كتاب

 : كتابة السيرة على الماء

ويتضمن : ايامي في المسرح الكوردي وعروض دمشق  ( دائما وابدا \ الكراهية \ دم شرقي  \ جذور الحب \ سيدة الفجر  ) وحوارات

أيامي في المسرح الكردي

·   تنوع بحيرة 

 

عرفت المسرح الكردي شمالي العراق وعن كثب من خلال علاقاتي الوطيدة بالعديد من فنانيه، وكنت قد أجريت متابعات صحافية عام 1989 عن أشكالياته ومشروع التأسيس والهوية الخاصة والتي اثيرت في وقتها، لذلك تسنى لي الاطلاع على الكثير من مشاكله وأزماته ومنها:      

يعاني المسرحيون الكرد من حالات التشرذم التي فرضتها التكتلات الحزبية – حسب انتماءاتهم لأحزاب الجبل – إذ شكل المشكل الأيديولوجي المعضلة الأساسية أمام أي فريق عمل أو فنان، فالبعض كان يجد في المسرح منبراً سياسياً خالصاً للتعبير عن أفكاره السياسية (ولا سيما اليسارية) بحيث حولوا الصالة المسرحية إلى قاعة درس، في الوقت الذي كان يجد فيه الآخرون فرصة لاثبات هوية الشعب الكردي بمواجهة مشاريع الإرهاب والتعريب التي كان يمارسها النظام بحيث حولوا العروض المسرحية إلى متحف فلكلوري محض لا ينتمي إلى العصر بأي شيء لا على الصعيد الجمالي ولا على الصعيد المعرفي، بينما انصرف البعض إلى التفتيش عن همومه الشخصية وبنرجسية عالية من خلال عروض ذاتية ابتعدت تماماً عن الواقع والأزمة الكردية، متأثرين بتجارب العروض الشكلانية التي اكتسحت المسرح العراقي بشكل عام في عقد الثمانينات. وبذلك كانت الفرق المسرحية تعزف على أوتار الخلاف المعرفي ولا سيما الأيديولوجي وبشكل غير متناسق، الأمر الذي أدى بها إلى إنتاج عروض لم تكن بحجم مبدعيها ولا بحجم النشاط والاختلاف مع الآخر.

يعاني المسرح الكردي ومع تعدد الفرق المسرحية (فرقة السليمانية للتمثيل، وفرقة سالار، وفرقة مسرح الطليعة، وفرقة المسرح التجريبي والفرقة القومية في أربيل وبقية الفرق الأخرى في دهوك) من وطأة الضغط الاقتصادي بسبب مساومة السلطة لهذه الفرق على إعلان ولائها للنظام الحاكم أو اهمالها وبالتالي عجزها عن سد متطلبات الإنتاج المسرحي، ليس هذا فحسب بل تجد أن معظم المسرحيين الكرد وطوال عقد الثمانينيات كانوا يعملون بأسماء مستعارة ولأسباب عديدة، إما لكونهم معارضين مطلوبين من قبل السلطة أو هاربين من الخدمة العسكرية أو ممن لم يلتحقوا بالجيش الشعبي أو فصائل الفرسان (الجحوش) . ونستطيع القول إن مجمل العروض التي كانت تقدم كان يقف وراءها الأثرياء الكرد أو جمهور المسرح، وتحت شعار الكفاف استطاع المسرح الكردي أن يقف على قدميه طوال عقود الإرهاب تلك، ولاسيما أن السلطات اعتقلت العديد من المسرحيين وأعدمت البعض منهم ونخص بالذكر هنا الفنان الجماهيري الشهيد دلشاد مريواني.

أسهم بعض الطفيليين من الفنانين الكرد، وعبر علاقاتهم سيئة الصيت مع السلطة في عرقلة الحركة المسرحية من خلال السيطرة على المؤسسات الفنية والصالات التابعة لها ولمدة طويلة بحيث تصدروا الواجهة في الوقت الذي كان فيه الفنان الملتزم يتقهقر إلى الوراء هرباً من الأضواء المشبوهة.

غياب الرؤية المنهجية والعلمية في العمل المسرحي اضافة الى ما اسهم به معهد الفنون الجميلة وفي تلك الفترة (أي عقد الثمانينيات) في إرباك الساحة المسرحية بمخرجين غير أكفياء، إلا أن خريجي اكاديمية ومعهد الفنون الجميلة استطاعوا أن ينقذوا وجه المسرح الكردي إذ شنوا حملة صحوة بارزة في تاريخ المسرح الكردي (ولا سيما أعمال فرقة المسرح التجريبي الكردي وعروض الفنان كامران رؤوف وإبراهيم جيوار) بحيث أعادوا للمسرح الكردي حيويته التي أسسها الرواد في فرقة السليمانية وفرقة الطليعة في السبعينيات من هذا القرن.

يعاني المسرح الكردي من فقر في عدد الصالات المسرحية المجهزة فنياً إضافة إلى غياب الكوادر الفنية والتقنية المختصة إذ يغلب الفقر على جميع العروض.

لا أستطيع القول إنني قد لخصت مشكلة المسرح الكردي في تلك المرحلة عبر هذه المعالجة السريعة ذلك أن هنالك إشكاليات أخرى ومن نوع آخر مثل غياب المؤلف الكردي، ولا يمكن لي الإحاطة بها غير أنني حاولت أن أركز على ممارسات السلطة في قمع الثقافة والمسرح الكرديين ودفعهما إلى التشرذم الذي لا ينتج إلا مسرحاً معطوباً وفنانين ما أن تتكامل أدواتهم حتى يزجون في السجون أو يفضلون الهرب واختيار المنفى على البقاء في المعتقل.

