية خاصة للعرض (ترنيمة الطفل) والتي أضفت على العرض سحراً خاصاً أما على صعيد الإضاءة فالكل يعرف أن أجهزة مسرح القباني قديمة ومستهلكة لكننا أثرنا أن نتعامل معها بشكل خاص لصنع فضاء متعدد دلالياً وملون حسب مزاج المشهد. بقينا لمدة عشرين يوماً نعمل على الإضاءة وهي سابقة في مسرحنا السوري إلى أن توصلنا إلى هذه الصياغة السينمائية حيث حققت الإضاءة عنصرين: عنصر المونتاج بين المشاهد بدلاً من اللجوء إلى الأعتام وكذلك حققت مزاجية العرض ومناخ الأمكنة التي تنقلت فيها وبينها الشخصية.

· غلبت الحمرة على ألوان الإضاءة حتى في مشاهد كان الأولى فيها استخدام ألوان أخرى هل في ذلك تمهيد للنهاية الدموية التي شاهدناها معاً؟

· دم شرقي هي نبؤة. وأنا أصر في صناعة العرض على الصياغة السحرية أو الإسطورية للفعل والتشكيل البصري. لذلك كانت الأحلام والتمهيدات تأتي ضمن اللوح الأحمر، الأمر الذي تتقاطعه سماء الأمل، دخان التيه والضياع، وأخيراً كان الأحمر أداته وسؤاله بقع أبرزت جسد الممثل بشكل يعبر عن فوران الدم داخل خلايا الشخصية.

· اعتمدت كثيراً على الديكور في الحلول الإخراجية، ماذا عن المعالجة البصرية؟

· إن المونودراما العربية تعاني من سطوة الحوار حيث يقف الممثل ويلقي حواره معتمداً على طاقته الصوتية والجسدية لذا جئت إلى العرض وأنا ضد المونودراما لذلك عالجتها بصرياً ومن خلال تشكيل وحدة بصرية وسلسلة أفعال متواترة تتوافق وتتزامن مع الحوار وذلك لخلق مناخ متعدد ومستويات ملونة للعرض وذلك للتخلص من أحادية الرؤيا في المونودراما. وهذا الأمر من أهم أهداف العرض على صعيد الصنعة (معالجة المونودراما لروح الشعر واللون) .

· طرحت المسرحية حلاً إنهزامياً قضيتم من خلاله حتى على الحلم عند المتلقي أو هكذا شاهدنا – هل في ذلك دعوة إلى التراجع عن مواجهة الأخطاء؟

· (دم شرقي) وكما أسلفت كانت سؤالاً موجهاً أحمله في داخلي، سؤال يشعرني بالحقد تجاه عالم مازال مظلماً. لذلك فقد رأيت أن أرفع مستوى قبح الواقع إلى الخشبة وأصدم المشاهد. لو أني صغت حلاً آخر كنت سأقول الواقع، أما أن أحلم بعالم نقي حقاً من هذه الأمراض ولكن العلاج لن يتم باللف و الدوران علينا أن نقتطع الأجزاء السرطانية من حياتنا لنتنفس هواء الحياة الجديدة. موت الشخصية هو انتصار وعلى طريقة غاندي والحلاج.

· هل بسقوط الديكور انتهى كل شيء وهل دعوت خلال مشهد النهاية إلى اليأس؟

· بل على العكس إن تساقط الإطارات من حول (لبنى) هو إعلان لموت هذا العالم الرديء الذي يحيط بنا، وإعلان الانتصار (لبنى) التي ستعيش دائماً وأبداً بأحلامها وطموحها نحو الحرية. إنها دعوى للتفاؤل فأنا انتصرت لشخصيتي وإلى الحد الذي لم أجعلها تسقط أو تتهاوى إنه انتصار الضحية على الجلاد.

· مزجتم بين الإنهيارات الكبرى وبين الإنهزام الشخصي عبر ربط الكل بالجزء والجزء بالكل، فما هي المقولة التي أردت طرحها؟

· أعتقد أن من وظائف الدراما أن تنقل الخاص إلى العام وتحتك بالجوهري والشمولي دون أن يستوقفها الذاتي والجزئي، ولذلك كانت تجربة دم شرقي ملامسة حية لمشكلتين كبيرتين في عالمنا: موت الأيديولوجية والمجتمع السفلي ضمن حكاية فتاة بل حكاية جيل بكامله. الدراما الكبيرة والفاعلة هي الدراما المجتمعية التي تتعامل مع العمق وتبتعد عن المستهلك والسطحي والمألوف كذلك فإن تحويل الشخصية إلى نموذج هو مهمة الدراما الكبيرة لذلك أعتقد أن موت النص يكمن في الإنصراف إلى الجزئي والذاتي.

دم شرقي

الواقع على الخشبة

لم يختر طلال نصر الدين أن يقدم لنا إعداداً لنص أجنبي، اعتدنا مشاهدته في أغلب أعمالنا المسرحية بل اعتمد إعداد الواقع ليقدمه على الخشبة. جرأة في الطرح لموضوع الزواج المختلط من خلال مسرحية مونودرامية بإدارة المخرج "هادي المهدي" . العرض حمل عنوان: دم شرقي، فهل المقصود هو هذا الدم المسفوح دائماً، أم هو هذا الدم المستعد للإستثارة لأقل موقف وسفكه بلا تردد، وربما هما الأمران معاً.

 (دم شرقي) ليست عرضاً مسرحياً بحاجة إلى فلسفة من ناحية الفكرة، لأنها واضحة وتأثيراتها مستمرة أمس واليوم وغداً، ولن تتبدل الحالة إلا بتبدل الكثير من القيم والمفاهيم الأساسية في دمنا الشرقي، نشير إلى أن العرض تم تمديده حتى 25 من الشهر الحالي ويبدأ العرض يومياً الساعة الثامنة على مسرح القباني.

خالد مجر / صحيفة الثورة 10417/18/10/1997

 

نضال الشعب             العدد 631                  الخميس 16 تشرين الأول 1997

نادي المسرح القومي … يقص شريط الموسم المسرحي

دم شرقي … وحكاية المرأة المستلبة في الدم الشرقي

قدم (نادي المسرح القومي) التابع لمديرية المسارح والموسيقا، كبداية للموسم المسرحي، عملاً يدخل ضمن نطاق المونودراما( مسرح الممثل الوحيد )حمل عنوان (دم شرقي) من تأليف طلال نصر الدين، ومن إخراج المخرج هادي المهدي … وبأداء للفنانة المسرحية ميديا رؤوف … وبديكور من تصميم حسام عرب … وموسيقى لسميح شقير.

تتناول المسرحية، عبر مونولوجها الطويل، حياة امرأة شابة وجدت نفسها بعد تجربة حياتية قصيرة نسبياً، في مأزق حقيقي فالرجل الذي بادلته حباً بحب … وتمردت من أجله على عائلتها، وبالتالي على التقاليد التي تحكم مجتمعها، وتزوجته، رغم الاختلاف الديني بينهما … تكشف عن وجه آخر غير الوجه الذي أحبته فيه … بمعنى آخر … فإن هذا الرجل خلع قناع التقدمية التي كان يدعيها ليكشف عن تهتك أخلاقي وفوضوية تعتقد أن فوضاها هو التقدم ذاته، وعدمية تشير إلى انفلاش لا حدود له.