ضمن هذا الفهم قدر لي الدخول إلى المسرح الكردي مؤلفاً لنص (ده ريا / البحيرة) والذي ترجمه إلى الكردية القاص الكبير رؤوف بيكرد وأخرجته ومثلته الفنانة ميديا رؤوف، حيث أنتجت العرض فرقة المسرح التجريبي، وقد استطعت من خلال هذا النص لفت أنظار الجمهور والفنانين الكرد إلي بوصفي فناناً عراقياً عربي الأصل تمكن ومن خلال متابعته الكثيفة كبقية المثقفين العراقيين أن يتفهم القضية الكردية ويتفاعل معها إلى حد كتابة نص يفضح واقع الزيف وعمليات المسخ التي تقوم بها السلطة ضد المواطن والفنان الكردي إذ كان النص يحمل في خاتمته دعوة ليوم آخر، مسرح آخر، ومدينة أخرى تقوى على خراب الأيام والمسارح والمدن القديمة.

مسرحية (ده ريا / البحيرة) كانت صرخة جريئة ومن جرائها استدعت سلطات الأمن في مدينة السليمانية المخرجة والمؤلف مرات عديدة بعد العرض واتهمتهما بالتحريض لأنهما أنهيا المسرحية بتظاهرة جماعية تخرج من الصالة إلى الشارع وبمشاركة جمهور المسرحية.

كانت تلك الظاهرة عربون الصداقة والمودة بيني وبين الجمهور والمسرح الكرديين وأساساً للثقة التي طوقوني بها على صعيد المستقبل. في الليلة الأولى للعرض ساورني الخوف ولطخ فرحي غير أن الخبر الذي بثته إذاعة الاتحاد الوطني الكردستاني من الجبل بصدد المسرحية توجني بفرح كبير فقد تأكد لي أن المليشيات الكردية قد سمعت بعرضنا المسرحي الجريء هذا والذي بشر بقدومهم في آذار 1991. جاء الفرح الكبير  نتيجة من إحساسٍ فحواه أني قاتلت ولم أصمت، ذلك أن العدو هو … هو … في الديوانية أو بغداد أو السليمانية، والأصدقاء هنا بين الجبال مثلما هم في الناصرية أو الحلة وذلك وحده ما يؤكد وحدتنا شعباً، إذ أن جذورنا الثقافية والجمالية والمأساوية واحدة على الرغم من اختلاف اللسان ورطانته. لقد جعلني الحضور والتعاطف الشعبيين مع العرض أصرخ عالياً: هذا ما كنت أبحث عنه.

 

 

· في انتظار غودو

 

( وإلا فمن ذا الذي يقبل صاغراً لسياط الزمان ومهانته وصلافة أولي المناصب … والجلد والضرب الذي يلقاه ذو الجدارة من كل من لا خير فيه … لو كان بمقدوره تحقيق راحته بخنجر مسلول).

هملت/ شكسبير

لا الخنجر المسلول … ذلك أن كل إنسحاب نحو الصمت أو الهرب ما هو إلا نصر آخر – لأولي المناصب – لا لكل انتحار فها هو وطني إبداع يمتد أمامي وها هي السليمانية الأميرة الآرية حفيدة البابانيين النائمة بين أحضان جبلي أزمر وبيره مكرون تستقبلني عبر نفق بازيان مساء ومن ذلك المرتفع المطل على المدينة تبدو مصابيح بيوت السليمانية أشبه بتظاهرة مليون إنسان من حملة المشاعل … أو أن ارتجاجة الضوء القلقة تلك، كانت هي الوعود الربيعية المؤجلة التي طالما وعدتني بها السليمانية حتى غفوت فيها ملء جفوني، أرتجاجة قلق لفجر سيندلع قريباً.

قبل أن أجد المسكن بحثت عن المسرح … القاعة … الفرقة … المجموعة التي ستحمل أعباء أحلامي … لم يقف حاجز جهلي باللغة الكردية حائلاً دون مباشرتي العمل مع فرقة المسرح التجريبي وبمسرحية تكاد أن تكون أكثر المسرحيات العالمية إثارة للإشكاليات والغموض (في انتظار غودو) لماذا؟ كنت ومنذ لحظة مغادرتي لبغداد أحمل حنيناً وحاجة خاصة إلى (مخلص) ما، وكنت أرجو من خلال ذلك العرض أن أعجل بقدومه لأعود ثانية إلى أصدقاء الوزيرية ومسرح الرشيد … إلى حدائق كلية الفنون والحوارات التي لا تنتهي عن السياسة والشعر والأساطير … حنين إلى علاوي الحلة وسيارات الديوانية … إلى الفرات يعبق بكربلاء دائماً وأبداً، كربلاء جذورنا المسرحية الأولى … في السليمانية عرفت ومن خلال الأصدقاء في المسرح الكردي ولا سيما أعضاء فرقة المسرح التجريبي (شمال عمر، دانا رؤوف، كريم عثمان، نيكار حسيب، ميديا رؤوف وبمشاركة فريق عمل المسرحية وهم من طلبة معهد وكلية الفنون الجميلة، دلشاد مصطفى، هيوا فائق)، عرفت أن تاريخاً من الثقافة العراقية الذي أحمله سوف لن يعجز عن صنع جسر من التواصل الجمالي بيني وبين هذا الشعب الذي لا أجيد لغته ولا يجيد لغتي … كانت أساطير سومر وبابل … أغاني الجنوب … دماء الطف … اللغة الجمالية والمعرفية التي زودني بها آباء المسرح العراقي كلها حاضرة معي، لذلك لم أكن وحدي هناك بل كان الجميع من حولي … وبقليل من الصبر والعناء حدث التلاحم المدهش واللذيذ بيني وبين جمهور المسرح الكردي.

وإذن فأنا أمام نص (في انتظار غودو، والذي ترجمه لي خصيصاً الكاتب الكردي المعروف رؤوف بيكرد) أقف في قبو بناية نقابة الفنانين وأمام تفسير جديد ومغاير للنص. كان الابحار أشبه بمعضلة، (ملخص تأويل النص عبر العرض، ليس ثمة غودو سيأتي من وراء الغيب لينقذ هذا العالم من خساراته المتكررة … ذلك أن كل واحد منا يحمل غودو في داخله بشرط الصحوة) وهنا ابتدأ الرهان بين من كرهوا وجودي ولأسباب فنية تخص روح التنافس المعهودة بين المسرحيين وبين من احتضنوني وبشروا بي … عالم جديد من الجيران والأصدقاء والأعداء ينفتح أمامي … والأهم من ذلك كنت أنصرف ولساعات طويلة إلى تعلم اللغة الكردية والحفر في تاريخ الشعب الكردي وتراثه وتفحص مشاكله الاجتماعية والسياسية لأكون على تماس حقيقي معه … وكانت رحلتي من نالي ومحوي إلى كوران وحضارة بابان الخارقة للعادة وأساطير التحفة المضطربة الساحرة، وإلى جانب هذا كان يقف المشهد السياسي المتأزم منتظراً مني إجابة واضحة وصريحة لتوضيح وجودي هنا، هل أرسلت من قبل النظام؟ سؤال طالما حاول البعض اتهامي به من دون جدوى ذلك أن عروضي المسرحية كانت تجيب، وكان تعاطف الجمهور الكردي معي حصني المنيع … والسليمانية وعلى حد اعتراف أهلها "مدينة الإشاعات القاتلة"  ذلك أنها تعيش على الجدل والحركة … فتن يومية يقتات عليها شيوخ السياسة المتقاعدون الذين خلفتهم الأحزاب الكردية وراءها وفرت إلى الجبال … تنظيمات سرية سريعة الاتصال بالشارع الكردي تحركه وتوجهه … تهديدات ومنشورات يومية … إذاعة معارضة تبدأ بثها مساء كل يوم فتطرب المدينة بأخبار المعارك وتزيد إصرار الكردي … إن مشاهدة الأغتيالات السياسية اليومية في شوارع السليمانية وحاراتها و أسواقها كانت وحدها كفيلة بإثارة دهشة واحد مثلي لم يعرف السلطة إلا بوصفها جلاداً لا يقهر، ولم يشاهد رجالها إلا وهم يقتلون الشعب في الجنوب … صرت انتظر يومياً صوت الرصاص الليلي (عمليات البيشمركة) وصرت أميز الكردي الأصيل عن (الجاش/ وهو الاسم الذي يطلقه الكرد على فرسان النظام الحاكم في وقتها ولسوء الحظ فقد كان عدوي الأول هم هؤلاء / الجاش / الذين خلعوا الزي المسرحي وتطوعوا لخدمة السلطة من خلال تدمير القنوات المسرحية) فها نحن قد أنجزنا العرض إلا أنهم تدخلوا في اللحظات الأخيرة وحاولوا اغتياله، فقد رفض عادل رؤوف، وهو بعثي كبير وعضو في برلمان جعفر البرزنجي ومسؤول الاتحاد الوطني لطلبة وشباب العراق، فرع السليمانية، أن يمنحنا قاعة مسرح الفارابي إلا أننا تمكنا من أخذ القاعة عنوة وعرضنا فيها رغم أنفه بعد أن أجرناها مقابل مبلغ مالي كبير. فشلت ولحسن الحظ كل المحاولات التي سعى بها الآخرون ضد العرض وفرقة المسرح التجريبي. ضجت القاعة بالجمهور وتمكنا من تغطية الإنتاج مع قليل من الأرباح … وأذكر – هنا – شهادة امرأة كردية مثقفة إذ قالت لي: "شاهدت هذا النص سابقاً ومن قبل مخرج كردي ألا أنني لم أفهمه بالشكل الذي قدمته" والفنان الكبير أحمد سالار دعاني بعدها وبشكل مباشر للعمل مع فرقته وقد التقينا في مسرحية كاليغولا ولكن بعد عام من هذا التاريخ … لم يكن ذلك النجاح إلا صفعة لـ (جاش المسرح الكردي) ذلك أن الجمهور هو الذي انتصر للمسرحية، والإنتفاضة التي جاءت في آذار ثأرت من أعداء المسرح الكردي وصفعتهم الواحد تلو الآخر وأولهم (عادل رؤوف) وكل أتباعه، جاءت الإنتفاضة بعد أن استيقظ غودو المخلص في روح الشعب ومنذ ذلك الحين لم نعد ننتظر أحداً، ذلك أننا صرنا نعرف كيف نصنع أيامنا بأيدينا.