وهي المرأة التي أضحت ضائعة ما بين زوج لا يحمل أية قيم، ولا يقيم وزناً لما كان يدعيه … وبين أهل تركتهم، ولا تستطيع الرجوع إليهم … تجد نفسها في مأزق لا خلاص منه، ومن منطلق مأزقها العويص، كانت وما تزال تحمل وهماً بعودة رجلها إليها … ولكن، ربما – كما تعبر الممثلة المبدعة ميديا رؤوف، بصوتها المجروح وجسدها المكتوي بنار الهزيمة، غير المعترف بها حتى الآن – تنتظرعودته، وتكرر بين الفينة والأخرى كلمة (تأخر) وفي الوقت ذاته تصف نذالاته، ودناءات أفعاله … ورغبتها الدفينة في ألا يرجع …

… يقول المخرج في معرض حديثه عن العمل: (ثمة أناس لهم قدرة عظيمة على اصطياد فرص الحياة ومباهجها، بينما هناك آخرون لا ينالون منها شيئاً) … ويقول عن تجربته في هذا العمل: (كانت تجربة حقيقية بالنسبة لي ولمن عاشها معي في مواجهة أسئلة حياتنا الملحة … الاختيار …. الندم … من المسؤول؟ … خيبة المضحي … الملل والنحل … زحف قيم السوق على حساب الكائن البشري … المرأة بوصفها ملخصاً لفضيحتنا العقلية والروحية) …

وفيما يمكن تقييم عمل المخرج وجهوده بعلامة جيدة جداً وعمل الممثلة ميديا رؤوف بأكثر من جيدة جداً … نبقى أمام النص الذي أغفل عن تسرع، أو عن عمد الجذور الطبقية والاجتماعية لأبطاله، وتركنا نحاول رسم هذه الجذور حسب استنتاجاتنا، أو حسب خلفياتنا الفكرية … وهي في الغالب ستقودنا إلى ربط الأحداث بفئات البورجوازية الصغيرة … على ما يحمله هذا الربط من رقعة واسعة رجراجة، وواسعة الحدود …

اعتمدت مسرحية (دم شرقي) على ديكور بسيط للغاية لكنه موح … إطارات تشبه الأبواب … متحركة في فضاء المسرح، بما يعمق مفهوم المأزق الذي يحيط بالبطلة … ذلك أن الأبواب هنا لا تفضي إلا إلى نفسها، كأنها جدارات لحب عميق، كل زاوية فيه تؤدي إلى عقم الخلاص … فيما لعبت الموسيقى، موسيقى سميح شقير … دوراً فاعلاً ومؤثراً لإيصال الحدث إلى ذروته الدرامية … بينما ظلت الدراما عند حدود الاحتراف المتقن دون إضافات … وأما لوحات الغيوم المتحركة على الخلفية السوداء للخشبة فلم تكن أكثر من تقنية مستهلكة لا يبررها سوى أن "نادي المسرح القومي" ينتمي إلى ما يسمى بـ "المسرح الفقير" … وكلمة "نادي" هي من باب المواربة للتغطية على الموازنات الفقيرة حقاً، المخصصة لأهم فن مؤثر على وجدان الناس!.

القاص وليد معماري

تشرين – الشاعر حسان عزت

دم شرقي وفرصة معلقة

أبدأ الكتابة عن عرض دم شرقي بفاتحة قصيدة غسلاً للعار للشاعرة نازك الملائكة: أماه … وحشرجة، ودموع وسواد / وانبجس الدم واختلج الجسم المطعون / والشعر المتموج عشش فيه الطين / أماه … ولم يسمعها إلا الجلاد / وغداً سيجيء الفجر وتصحو الأوراد / والعشرون تنادي والأمل المفتون / فتجيب المرجة والأزهار / رحلت عنا غسلاً للعار …

وأسأل بعد استحضار هذا المقطع لماذا اقنعتنا نازك الملائكة بصدق ما طرحت، ووضعتنا في صلب المشكلة، ولم نعد غرباء أو حياديين تجاهها؟ والجواب في رأيي هو الصدق الفني أي طريقة العرض والتبني والنقطة التي تعرض لنا من خلالها المشهد الحي الصارخ بعمقه … والمقطع والقصيدة يمسان القضية التي قدمها عرض دم شرقي مساً مباشراً، ففي اعتقاد القاتل) أخاً، عماً، خالاً (أنه يدافع عن مقدس ويطهر الشرف بغسل العار الذي لحق به … ويقتل دون أن يرف له جفن … فما الذي قدمه لنا دم شرقي، عرض المونودراما المليء بالجماليات والفنيات والحلول التشكيلية البصرية، وأين وضعنا من قضية الفتاة التي ستقتل لأنها خرقت حدود طائفتها وتزوجت شاباً من طائفة أخرى، وهو يتبنى مبادئ الحرية والعدالة ويلتزم بهما؟ لقد خرجنا من العرض الذي قامت به الفنانة ميديا رؤوف ونحن نسأل: أين نحن ومع من نقف ولماذا غاب الشاب برغم الحوار الطويل الذي يوجه إليه لمحاكمته، لإدانته، لعرض قضية الفتاة التي ينتظرها القتل من أول العرض، موت مكشوف ومعلن وتنتظره بالدقائق والثواني خلاصاً من أفق مسدود وحلاً لمشكلة لا حل لها، ولماذا غابت الجماعة وأين الحوار والجدل، أين صراع  الأضداد؟ وهل قدم العرض ليؤكد موتاً مجانياً، ويجعلنا نخرج لا مباليين تجاهه؟ أسئلة كأنها بلا جواب … والمشكلة الأساس في رأيي تبدو في النص الخطابي الخارجي الهجائي الذي غلب عليه الصراخ والحدة … مع الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها ميديا رؤوف جسدياً وصوتياً، وكيف وقع المخرج هادي المهدي في هذه الأحادية وحاول التعويض عنها تشكيلياً وبصرياً بفنيات كثيرة. إن حساسية المشكلة وسخونتها كانت تقتضي حسن عرضها وعمق الأسئلة التي يخرج المتفرج بها، والتعاطف مع الفتاة التي قتلت. لقد غلب خطاب الخارج على الداخل، وغابت كثيراً تفجرات الصمت والداخل في هذا القسم الغالب من العرض، وبقيت لحظات رائعة وممتعة وعميقة برزت في مشهد هدهدة الطفل وأغنيات فيروز، وحالات القلق. إن كل الإمكانات المحتشدة في إهاب ميديا بقيت بدون استغلال، والدم الشرقي بقي سؤالاً وعنواناً عريضاً بدون جواب، حتى الموسيقى التي قدمت مناخاً وعكست بيئة لم توظف كلية بشكل متقن …

كانت المؤثرات الأولى في طرف، وسأل الجميع لماذا قدمت أغنية المهد مسجلة، ولم تقدم بشكل حي والممثلة التي أكملتها بصوتها المؤثر والمعبر كان يمكن أن تقدمها كاملة …

دم الفتاة الشرقي دمنا بقي معلقاً بلا جواب كأنه ليس نحن لأن العرض اعتمد نصاً يعاني من حساسية ما يطرح، ومن حصار واقع كاتم الصوت، أخيراً هادي المهدي صاحب إمكانات ورؤى فنية متقدمة، وشت كثيراً ونظل على انتظارها.

السبت 11/10/1997   

العدد 6933 حسان عزت 

 

15/10/1997 الكفاح العربي                                            ثقافة

 (دم شرقي)          على مسرح القباني في دمشق

المرأة تلخص هزميتها الروحية والعقلية

حين نتحدث عادة عن انهيارات زمننا القاسي، وتراجع أحلامنا ومبادئنا، وتلك الهزائم الكبرى التي منينا بها جماعات وأمماً وقضاياً، قلما نتطرق إلى هزيمة قضية تحرر المرأة. (المرأة بوصفها ملخص فضيحتنا الروحية والعقلية)، على حد تعبير المخرج العراقي هادي المهدي  الذي خصص عرضه الأخير للتطرق إلى هذا الجانب الحساس من وجودنا، والذي نتابعه حالياً على خشبة مسرح القباني بدمشق تحت عنوان (دم شرقي) وبه افتتح المسرح القومي عروضه لهذا العام.

 (دم شرقي) مونودراما أعدها المهدي عن رواية لطلال نصر الدين وفيها تتقاطع أسباب هزيمة العام والخاص في مأساة امرأة كبر حلمها وتطور، بتأثير رجل أحبته، من اقتناء ثوب جميل، إلى الحلم بثورة الشعوب وتحررها، وفي غفلة من أمرها اكتشفت أنها وحيدة ومهجورة لم تحصل على ثوبها الجميل ولم تتحرر الشعوب بتضحياتها. وعلى امتداد المسافة الفاصلة بين تفتح الحلم وتلاشيه يصوغ العرض أسئلته وفي مقدمتها: من المسؤول عن هذا الخراب؟ كيف نتحقق من صواب الاختيار؟ وكم هي عظيمة خيبة المضحين)؟!.

كرسي خشبي قديم، وإطارات متحركة لصور غائبة شكلت مادة الديكور الرئيسية وتشكيلات الفضاء وتحولاته بتحول الحدث وتموضع الهزيمة، إضاءة مصممة بروح شاعرية عكست توترات الأعماق وتلاوينها، تارة تبدت على شكل غمام وأحلام سارية رسمت خلفيات المشهد، وأخرى على شكل شمس حمراء فيها تفتحت الآمال وفيها انكسرت، موسيقى ذات طابع ملحمي ألفها الفنان السوري سميح شقير منحت المناخ أبعاده النفسية والروحية. وقد استطاعت الفنانة العراقية ميديا رؤوف أن تلتقط بعناية هذا المزيج الصاخب من حالات التعب والتشنج والخيبة الكامن في أعماق الشخصية التي أدتها (لبنى) وتنشره على خشبة المسرح باتقان مستغلة طاقاتها الجسدية والصوتية بشكل لافت. ثمة توظيف متكامل ومنسجم لوسائل المسرح التعبيرية قام به المخرج هادي المهدي للخروج بالمونودراما من نظامها السردي الرتيب، إلى فضاءات تشكيلية وجمالية مغايرة، فتح بواسطتها الأبواب على الأسئلة والمضامين التي أرادها، لتجسيد هذا الانسحاق الكامل الذي يمليه النص. مع ذلك فإن من طبيعة الأعمال الإبداعية ألا تكتمل، ومن عيوب العرض التي يتحملها المخرج، ذلك التشنج الطاغي في بعض المواقف التي تفيض انكساراً وخيبة، وتلك الظلال التي تحيلنا إلى عروض أخرى مشابهة، أولها مونودراما (عائشة) التي قدمت في العام الفائت. إضافة إلى هذا وذاك تلك الإدانة الكاملة والمستبطنة لأحلام وأفكار وبشر ليسوا المسؤولين بالدرجة الأولى عما نعيشه اليوم من هزائم، مع أنهم وحدهم يتحملون أعباء الهزيمة، ومن عناوين الهزيمة أن تقبل بشروط الآخر ولو بشكل مؤقت.

                                                                                 تهامة الجندي

                                                 الكفاح العربي

11-1997

 

 

ثقافة                                                                          نقد مسرحي

دم شرقي إشكالية النص … تألق الإخراج

دمشق – مكتب البناء:

يجري الآن على خشبة مسرح القباني بدمشق العرض المسرحي (دم شرقي) تأليف طلال نصر الدين وإخراج هادي المهدي وتمثيل (ميديا رؤوف) وهي من جنس (المونودراما) أي مسرحية الممثل الواحد، وهي إيذان بافتتاح الموسم المسرحي لهذا العام.

بجرأة كبيرة تتناول المسرحية موضوعاً إشكالياً، يعد الخوض فيه كالخوض في حقل ألغام، فمن بداية العرض المسرحي نتوجس من خطر قادم، توحي لنا به بقعة حمراء كبيرة كخلفية للحدث المسرحي، فها نحن قادمون إلى وليمة شرقية يشترك فيها الجميع على مأدبة الدم، أحياناً نفسح فيها المجال لشجاعتنا المخبأة لتطل برأسها صارخة: (تنبهوا…!) .

موضوع المسرحية لم يترجم من لغة أخرى إنما هو واقع نعيشه مع كل يوم جديد وكأن الزمان والشخصيات تكرر نفسها في إطار من جغرافيا العزلة وإنتاج الماضي.

 (لبنى) العاشقة تحمل حبها لعنة ترافقها لتقض مضجعها ليل نهار، حبها الذي يقودها إلى انتحار الخلاص. في البداية تجذبها الشعارات عن الحرية والعدل والمساواة وتطربها سهرات الحبيب مع أصدقائه إذ تسحرها أصواتهم القادمة من بعيد. ترسم صورة حالمة مزركشة لهذا الشاب الذي يسكن في الجوار (فكل ما هو غامض محبوب بالنسبة لنا) نسعى وراءه لاكتشافه والإبحار في لذته.

يعزز الشاب حلم لبنى بالسعادة عبر جمله المنمقة وشعاراته التي تتسع للحياة، فيقنعها بالهروب معه والزواج بعيداً عن الأهل، تسير معه محاطة بالخوف وبقانون العشيرة، بعد الزواج ينهار كل شيء، إذ تتفاجأ بالشعارات الكاذبة، والأفكار المهزومة، فالزوج متخم بالهزائم والإنكسارات، مليء بالتناقضات، لدرجة أنه غير قادر على تأمين الاستقرار والأمان للزوجة الهاربة، كيف يعطيها ما هو عاجز عن إعطائه لنفسه؟ (ففاقد الشيء لا يعطيه) لذلك يترك زوجته فريسة للخوف والقلق، رغم محاولاته طمأنتها بأن أحداً لا يلاحقها. يتعايش مع زوجته بلا مبالاة أما هي فتجيبه بالحب رغم أنها اكتشفت حقيقته – حياته الزوجية ليست أكثر من شكل آخر لهزيمته السياسية و الفكرية، حياته الجديدة يجابهها بعبثية وبلا مسؤولية.