 

 

· احتفال النار

 

أستطيع القول بأني عاصرت المسرح الكردي في أهم مرحلتين في تاريخه المعاصر، حيث لجأت إليه في الوقت الذي كان يعاني فيه من وطأة السلطة حيث لم أفوت أية فرصة في تلك الفترة للإطلاع على ثقافة الشعب الكردي وكذلك زيارة القرى والأقضية والمجتمعات السكنية القسرية! وسماع قصص الأنفال سيئة الصيت من أفواه أبطالها الحقيقيين والاطلاع على المأساة الكردية وملامستها بشكل حقيقي ومتابعة الحياة الاجتماعية والثقافية المعارضة للنظام ومحاولات الكردي للهرب من قبضة الإذعان للنظام. وقد عاصرت كذلك المسرح الكردي في انتفاضته، حيث عايشت انتفاضة آذار 1991 بكل تفاصيلها، شاهدتها وهي تلقي بوشاح الآلام والقمع وراء الشعب الكردي لتدك معاقل القهر والاستعباد وتصفي حساب الشعب الذي طال أجله مع نظام عبث بأرواح الكرد ومقدراتهم بما فيه الكفاية.

ومع مضي الأسبوع الأول على الانتفاضة وتمكن الميليشيات الكردية من السيطرة على مرافق الحياة في المدن بدأت الأحاديث تدور حول مشاركة الفنان والمثقف في هذا الحدث الشعبي التاريخي. وللحقيقة أذكر أن اتحاد الفنانين الكرد الذي تم تشكيله سراً من قبل الاتحاد الوطني وبعد الإعلان عنه قد انصرف بكوادره إلى ملاقاة السلطة في كركوك وبالسلاح، هذا في الوقت الذي فضل فيه الآخرون من الفنانين الصمت والإنسحاب خوفاً من عودة النظام إلى المدينة مجدداً.

وأمام المهرجان الشعري الهائل الذي نهض به اتحاد أدباء الكرد لم نجد أمامنا نحن المجموعة من المسرحيين الشباب إلا السعي إلى تقديم عرض مسرحي سريع يستطيع مواكبة الحدث الجماهيري الواسع وقد ركزنا بحثنا الخاطف على النقاط التالية:

الاحتفال بالانتفاضة و مباركة الشهداء ومواساة ذويهم، وفضح النظام، و تعبئة الجماهير لمعركة كركوك القادمة، و إشاعة روح التآخي الوطنية بين العرب والأكراد من خلال التذكير بانتفاضة الجنوب. ولأننا لم نجد النص المسرحي المناسب لهكذا تجربة تحمل من الواقع حرارته، اتجهنا إلى كتابة النص ومن خلال البروفة بحيث اعتمدنا على الوقائع اليومية للانتفاضة وحكايات الشهداء مع مزيج من القصائد السياسية المعروفة في الأدب الكردي والعربي العراقي وارتجال مشاهد كوميدية عن الدكتاتورية وعصابتها الحاكمة في بغداد للترويح عن المشاهد، واجتزاء مقاطع من التاريخ الكردي ومسرحتها وتجسيد بعض المشاهد المتخيلة عن انتفاضة الجنوب وحسب ما تنقله الإذاعات العراقية المعارضة، والتركيز على جريمة حلبجة، هذا بالإضافة إلى الغناء والرقص والحوارات المباشرة مع الجمهور. هكذا تم بناء العرض الذي أطلقنا عليه اسم (احتفال النار) حيث ينطلق العرض من نقطة انتصار الانتفاضة والانتقال من خلالها إلى الماضي والحاضر والمستقبل وبإسلوب (المسرح الشامل) المعروف. من المواقف التي لا أستطيع نسيانها مشهد ضرب مدينة حلبجة بالغاز الكيماوي إذ فر معظم الأطفال والناس في أثناء العرض خوفاً من الدخان الذي استعملناه، وبكيت لحظتها لأنني علمت أي خوف صنعه الدكتاتور في نفوس هؤلاء الأبرياء من جراء تلك الجريمة.

كان فريق العمل يتكون من مجموعة من الهواة وعدد من الدارسين المختصين – لأن الأكاديميين كانوا يتخوفون من خوض هذه التجربة الجماهيرية التي تنتمي إلى الإحتفال الشعبي أكثر من انتمائها إلى المسرح، وهو المفهوم الذي أسس له ميرهولد في محاولاته المسرحية في إبان انتصار ثورة أكتوبر. كان من بين الممثلين والممثلات المقاتل الحزبي والممرضة وأخت الشهيد، جميعاً كانوا يتحدثون بلسان حالهم من دون وسيط وبتكاتف هؤلاء المخلصين لأنفسهم ولقضيتهم استطعنا وبسرعة خاطفة وفي غضون عشرة أيام إنجاز العرض وبشكل نهائي من خلال البروفات الطويلة في ساحة ملعب كرة السلة في بناية الرعاية العلمية. وقد تم الإعلان عن العرض بشكل بسيط عن طريق البوسترات والدعوات الشفاهية. ومع اقتراب ساعة العرض كان الخوف من الفشل، لإنشغال الناس بالمعارك، يجعل قلوبنا تدق إلى حد الإعياء، إلا أن الملعب ولثلاثة أيام عج بالجمهور الغفير الذي قدم للعرض تبرعات مالية كبيرة تم توزيعها ومن قبل الممثلين على العوائل المنكوبة من أهل خانقين وكركوك. وبعد ذلك قمنا بجولة في الحارات الشعبية وفي مصيف سرجنار وفي المدارس حيث احتشد الناس وصفقوا طويلاً للعرض. ومثلما كان العرض يبتدئ بالدبكة الكردية كان ينتهي بها أيضاً حيث يدعو الممثلون الجمهور إلى المشاركة  وغالباً ما كانت الدبكة تستمر ساعات طويلة، رقص يعبر عن تلك الأيام الأولى لنهاية الدكتاتورية في كردستان، أيام من الثورة النقية! لقد فعلها الهواة حقاً وبجمال طالما افتقدناه في العروض المصممة هندسياً.