النص المسرحي يبرز هنا صورة عن شريحة كاملة من أصحاب الأيديولوجيات المنهارة الذين فقدوا التوازن والقدرة على التجدد والاستمرار بعد سقوط أفكارهم الكبرى، فالمقارنة تقود أمثال هؤلاء إلى نوع من الفصام النفسي الحاد ينجم عن عدم المقدرة على التصالح مع مجتمعاتهم مما يجعل منهم شريحة عرجاء عاجزة عن الفعل الاجتماعي. النص المسرحي لا يصر على تعميم فكرة أن الهزيمة تشمل المجتمع أو جيلاً بأكمله وإنما يسلط الضوء على فرد مضطرب من هذه الشريحة لا يستطيع ممارسة حياته الاجتماعية بالتوازن المعتاد فالجيل المحطم روحياً وفكرياً لا ينتج عادة سوى نموذج الهزيمة والعجز وليس الأمر فقط تناقضاً بين الشعارات والممارسة.

تقول لبنى مخاطبة الزوج (لم تتزوجني حباً بي وإنما خوفاً من امتلاك رجل آخر لي) هنا تبرز شرقية الرجل والأزمة التي يعيشها، إذ بحصوله على مبتغاه ينتهي الحب لتبدأ معاناة لبنى الباحثة عن الحقيقة، الملاحقة بسيف الملة، تعيش صراعات وتناقضات تمزقها وتجعلها مشتتة بين هلاكات من جهة غدر الزوج وخياناته لشعاراته ومبادئه، ومن جهة خناجر الشرف الملوث من قبل الفتاة العاقة، الخناجر المدعومة بالعقود السياحية وأنياب العيش الحادة. وتحتار لبنى في مصيرها وابنها الذي مثلته قطعة القماش الملفوفة، أتبقى مع الزوج الخاوي داخلياً أم ترجع لأهلها لتنحر بأيدي القبيلة عقاباً لها على أبقها وخرقها للقانون الطائفي؟       

هنا تبرز إشكالية النص: هل النص إدانة للزواج بين الطوائف؟ خاصة إذا كان الزواج من رجل شعاراتي لا يؤمن أدنى متطلبات الأمان للزوجة المضحية التي تخسر كل شيء من أجل زوجها؟         

أم أن كل زواج بين الطوائف مصيره الفشل لأنه خروج على قانون المجتمع؟ ثم عودة لبنى إلى أهلها لكي تقتل بعد صراعها الحاد مع نفسها ومع الواقع المكتشف هل يراد منه. عقابها على فعلها الآثم وهل يريد النص أن يحكم أن هذا المصير هو مصير كل فتاة تجرأ على إنجاز ذاتها عبر الحب في غير ملتها؟

أم أن هذا النص المسرحي تناول حادثة خاصة وعممها على كل زواج بين الملل؟

الذي وصل لنا من العرض، أن هذه النهاية المأساوية ما هي إلا نتيجة محتمة لكذا فعل، وهذا القتل هو تحذير لكل واحد لا يرضخ للقيم السائدة ويخرج عن القانون الاجتماعي!!. فالمسرحية لم تقدم إدانة لهذا القتل العشائري وإنما أشعرتنا بأنها نتيجة طبيعية لفعل لبنى، فالمسار الدرامي للعرض يوصلنا إلى المشهد الأخير حيث القتل والدخان الذي يلف المسرح ليقول لنا هذه هي النهاية، فالموت الذي رأيناه لم يكن موتاً نبيلاً للعاشقة المضحية بقدر ما هو عقوبة مناسبة لفعل آثم، فالصدمة التي واجهتها الزوجة بزوجها لا تبرر هذه النهاية بأن تقدم الضحية نفسها لتنال الجزاء العادل.

وهذا الأمر دغدغ مشاعر الكثير ممن يهللون ويكرسون شريعة القبيلة، لقد أفلت النص من سيطرة الكاتب وخرج عن حسن نواياه.

ما أنقذ النص من السقوط هو الرؤيا الإخراجية للمخرج التي جعلتنا نتابع بشغف المسرحية، حيث تم توظيف الإضاءة خاصة اللون الأحمر لابراز هذا الدم الشرقي المستتر بالنـزيف، مع ديكور بسيط ومعبر تناسب مع حركة الممثلة وصراعاتها الداخلية، وليملأ الفضاء المسرحي، رافقت العرض موسيقى مؤثرة وشجية ساندت التصاعد الدرامي مع لمسات صوت ميديا رؤوف الدافئة وهي تؤدي الأغنية لابنها، أما العنصر الأبرز والمتألق كان أداء ميديا رؤوف الساحر مما أعطى النص كثيراً مما افتقده.

                                                          البناء العدد 986/1-

 

 

7   السبت 1/11/1997) العدد 6949 (          تشرين                   ثقافة

مسرحية (دم شرقي) … هذا الدم المنسال دائماً!

افتتح نادي المسرح القومي في مديرية المسارح والموسيقا بدمشق موسمه المسرحي للعام 1997-1998 على مسرح القباني بعرض (دم شرقي) وهو من تأليف طلال نصر الدين وإخراج هادي المهدي.

بداية نرغب في التذكير بأن هذا هو العرض الثاني على خشباتنا للمخرج هادي المهدي، حيث كان قد قدم في الموسم الماضي مسرحية (دائماً وأبداً) من تأليفه وإخراجه والتي جعلتنا نستبشر خيراً بإمكاناته الفنية وهواجسه الفكرية، وها هو ذا لا يخذلنا في عرضه الثاني، إذ يقدم لنا مشكلة مأساة مزمنة، يحياها مجتمعنا، صائغاً عرضه بمقدرة إخراجية لافتة.

وإذ نختزل الحدوتة نقول: صبية في مقتبل العمر أحبت شاباً فتزوجته من غير موافقة أهلها وأنجبت منه معارضة رغبة أهلها الذين يلاحقونها بغية قتلها غسلاً للعار، وذلك دون أن تلقى مساندة زوجها الذي تغيرت مشاعره حيالها، وهي تحيا في رعب قاتل بحد ذاته.

ولكن كيف صاغ العرض هذه الحدوتة؟

أنت – كمتفرج – عندما تلج مدخل ردهة مسرح القباني يستقبلك صوت فيروز الذي تحب، ولكن ما أن تخطو عتبة الردهة نازلاً الدرج حتى تزكم أنفك رائحة البلاستيك المحترق والمنبعثة من الداخل؟ وإذ تسرع خطاك لتتخلص من تلك الرائحة الكريهة فتدخل الصالة ستطبق على أذنيك موسيقا لآلات معدنية قاسية حادة فينتابك تعض التوتر الذي لا يلبث أن يتصاعد بتكرار تلك الموسيقا، والخشبة مكشوفة أمامك حيث تشاهد في مقدمتها كرسياً مقلوباً من الخيزران، وخمسة أطر خشبية مفرغة وقابلة للتحريك بفعل استنادها إلى دواليب متوضعة في أسفل القاعدة وقد رصفت تلك الأطر بشكل متتال، مع انحراف لكل إطار عن الذي يليه، فيما يتساقط على وسط عمق جدار الخشبة منبع ضوئي أحمر قاني اللون تعبره بعض الغيوم الرمادية المتقطعة والمتحركة بفعل تقني، وتجلس في الصالة لأكثر من عشر دقائق كافية لتوتير أعصابك قبل دخول الممثلة وبغيتنا من هذه الاستفاضة هي التأكيد على أمرين، أولهما: هو أن الطقس المسرحي يبدأ من لحظة الدخول إلى المسرح، والثاني هو هذا الفارق الكبير بين الاستقبال المريح – صوت فيروز – وبين ما يليه من استفزاز، فهل أراد المخرج أن يقول: نحن نحبكم ولذا نستقبلكم بصوت فيروز، ولكن لدينا مشكلة، مأساة، نريد أن نعرضها عليكم ولذلك إتبعنا صوت فيروز بالرائحة الكريهة وبالموسيقا القاسية؟.