امتد (احتفال النار) ليغطي سماء أيام الانتفاضة ولم يتوقف إلا بدخول الدبابات الحكومية إلى المدينة في آخر صباح حين غادر المدينة سكانها وفروا عبر الجبال معلنين رفضهم التعايش مجدداً مع هذا النظام … ومعبداية الاحتلال كان شباب (احتفال النار) ينسحبون أيضاً … وأنا بدوري كنت أركض في سهول شهرزور وعلى كتفي بندقية لا أجيد استعمالها!! أطفأت السلطة ثانية نار احتفالاتنا … إلا أننا عدنا بعد فشل المفاوضات –المبتذلة– ولم نصمت؟

 

 

 

 

 

· كاليغولا ... مازلت حياً!

 

يصرخ الطاغية في نهاية العرض وبرغم إصابته بمليون رصاصة (مازلت حياً) فيدخل مدير المسرح إلى المنصة ليقول: كانت أمسية رائعة للتفكير! هكذا انهيت عرض كاليغولا في السليمانية والذي قدم ضمن نتاجات فرقة أحمد سالار وبمشاركة أكثر من عشرين ممثلاً وممثلة.

مسرحية (كاليغولا) كانت أطروحة تخرجي في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد بعنوان (الأمير) إلا أنني اعتقدت بخطأ الرؤيا الصورية في صياغة عرض التخرج لذلك فإن اللوم يقع علي. ففكرت بإعادة تقديمه، إلا أن ذلك لم يكن هو السبب الوحيد، ذلك أن حرارة الانتفاضة انعكست على مشاعري وتفكيري وأنا أدعي أنني رجل أتعامل مع معطيات الواقع بشكل حيوي وساخن ولكن بشرط عدم السقوط في المجانية وفي التعاطي مع حدث الشارع ومنعكسات عالم السياسه على حياتنا الاجتماعية. إنني أجد الفن المسرحي أداة فاعلة لتحليل وتفكيك القوانين المحركة للواقع الاجتماعي والسياسي لذلك لا أتوقف عند السطح بل أحاول ومن خلال الشاهد أو المثال أن أسبر العمق لأكشف عن الخلل الذي يكتنف القانون الأساسي للحركة الخارجية! منذ انتفاضة آذار فُتح ملف الدكتاتورية على مصراعيه في أدبيات المعارضة وفي الحركة اليومية للمجتمع العراقي ولا سيما في كردستان (المطبوعات، والقنوات التلفزيونية، و الندوات) لذا كان لا بد لي من مناقشة هذه القضية في عرض مسرحي، لأنني أجد المخرج المسرحي كائناً ومواطناً عضوياً في المجتمع عليه ألا يقف حيادياً أزاء القضايا الرئيسية التي تشغل شارعه. هذا بالإضافة إلى قضية أخرى فحواها أني لا أجيد لغة أخرى في توصيل أفكاري باستثناء اللغة المسرحية. وقد كانت لي وجهة نظر في صناعة الدكتاتورية (ناقشتها في كاليغولا وفيما بعد في مسرحية هملت لشكسبير، الدكتاتورية السلطوية و الدكتاتورية الفردية ممثلة بأحلام المثقف البرجوازي) .

كنت ومازلت مؤمناً أن الدكتاتور ما هو إلا نتاج أعلى لحركة المجتمع وبالتالي فهو إنعكاس حقيقي لعيوب حقب زمنية تلازمها ظروف معينة تنجب الدكتاتور وتغذيه وترفعه وتقدمه وتسلط عليه الضوء، ومن ثم تضفي عليه هالات المديح التاريخي.

واعتقد أننا في الشرق نملك إرثاً خاصاً وعميقاً في الدكتاتورية يمتد من عصر كلكامش الذي تقول عنه الإسطورة "هو الذي رأى فغني بذكره يا بلادي، كلكامش الذي لم يترك عذراء لحبيبها" مروراً بنبوخذ نصر إلى عصر الخليفة (ومذابح الزنج والقرامطة والمعتزلة ومأساة الطف … الخ)، انتقالاً إلى عصر الجمهورية حيث سلطة الحزب الواحد والقائد الواحد الأوحد. إن مجتمعاتنا لم تفرز الديمقراطية ولم تقبل يوماً بتعايش الأفكار وتصاهر الألوان، وأذكر هنا محاضرة سمعتها للمفكر الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) يحلل فيها المجتمع الفرعوني (الدكتاتوري) أفادتني وإلى حد بعيد في صياغة رؤيتي الجمالية والمعرفية في تقديم هذا العرض. كذلك فقد وجدت علاقة وطيدة بين مشاهد المسرحية وكتاب (الأمير) لميكافيللي الأمر الذي جعلني أدخل شخصية ميكافيللي في العرض بوصفه معلماً ومرافقاً (ملقناً) لكاليغولا فاقتطفت نصوصاً من كتابه تزامنت مع المشهد المسرحي بشكل مدهش وغريب. وأخيراً جاءت الصورة مسرحاً خالياً تماماً ذا جدران أو أرضية سوداء عليها عشرة كراس تمثل كل مفردات هذا العالم، السلطة، البيت، الشارع، الحلم، السرير، إنه عالم كراس، فالنواب الجبناء يتمسكون بالكراسي طوال العرض يجلسون عليها ويلتصقون بها ويحتمون وراءها وكاليغولا يقتل ويغتصب ويصدر الأوامر من خلال هذه الكراسي أيضاً. وعندما يركع له النواب كانت الكراسي تركع أيضاً وعند اغتياله في النهاية كان الجميع – وهم يطلقون الرصاص – يتساقطون قتلى والكراسي معهم أيضاً فحسب اعتقادي ليس من الضرورة اغتيال الدكتاتور وحده بل اغتيال عصره بأكمله لإعلان بداية عصر جديد.