والجواب، بتقديرنا هو الإيجاب. وإذن  وبعد ما يزيد على عشر دقائق ستطفأ أنوار الصالة والخشبة باستثناء الضوء الأحمر القاني المتوضع في وسط عمق الجدار لتدخل الممثلة وبحركة قاسية وسريعة ستصلب نفسها على الجدار وقد سقط عليها الضوء الأحمر القاني، ليرسل لنا العرض إشارة أخرى مفادها أن هذه الإنسانة القادمة من عمق الخشبة – المجتمع والمصلبة ستعرض علينا ولنا عذاباتها فهي الرمز الحامل لعذاب مزمن ولتتحول الخشبة، منذ اللحظة الأولى لفعل التمثيل، إلى ساحة مجتمع بأسره، إنه لخيار إخراجي ذكي جداً – بتقديرنا على الأقل – خاصة أنه مرتبط بما يليه، إذ ستبدأ الممثلة بعبارة (لقد تأخر) وتردف (لست المسؤول) ولاتلبث أن تسرد حكايتها – مأساتها، متجهة حركياً وصوتياً تارة نحو النظارة وتارة نحو الأطر المفرغة لنكتشف دلالة أو دلالات تلك الأطر، فهي طوراً صورة العالم المتغير القاسي، وطوراً صورة الحبيب الغائب الحاضر دائماً بما يمثله من ثقافة مدعية ابتغاءها للحرية وللعدالة، ومتداعية – أي تلك الثقافة – بسبب عدم نجاحها في إحداث تغيرات جذرية في بنية المجتمع والبنى العقلية والنفسية لأفراده. وإطار أخر سيمثل الأسرة – المجتمع بقسوته ومفاهيمه التقليدية القاتلة، الخ، وهكذا ستقوم الشخصية – الممثلة – الإنسانة لبنى – بتحريك هذا الأطر محرضة إيانا كي نهز التابوت الكامن في أعماقنا عبر إثارة أسئلة حارة وملحاحة من مثل: ما فائدة ثقافة لا تؤدي إلى التغيير؟ وكم عشنا في النفاق الاجتماعي بفعل استخدام الثقافة لغير هدفها الأصلي؟ وكم من الضحايا قد سقط بفعل ذلك؟ ومن هو المسؤول؟ هل هو الفرد؟ أم المشروع الثقافي والسياسي والإيديولوجي؟ لتقوم ممثلة – قبيل نهاية العرض بقليل – بإسقاط هذه الأطر على الأرض وذلك في حل إخراجي يحمل دلالتين، أولهما موقف المخرج وفريق العمل مما تقدم، والثاني تحريضها على رفض ما هو قائم وإلا فإن الدمار سيحل … أو بالأحرى هو ما نعيشه فمأساة لبنى هي مأساة كل فرد منا وما أغنية المهد والتي نستمع إليها مسجلة ثم بأداء حي إلا تأكيد على أن المأساة متكررة. بمعنى أن الأغنية بتسجيلها بصوت الممثلة ومن ثم سماعنا لها عبر آلة التسجيل إلا تأكيد على تجذر المأساة وتكرارها مثل تكرار تلك الموسيقا القاسية في بداية الطقس – العرض المسرحي، وإن كانت أغنية المهد مع أغنيات فيروز تشكل الحاضن للوجدان الاجتماعي العام، فإن هذا الحاضن للحظاتنا الإنسانية الصادقة، هو آخر ما تبقى لنا، فإنه هو الذي يتعرض للتدمير … وكي لا تحمل القضية بعداً نسوياً متعلقاً بالمرأة فقط سيودعنا صوت، سميح شقير – مؤلف وملحن الأغنية – سيودعنا بأدائه للأغنية مسجلة ونحن نخرج من الصالة لأن الدمار ليس دمار المرأة فحسب بل هو دمار الجميع. ولكن قبل أن نخرج من الصالة سينبعث ضباب – غبار كثيف مترافق مع مؤثرات صوتية توحي بالتصدع والإنهيار وستيجه هذا الضباب – الغبار نحو النظارة ليلف الحاضرين جميعاً.

فكما (لبنى) هي أية فتاة فإن الحبيب – الزوج – الغائب الحاضر هو كل واحد منا، وإن هذا الموت المنتظر منذ بداية العرض وحتى نهايته هو ما قد يتعرض له أي منا، وإن الإدانة الموجهة للمشروع الثقافي المذكور وبذات الوقت موجهة للجميع، لجميع الأطر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تسمح بأن يعيش الإنسان مهدداً بحياته ولقمة عيشه وبحبه وبخياره الإنساني. وباعتقادنا فإن الحلول الجاهزة والأجوبة الناجزة ليست من وظائف المسرح والفن بشكل عام، ولكن إثارة التساؤلات وإثارة النقاش والإشكاليات التي تتعلق بأزمتنا هي ما نبتغيه دائماً، وهذا ما نجح في إثارته عرض (دم شرقي). وإذا كان المؤلف طلال نصر الدين قد استفاد من قصة ماركيز (قصة موت معلن) فقد استطاع أن يجذرها بيئياً في مونودراماه هذه وإذ لا نستطيع في هذه العجالة إيفاء العرض حقه كاملاً إذا لم نتطرق إلى التشكيلات الحركية وعلاقة الممثلة مع المكان ومع العرض كما يقتضي الأمر، ولكن تقضي الأمانة أن نبدي احترامنا وتقديرنا للفنانة ميديا رؤوف التي لعبت دور لبنى باقتدار كبير، وإن تعثرت نحوياً في بعض المفردات، كما نسجل بطاقة محبة وتقدير لسميح شقير بموسيقاه القاسية وأغانيه واختياراته الغنائية الدافئة والحنونة، ونصر الله سفر لتصميمه الناجح بالإضاءة، وحسام عرب وديكوره الشرطي والمعبر، وبسام سفر في المتابعة الدرامية وبسام ناصر مساعد المخرج، وتحية احترام وتقدير ومحبة لمخرج يعرف ما يريد ويعرف كيف يصل إلى مبتغاه ويعرف كيف يستفيد من تجاربه السابقة في تطوير أدواته وخياراته. وإنه لمن المطلوب أن نعالج أزمات مزمنة بطرائق جديدة تشكل بحد ذاتها إدانة لخيارات وطرائق أكل الدهر عليها وشرب، طرائق، تتفق مع مفاهيم التجريب والحداثة وتستفيد منها، لأنه لمن الخطير أن نقدم أزمة قديمة – جديدة بطرق مستهلكة، فمن يريد أن يدين مشروعاً ثقافياً، عليه أن يدينه بطريقة مبتكرة وجديدة تتواءم مع روح جديدة نأمل أن تنبثق مما يمور في بواطن مجتمعاتنا. وإنه لنجاح جديد يحققه هادي المهدي في عرض (دم شرقي) يضاف إلى ماحققه سابقاً آملين مراكمة ما تحقق في مشاريع إبداعية قادمة نحن بانتظارها ونرحب بها دائماً وأبداً.