ومن النقاط المثيرة في هذا العرض، أن الشخصيات برغم أسمائها وانتمائها التاريخيين قدمت في مكان مجرد وبأزياء معاصرة كمحاولة لتقريب العرض من الزمن والعصر. قدم العرض في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام موزعة في السليمانية برفقة قوات المليشيات الكردية. وأذكر أن عدد من شاهدوا العرض الذي امتد لأكثر من عشرين يوماً برغم ظروف قاعة معهد الفنون الجميلة السيئة حيث الحر وعدم قدرة المكيفات على تبريد القاعة في لهيب تموز نقول عددهم بلغ أكثر من عشرة آلاف متفرج من بينهم المعارضة الإيرانية، وخصوصاً مثقفيها، وأبناء شعبنا الكردي في السليمانية وأربيل وكركوك والمئات من أبناء الجيش العراقي الذين كانوا متواجدين في المدينة … وبعد ذلك كانت البداية لانتفاضة جديدة ضد النظام انتهت بطرد الجيش واستعداد الأحزاب الكردية لإجراء الانتخابات البرلمانية وفي وقتها كان لي حديث آخر.

 

 

· ليس لدى الكولونيل من يكاتبه!

 

هذا هوعنوان رواية غابرييل ماركيز (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، ليس العنوان ماشدني إلى مسرحة هذه الرواية وحسب بل المضمون القهري الذي تنطوي عليه. إنها حكاية رجل قاتل في صفوف المليشيات ضد نظام بلاده التابع للمستعمر، قاتل بشبابه وعنفوانه إلى أن حصل الاستقلال وتم خلاص الشعب. جاء الخلاص بعد أن بلغ الكولونيل سن الشيخوخة، فعاد إلى بيته يحمل ذكرياته وشظايا الحرب الأهلية في قلبه. جلس ينتظر التكريم وراتبه التقاعدي الذي وعد به، بقي ينتظر خمسة وعشرين عاماً، كل يوم، كل أسبوع، وكل شهر، يعد اللحظات انتظاراً للراتب التقاعدي. قتل ولده في حلبة مصارعة الديكة ولم يخلف له شيئاً سوى ديك مصارع، راح الكولونيل يطعمه من كبده على أمل أن ينـزله إلى حلبة المصارعة فيربح ليعيش من ثمن المراهنات عليه. ليس لدى الكولونيل أحد سوى زوجته المريضة التي تحيك كفنها وأصدقاء ينظرون إليه باحترام كبير، الاحترام الذي يليق بمحارب وبطل مما يزيد باعتداده بنفسه الأمر الذي يدفعه إلى الصمود رغم عدم قدرته على توفير الخبز والشاي لنفسه وزوجته. يتذكر الكولونيل أن حزبه –الذي أصبح في القيادة العليا للدولة الآن– قد تخلى عنه وعن خدماته وهو لا يتذكر إلا أيام الانتخابات التي يعده فيها رفاقه بـ "عصافير ملونة " كل دورة انتخابية ولكنهم سريعاً ما ينسونه بعد الفوز. الكولونيل يستبدل المحامي تلو الآخر على أمل أن يعثر على محام ينقذه من هذا الموت البطيء ويحصل له على حقوقه. الأحداث تجري بشكل أفقي راكد فلا أحد يجيء ولا شيء يحدث … ليس هنالك من جديد سوى الزوجة المحتضرة تسأله في النهاية (ماذا سنأكل الآن؟ فيجيبها ببرود وقسوة

 نأكل خراء)‍!

ثمة عوامل عديدة جعلتني انتقي هذه الحكاية الملغومة في الوقت الذي هدأت فيه نيران الانتفاضة وفشلت فيه المفاوضات الكردية مع نظام بغداد وبدأ الحزبان الرئيسيان في كردستان في الاستعداد لإجراء الانتخابات البرلمانية الخاصة بالإقليم. ثمة أخبار يومية عديدة كنت أتفاعل معها: (بيش مركه/ الفدائي كما يسمى بالكردي) قديم وبطل معارك سابقة ينتحر بشكل مجاني من جراء صراخ أمه بوجهه ماذا نأكل، بطولاتك؟ الجوع الذي أطبق على كردستان والذي كان ثمن التحرر من قبضة الدكتاتورية أصبح لغة عامية يجيدها الجميع وأستطيع القول إن الناس والمثقفين والمقاتلين أصبحوا صورة للكولونيل منعكسة في مرايا عديدة!.

هنالك من اطلع على إعداد النص واعترض على بنيته السكونية الأفقية حيث لا يحدث أي شيء مما يعني غياب الدراما بمعناها المعروف وكنت أجيب على هذه الأسئلة بصياغة صورة حية ومتحركة لهذه الفاجعة على خشبة المسرح. اخترت مسرحاً واسعاً لم أعرض فيه سابقاً. مسرح نقابة الفنانين – خلعت كواليسه وفتحته إلى العمق، كنت أريد أن ألقي بالكولونيل وزوجته داخل فضاء فارغ وواسع لأكرس الشعور لدى الجمهور بخسارته العميقة. ثمة مفهوم رسخه المخرج السينمائي المعروف – كير أساوا – في الصورة فهو يلجأ دائماً عند موت أبطاله، وهم غالباً من الساموراي، إلى نقل المشهد وبشكل فنتازي إلى مساحة ثلجية واسعة ليؤكد مدى الخسارة بموت هذا البطل.