حسن  المير علي

المخرج هادي المهدي "دم شرقي" ينتمي إلى مسرح الاحتجاج والرفض بشاعرية عالية المستوى

الممثلة ميديا رؤوف عملنا بمفهوم الورشة المسرحية

أثار عرض دم شرقي للمخرج العراقي هادي المهدي زوبعة مسرحية لمتابعيي المسرح الدمشقي فمن متسائل إلى متلقي لم تصله رسالة العرض إلى متعاطف إلى مهاجم . . . نحن تابعنا ذلك عبر الصحافة المكتوبة حول العرض ومدى وصول خطابه إلى المتلقي كانت لنا الدردشة التالية مع المخرج والممثلة ميديا رؤوف:

· في عرض دم شرقي قضايا متعددة. هل يمكن توضيح ذلك؟

· أصل مشروع دم شرقي يعبر عن شجاعة في فتح ملف غاية في التعقيد ألا وهو موضوع ما بعد البيروسترويكا، وآثارها الكارثية على الذات والأسرة العربية. فلا شك بأني من جيل تكبد فادحة الكارثة، جراء انتصار قيم السوق على الأحلام الكبيرة. تأملت طويلاً في هذه المشكلة فوجدت أن الوهم بالواقع والوهم بالمبادئ هو الذي دفع الجيل الذي سبقنا إلى التنازل رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها وهنا كان لا بد من لمس هذه القضية التي لم تجرؤ الرواية والقصة والمسرحية العربية إلى الآن على مناقشتها. وأعتقد أني والمؤلف والممثلة استطعنا طرح أسئلة بلا إدانات وبلا تهكم، ذلك أننا نؤمن بأهمية ديمقراطية التفكير فعندما اتكلم عليّ أن أسمح للآخر أن يتكلم. وانطلاقاً من هذا الفهم أستطيع القول أننا تخلصنا من أحادية الخطاب في المونودراما، وإن كان غائباً، فالشخصية الرئيسية هنا ( لبنى ) تدافع عن الزوج وتبرر له في الوقت الذي تساؤله، وتفرد سجادة آلامه التي هي آلام جيل بأكمله، جيل ما زال يعاني من آثار تلك الهزيمة الغير معترف بها. على صعيد آخر كان لا بد من فتح ملف الطوائف الذي تعاني منه المنطقة بأكملها وإلى الآن. لذلك أعتقد أن مسرحية دم شرقي تنتمي ببعدها المعرفي لمسرح الاحتجاج والرفض، ولكن بأسلوب غاية في الشعرية والبساطة، ولكل ما ذكرت أعلاه أعتقد أن المسرحية صدمت المتقوقعين داخل ايديولوجيات وأخلاقيات صنمية غير قابلة للتغيير. وأعتقد أن نجاح المسرحية يكمن في إثارة هذا الجدل لدى غالبية المتفرجين، لذلك أستطيع القول وبصراحة لكل من تعاطف أو هاجم العرض أن مسرحيتنا تنتمي للمسرح الحي في الوقت الذي يعج فيه موسمنا المسرحي بعروض ميتة تنسى بعد الخروج من الصالة مباشرة، وهنا اريد أن أشدد على طبيعة علاقتنا الثقافية والذاتية بهذه المؤسسة التي تسمى المسرح، أنا أتهم بقسوة مخرجينا ومؤلفينا المسرحيين الشباب لفهمهم الروتيني والترفي دون أن يهتموا بقضية الدور الخطير الذي يلعبه المسرح في حياة المجتمعات المعاصرة.

السرد والعرض المسرحي

· في المونودراما السرد هو الأساس للشخصية. كيف عملتم للخروج من السرد وبناء عرض مسرحي متكامل؟

· جوهر المشكلة يكمن في طبيعة فهمنا للمسرح وأهميته أما على صعيد الشكل فأنا اعتقد أن المونودراما شكل رديء من أشكال الممسرح وهي نتاج للترف المسرحي (للمجتمع الاستهلاكي) البرجوازي. لكنني تعاملت بصرياً مع العرض على أساس بناء سلسلة من الأفعال ترافق الحوار وبناء صورة وتشكيلات سرعان ما تنهدم لتشكل صورة أخرى، كما أنني أعطيت السينوغرافيا حقها الطبيعي في صناعة الصورة ، ولهذا كانت الاضاءة بكل البذخ تصنع سمات المكان والزمان. والموسيقا المميزة للفنان سميح شقير أعطت تفجيراً مضافاً للعرض على صعيد الفعل والوجدان. أما بالنسبة للمثلة فقد تعاملت مع ممثلة تنفرد عن زميلاتها بمواهبها المتعددة . فمن صوت فيروزي أخّاذ وجسد راقص وعاطفة أم. لهذا كان لا بد من استنزاف كافة قابليتها الممكنة والمتاحة دون بهرجة وتصنع، وأعترف وأنني ولأول مرة أتعامل مع ممثل يؤدي تماماً كما أرى الأشياء في وجداني. غير أن تكامل العرض المسرحي على صعيد الموضوع الخطير والممثلة المتميزة ميديا رؤوف وموسيقى سميح شقير الهائلة أثارت حسد المسرحيين. فذهبوا إلى ملاحظات لا يستطيع عرضنا المسرحي القصير أن يستوعبها، وكأنهم يطالبوننا بالمستحيل وبعضهم يحاول أن يفرض مزاجه على طبيعة عملنا. غير أن بكاء وتصفيق ورسائل المتفرجين كانت شهادة ورسالة على نجاح تجربتنا وجديتها وتأكيداً لحميميتها وصدقها.

العرض والنقد

· كل عرض قابل لعدة قراءات كيف قرأ النقاد عرضكم؟

· أعتقد أننا لا نملك نقاداً من طراز رولان بارت يضيفون للعرض النقاد لدينل يستهلكون العرض ويقومون بنقله إلى القارئ من خلال وصف ما حدث على الخشبة بالكلمات متناسين أن الفعل المسرحي لا يوصف، والبعض الآخر يركز طويلاً على النص متناسياً الممثل والإخراج والسينوغرافيا. وللأسف البعض يمدح بلا حدود، والآخر يشكك بلا حدود والاثنان يعانيان من غياب رؤية نقدية للعرض وبصراحة، إن معظم نقادنا الشباب لا يجيدون قراءة أبجدية العرض، وأغلبهم يتعاملون مع العرض (كل العروض) إما بفوقية رجال محاكم التفتيش أو بتبعية دون مستوى العرض.