كولونيلنا تم رميه أيضاً في مساحة فارغة إلا من قطع قماش، قصاصات ملونة هي عبارة عن فضلات الخياطة، تغطي أرضية المسرح وثمة خزانة قديمة منحرفة في عمق اليمين وسرير على عجلات في الوسط ترقد وتهذي عليه الزوجة وكرسي هزاز في مقدمة يسار المسرح وديك محنط. لماذا تم تحنيط الديك وهو الأمل الوحيد المتبقي للكولونيل؟ إنه وثن آخر مثل الحزب يراهن الكولونيل على فوزه ولكنه لا يتوقع ولا يحسب حساب خسارته. إنه رمز للأحلام المؤجلة والمتعلقة بآخرين لا نستطيع أن نثق بعواقب تحركاتهم! الكولونيل في العرض كان يبتدئ في دخوله إلى الصالة بين المتفرجين بتوجيه التورج إليهم ويسألهم هل حصلوا على الرسائل، هل حصلوا على رواتبهم، وهل لديهم طعام وسكر في البيت؟ وكان الجمهور – ومن حسن الحظ – يجيب فأحدهم صرخ مرة بوجه الممثل – لقد طردت اليوم من الشغل – وآخر قال وبصراحة – ليس لدينا طحين في البيت منذ أشهر، ليأكل المسؤولون ويشبعوا!.

أما نهاية العرض فكانت بتعري الكولونيل قطعة، قطعة، ليعلن فضيحة عصر وانهيار قيم … ينـزل عارياً إلى الصالة إلا من ملابسه الداخلية ليصرخ بوجه المتفرج – سنأكل (…) … (…) ويركض إلى خارج الصالة. (مريوان قانع) أحد كبار النقاد الأكراد قال إن الكولونيل خدعنا بتعريه. وأما (بختيار علي) فقد قال هو الآخر في الندوة التي أقامها اتحاد الكتاب الكرد في السليمانية عن العرض – أنه خرج ليعلن انتفاضة جديدة، وأما الناقد والشاعر الكردي الشاب (هو شنك الوزيري) فقد كتب في مجلة (المدى) يقول: سقوط الكولونيل أو تصحر العالم، كان العرض ينتهي ليبتدئ. ثمة تصفيق ساخن ومرير كان يقاطع العرض يومياً، مشاهدون ادمنوا حضور العرض رغم تساقط الثلج وانقطاع التيار الكهربائي أثناء العرض. صعد عرض الكولونيل على حياتي، أما في مسرحية (هملت) والتي ودعت بها كردستان فقد أطاحت ببطولة الفرد، و الفكر الأحادي، والحزب الواحد، من خلال إدانة هملت وهي حلقة مكملة لمأساة الكولونيل، فالكولونيل ضحية لهذه الأحادية القاسية التي تسود عالم الشرق المبتلى بالدكتاتورية والمبتعد عن عالم الديمقراطية.

 

 نشرة في صحيفة المؤتمر الصادرة في لندن صحيفة المؤتمر

 

 

 

نماذج من المقالات الصحفية:

 

 

· أضواء على المسرح الكردي... كاليغولا

علي كريم

 

في الأسبوع الأول لشهر آب قدمت – فرقة مسرح سالار – وبالإشتراك مع طلبة معهد الفنون الجميلة في السليمانية مسرحية الكاتب الفرنسي – البيركامي – (كاليغولا) فعلى الرغم من أن مخرج العرض "هادي المهدي" قال ومن خلال إعلانات الدعاية للمسرحية من أنه - أي المخرج- استعان في صياغته الفكرية للمسرحية بنصوص ونظريات "ميكافيلي" الفلسفية والفكرية كنظام لسلوك وتصرفات الحكام في قيادتهم لشعوبهم، إلا أن المتن الحكائي لنص كاليغولا الكاموي بات بارزاً في الصياغة النهائية للعرض فناً وفكراً، حيث الهلع من ظواهر الوجود والحياة واشتقاقاته المدمرة، والبحث المستميت والجنوني لكاليغولا في الحصول على – القمر المستحيل، وحب القادة الملتفين حوله – أي شخصه هو، كاليغولا- وعلى الرغم من غضبهم واستيائهم لسلوكه الشائن تجاههم من جهة، وتجاه العامة من الناس من جهة أخرى، وكذلك حزنه المدمر لموت – شقيقته – خليلته. كل هذا بات واضحاً وبارزاً في مسلسل الأحداث خلال العرض أما الجانب الفني في تأسيس العرض فإن الفنان "هادي المهدي" صاغ رؤاه على أسس وارتكازات غير تقليدية في تأسيسه للفضاء، حيث الفضاء المتحرك (كتل تتحرك، وصور تنمو ثم تتلاشى وباستمرار) وعبر نظام فضائي مطلق حيناً، ومحدد حيناً آخر، ومن خلال إنارة متقنة جسدت الصورة المسرحية بشكل فني جيد، وعفوي أحياناً أخرى، والسبب يعود حسب استنتاجه الشخصي للحالة العضوية أحياناً إلى عدم دراية وإلمام عدد كبير من العاملين في المجموعة بشكل الصورة النهائية لرؤية (هادي المهدي (الإخراجية معالجته لمكان مسرحي، يتحرك بسيولة، وزمن تتلاطم أمواجه بجنون. أخيراً كان اختياره لبعض الممثلين موفقاً، خصوصاً آزاد جلال (المقتدر) و أميد حسين (النشيط). الموسيقى في بعض مشاهدها كانت موحية ومتعددة المعاني للتعبير عن حالات خفية لما هو خلف الصورة، أما الأداء وبشكل عام فلم يكن في المستوى الفني لصياغة هادي المهدي المسرحية، أي لما أراده الفنان "هادي" نتمنى لفرقة سالار ومجموعة الطلبة كل التقدم.