· ما رأيك بالموسم المسرحي وما يقدم به من عروض؟

· مؤسستنا المسرحية الرسمية وغير الرسمية معنية أولاً وأخيراً بالانتاج وأعني بالانتاج الكم الذي يغطي حجم الموسم المسرحي فليست هناك برامج ولا اهداف للموسم المسرحي، ففي الوقت الذي نقدم فيه مسرحية "دم شرقي" والتي تناقش أوجاع مجتمعنا هناك كم من العروض المترجمة والمعدة الغارقة بالابتعاد عن واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي. وكذلك على صعيد البذخ المادي، فتجد أن الادارة تفتح ذراعيها بشكل أبوي أمام بعض التجارب المكلفةالتي لا تستحق العرض والعمل عليها كما أن مشكلة الرقيب المسرحي تكمن في منعه لنصوصنا العربية والمحلية المؤثرة بينما يتخاذل أمام نصوص أجنبية ذات قيم وأفكار مبتذلة، وذلك خوفاً من أسماء كتابها الأجانب، إنها سخرية مرة نعاني منها باستمرار والحل يكمن في اعتقادي أن يضع المسرح القومي برنامجاً له أهداف معرفية وجمالية لتحديد طبيعة الانتاج المسرحي، كأن يكون موسم للنصوص التاريخية وآخر للكوميديا وثالث للواقعية المعاصرة . . . الخ. أما فيما يخص الانتاج بعيداً عن المؤسسة فإن العرض المسرحي يعتمد على المبادرات الفردية والتي يفرض عليها المنتج إرادته بشكل تعسفي، ولكنني أعتقد أن تنشيط الانتاج المسرحي يمكن أن يتم من خلال تنشيط الانتاج الخاص على الطريقة اللبنانية والتونسية.

الممثلة ميديا رؤوف

· لم كل هذا الإرهاق على الخشبة في عرض مونودراما؟

· اصراري على المونودراما يقوم بسبب عدم معرفة الوسط الفني السوري بي كممثلة، حيث يلعب العرض المونودرامي دوراً بالتعريف بي كخريجة أكاديمية بغداد للفنون، وأستاذة في معهد الفنون لمادة التمثيل. عملت مع كبار المخرجين العراقيين وحصلت على جائزة أفضل ممثلة في مسرحية "الحارث" سنة 1989 في العراق. وعند مجيئي 'لى دمشق لم أحصل على الفرصة المناسبة لكي يعرفني الوسط الفني، فلم يكن أمامي إلا اختيار نص يقدمني كممثلة. ولذلك تعاملت مع المؤلف طلال نصر الدين والمخرج هادي المهدي لنقدم "دم شرقي" التي تعتمد عليّ كممثلة ذات امكانيات متنوعة تصل إلى حدود مفتوحة وغير محددة.

· كيف استطعتم الوصول إلى صيغة مناسبة للعرض؟

· تعاملنا مع "دم شرقي" بمفهوم الورشة المسرحية حيث كان هناك تغير وآراء مشتركة، بدءاً من كتابة النص مروراً بالإخراج والتمثيل والديكور والاضاءة، والتغير سمت العرض من خلال أفكارجديدة ومقترحات جديدة.

· التناقضات التي تمر بها الشخصية كثيرة في العرض كيف عملتم للانتقال من حالة إلى حالة؟

· هناك تناقضات سريعة وتحولات كثيرة من حالة إلى حالة، مهما كانت صعبة جداً لأن الممثل عندما يعيش الحالة لا يمكن أن يتحول إلى حالة ثانية بسرعة كبيرة.

ولكن المخرج كان مصراً على ذلك ويتقصد وجود هذا البتر في الحالات وهذا أسلوب من الأساليب أو أنه كان ضرورياً لعرض كهذا العرض. وفي النهاية هو المسؤول عن طريقة عمله كمخرج، وهذا لم يشكل لي إشكالية كبيرة بل تعاملت معه واستطعنا أن نصل إلى ما نريد.

حاوره : بسام سفر

صحيفة البيان الإماراتية

العدد 6414

9/ يناير /1998

 

 

 

 

 

 

 

 

المخرج هادي المهدي "دم شرقي" ينتمي إلى مسرح الاحتجاج والرفض بشاعرية عالية المستوى

 

الممثلة ميديا رؤوف عملنا بمفهوم الورشة المسرحية

 

أثار عرض دم شرقي للمخرج العراقي هادي المهدي زوبعة مسرحية لمتابعيي المسرح الدمشقي فمن متسائل إلى متلقي لم تصله رسالة العرض إلى متعاطف إلى مهاجم ... نحن تابعنا ذلك عبر الصحافة المكتوبة حول العرض ومدى وصول خطابه إلى المتلقي كانت لنا الدردشة التالية مع المخرج والممثلة ميديا رؤوف:

· في عرض دم شرقي قضايا متعددة. هل يمكن توضيح ذلك؟

· أصل مشروع دم شرقي يعبر عن شجاعة في فتح ملف غاية في التعقيد ألا وهو موضوع ما بعد البيروسترويكا، وآثارها الكارثية على الذات والأسرة العربية. فلا شك بأني من جيل تكبد فادحة الكارثة، جراء انتصار قيم السوق على الأحلام الكبيرة. تأملت طويلاً في هذه المشكلة فوجدت أن الوهم بالواقع والوهم بالمبادئ هو الذي دفع الجيل الذي سبقنا إلى التنازل رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها وهنا كان لا بد من لمس هذه القضية التي لم تجرؤ الرواية والقصة والمسرحية العربية إلى الآن على مناقشتها. وأعتقد أني والمؤلف والممثلة استطعنا طرح أسئلة بلا إدانات وبلا تهكم، ذلك أننا نؤمن بأهمية ديمقراطية التفكير فعندما اتكلم عليّ أن أسمح للآخر أن يتكلم. وانطلاقاً من هذا الفهم أستطيع القول أننا تخلصنا من أحادية الخطاب في المونودراما، وإن كان غائباً، فالشخصية الرئيسية هنا ( لبنى ) تدافع عن الزوج وتبرر له في الوقت الذي تساؤله، وتفرد سجادة آلامه التي هي آلام جيل بأكمله، جيل ما زال يعاني من آثار تلك الهزيمة الغير معترف بها. على صعيد آخر كان لا بد من فتح ملف الطوائف الذي تعاني منه المنطقة بأكملها وإلى الآن. لذلك أعتقد أن مسرحية دم شرقي تنتمي ببعدها المعرفي لمسرح الاحتجاج والرفض، ولكن بأسلوب غاية في الشعرية والبساطة، ولكل ما ذكرت أعلاه أعتقد أن المسرحية صدمت المتقوقعين داخل ايديولوجيات وأخلاقيات صنمية غير قابلة للتغيير. وأعتقد أن نجاح المسرحية يكمن في إثارة هذا الجدل لدى غالبية المتفرجين، لذلك أستطيع القول وبصراحة لكل من تعاطف أو هاجم العرض أن مسرحيتنا تنتمي للمسرح الحي في الوقت الذي يعج فيه موسمنا المسرحي بعروض ميتة تنسى بعد الخروج من الصالة مباشرة، وهنا اريد أن أشدد على طبيعة علاقتنا الثقافية والذاتية بهذه المؤسسة التي تسمى المسرح، أنا أتهم بقسوة مخرجينا ومؤلفينا المسرحيين الشباب لفهمهم الروتيني والترفي دون أن يهتموا بقضية الدور الخطير الذي يلعبه المسرح في حياة المجتمعات المعاصرة.

السرد والعرض المسرحي

· في المونودراما السرد هو الأساس للشخصية. كيف عملتم للخروج من السرد وبناء عرض مسرحي متكامل؟

· جوهر المشكلة يكمن في طبيعة فهمنا للمسرح وأهميته أما على صعيد الشكل فأنا اعتقد أن المونودراما شكل رديء من أشكال الممسرح وهي نتاج للترف المسرحي (للمجتمع الاستهلاكي) البرجوازي. لكنني تعاملت بصرياً مع العرض على أساس بناء سلسلة من الأفعال ترافق الحوار وبناء صورة وتشكيلات سرعان ما تنهدم لتشكل صورة أخرى، كما أنني أعطيت السينوغرافيا حقها الطبيعي في صناعة الصورة ، ولهذا كانت الاضاءة بكل البذخ تصنع سمات المكان والزمان. والموسيقا المميزة للفنان سميح شقير أعطت تفجيراً مضافاً للعرض على صعيد الفعل والوجدان. أما بالنسبة للمثلة فقد تعاملت مع ممثلة تنفرد عن زميلاتها بمواهبها المتعددة . فمن صوت فيروزي أخّاذ وجسد راقص وعاطفة أم. لهذا كان لا بد من استنزاف كافة قابليتها الممكنة والمتاحة دون بهرجة وتصنع، وأعترف وأنني ولأول مرة أتعامل مع ممثل يؤدي تماماً كما أرى الأشياء في وجداني. غير أن تكامل العرض المسرحي على صعيد الموضوع الخطير والممثلة المتميزة ميديا رؤوف وموسيقى سميح شقير الهائلة أثارت حسد المسرحيين. فذهبوا إلى ملاحظات لا يستطيع عرضنا المسرحي القصير أن يستوعبها، وكأنهم يطالبوننا بالمستحيل وبعضهم يحاول أن يفرض مزاجه على طبيعة عملنا. غير أن بكاء وتصفيق ورسائل المتفرجين كانت شهادة ورسالة على نجاح تجربتنا وجديتها وتأكيداً لحميميتها وصدقها.

العرض والنقد

· كل عرض قابل لعدة قراءات كيف قرأ النقاد عرضكم؟

· أعتقد أننا لا نملك نقاداً من طراز رولان بارت يضيفون للعرض النقاد لدينل يستهلكون العرض ويقومون بنقله إلى القارئ من خلال وصف ما حدث على الخشبة بالكلمات متناسين أن الفعل المسرحي لا يوصف، والبعض الآخر يركز طويلاً على النص متناسياً الممثل والإخراج والسينوغرافيا. وللأسف البعض يمدح بلا حدود، والآخر يشكك بلا حدود والاثنان يعانيان من غياب رؤية نقدية للعرض وبصراحة، إن معظم نقادنا الشباب لا يجيدون قراءة أبجدية العرض، وأغلبهم يتعاملون مع العرض (كل العروض) إما بفوقية رجال محاكم التفتيش أو بتبعية دون مستوى العرض.

· ما رأيك بالموسم المسرحي وما يقدم به من عروض؟

· مؤسستنا المسرحية الرسمية وغير الرسمية معنية أولاً وأخيراً بالانتاج وأعني بالانتاج الكم الذي يغطي حجم الموسم المسرحي فليست هناك برامج ولا اهداف للموسم المسرحي، ففي الوقت الذي نقدم فيه مسرحية "دم شرقي" والتي تناقش أوجاع مجتمعنا هناك كم من العروض المترجمة والمعدة الغارقة بالابتعاد عن واقعنا الثقافي والاجتماعي والسياسي. وكذلك على صعيد البذخ المادي، فتجد أن الادارة تفتح ذراعيها بشكل أبوي أمام بعض التجارب المكلفةالتي لا تستحق العرض والعمل عليها كما أن مشكلة الرقيب المسرحي تكمن في منعه لنصوصنا العربية والمحلية المؤثرة بينما يتخاذل أمام نصوص أجنبية ذات قيم وأفكار مبتذلة، وذلك خوفاً من أسماء كتابها الأجانب، إنها سخرية مرة نعاني منها باستمرار والحل يكمن في اعتقادي أن يضع المسرح القومي برنامجاً له أهداف معرفية وجمالية لتحديد طبيعة الانتاج المسرحي، كأن يكون موسم للنصوص التاريخية وآخر للكوميديا وثالث للواقعية المعاصرة ... الخ. أما فيما يخص الانتاج بعيداً عن المؤسسة فإن العرض المسرحي يعتمد على المبادرات الفردية والتي يفرض عليها المنتج إرادته بشكل تعسفي، ولكنني أعتقد أن تنشيط الانتاج المسرحي يمكن أن يتم من خلال تنشيط الانتاج الخاص على الطريقة اللبنانية والتونسية.

الممثلة ميديا رؤوف

· لم كل هذا الإرهاق على الخشبة في عرض مونودراما؟

· اصراري على المونودراما يقوم بسبب عدم معرفة الوسط الفني السوري بي كممثلة، حيث يلعب العرض المونودرامي دوراً بالتعريف بي كخريجة أكاديمية بغداد للفنون، وأستاذة في معهد الفنون لمادة التمثيل. عملت مع كبار المخرجين العراقيين وحصلت على جائزة أفضل ممثلة في مسرحية "الحارث" سنة 1989 في العراق. وعند مجيئي 'لى دمشق لم أحصل على الفرصة المناسبة لكي يعرفني الوسط الفني، فلم يكن أمامي إلا اختيار نص يقدمني كممثلة. ولذلك تعاملت مع المؤلف طلال نصر الدين والمخرج هادي المهدي لنقدم "دم شرقي" التي تعتمد عليّ كممثلة ذات امكانيات متنوعة تصل إلى حدود مفتوحة وغير محددة.

· كيف استطعتم الوصول إلى صيغة مناسبة للعرض؟

· تعاملنا مع "دم شرقي" بمفهوم الورشة المسرحية حيث كان هناك تغير وآراء مشتركة، بدءاً من كتابة النص مروراً بالإخراج والتمثيل والديكور والاضاءة، والتغير سمت العرض من خلال أفكارجديدة ومقترحات جديدة.

· التناقضات التي تمر بها الشخصية كثيرة في العرض كيف عملتم للانتقال من حالة إلى حالة؟

· هناك تناقضات سريعة وتحولات كثيرة من حالة إلى حالة، مهما كانت صعبة جداً لأن الممثل عندما يعيش الحالة لا يمكن أن يتحول إلى حالة ثانية بسرعة كبيرة.

ولكن المخرج كان مصراً على ذلك ويتقصد وجود هذا البتر في الحالات وهذا أسلوب من الأساليب أو أنه كان ضرورياً لعرض كهذا العرض. وفي النهاية هو المسؤول عن طريقة عمله كمخرج، وهذا لم يشكل لي إشكالية كبيرة بل تعاملت معه واستطعنا أن نصل إلى ما نريد.

حاوره : بسام سفر

صحيفة البيان الإماراتية

العدد 6414

9/ يناير /1998

 

عودة الى الرئيسية

كتابة السيرة على الماء

دير الملاك

مواقع

ماكتبته الصحافة

تحت الطبع

نصوص خشنة

الحياة تبدأ غداً

الطقس المسرحي

الآن

مفتتح