 

(صحيفة العراق 25/أب/1991 العدد 4750)

 

· مات كاليغولا … ولم يحصل على القمر!!

إسماعيل هورامي

 

(إذا كان للخزانة أهمية فالحياة الإنسانية إذاً لا أهمية لها).

 

قدمت فرقة مسرح سالار بالتنسيق مع معهد الفنون الجميلة في السليمانية مسرحية "كاليغولا" تأليف الكاتب العبثي البيركامي ترجمها إلى الكردية الفنان أحمد سالار (وأعاد صياغتها وفق منهج ورؤى) نيقولا ميكيافييلي الفنان الشاب هادي المهدي (وعلى مسرح المعهد المذكور اعتباراً من 2/آب/1991 وللأيام التالية) .

مجرى الأحداث:

يصاب الإمبراطور الشاب (كايوس كاليغولا) بالإحباط واليأس بعد أن ماتت أخته وعشيقته (دروسيلا) وكانت تربطه بها غير صلة الرحم ولهذا السبب يعجز القيصر ويختفي فترة من الزمن – مدعياً بأنه يبحث عن (القمر) ولكن هذا الموت كالصاعقة في حياته يقرر ويفرض الموت الإجباري على إشراف روما ممن يملكون ثروة وأن يحرموا أولادهم من الميراث وأن يحرروا على الفور وصية لصالح الدولة. ويعلن تابعه (هيليكون) هذا الخبر على جميع أفراد الإمبراطورية وكذلك يبدأ (كاليغولا) بتقليص عدد أفراد حاشية القصر وإحلال أشراف الإمبراطورية خدماً له مما يثير طائلة الشعب عليه ولكن دون جدوى حيث أن لا أحد يستطيع أن يفعل شيئاً إزاء هذا التغيير المروع في القصر. ويقدم على قتل من يشاء من رعيته وأعوانه مبتدئاً بالشريف العجوز (ميريا) وطرد وإهانة الأدباء والشعراء في  ديوانه لأنهم كذابون حسب رأيه فلا يبقى بجانبه سالماً إلا عشيقته (سيزونيا) ولم يبقَ من أحرار الدنيا حر واحد. أصبح الجميع عبيداً أرقاء إلا الإمبراطور (كاليغولا) . وكان يعتقد أن حبه لأي شخص هو أن يقبل أن يهرم ويشيخ معه وبما أنه غير قادر على مثل هذا الحب فقد غمر إلى عشيقته (سيزونيا) وخنقها بيديه. وتنتهي حياة (كاليغولا) نفسه فيثور إثنان من حاشيته وهما "شيريا" و "سيبيون" مع هجمة الشعب على القصر فيردون (كاليغولا) صريعاً مقتولاً. هذه هي الخطوط العريضة في أحداث المسرحية بشكل موجز.

التفسير والرؤية:

من المعروف أن القاعدة الفكرية الأساسية لكاتب المسرحية "البيركامي" هي الفلسفة الوجودية التي تستند إلى مرتكزات أساسية لإسطورة سيزيف وكتابه "المتمرد" وطروحاته الوجودية حول المشكلة الفلسفية المهمة لديه وهي (الانتحار) التي يعتبرها إدراكاً عقلياً وحقاً غريزياً لإعادة الاستمرار في العيش والحياة وكذلك الصلة الطبيعية بين اللاجدوى والموت. وعلى الرغم من عدم إنكار الوجود المادي الحسي وفي النهاية يصل إلى الثلاثية المعروفة من الثورة والحرية والإنفعال بحيث يرتقي بالإنسان اللامجدي إلى حالة التمرد والرفض دون التخلي عن موقف الإنسان والاحتجاج على واقع الأشياء وانتزاع حريته وتفكيره وقدرته على الإختيار وعدم الخضوع لأوضاع غير محتملة.

ويحلو لـ (كامي) أن يسمي هذا التمرد بالتمرد الميتافيزيقي الذي هو وسيلة يستخدمها الإنسان للإحتجاج على وضعه وعلى الخليقة وعلى كل ما يحيط به. ولهذا نرى هذا التمرد يصارع الشر ليحل محل الخير ويتجنب الخير في آن واحد معتبراً أن الحياة نفسها (من وجهة نظر وجودية) جريمة كبيرة لأن الموت مازال محوماً على رؤوس الناس، وكما يقول (كامي) إن صرخة الفجيعة هي التي تستطيع أن تستدرجنا إلى الحياة باعتبارها (أي الفجيعة) جسر الحياة حيث أن حالة التمرد لديه تستهدف الوحدة. وصلته بالفن عموماً تنسحب على الخلق الفني من خلال التعلق بالوحدة ومن موقف رفض العالم.

هنا تبرز ظاهرة عزلة الإنسان المتمرد عن المجتمع في أعمال (كامي) وخاصة في مسرحيته التي نحن بصدد تناولها الآن مسرحية (كاليغولا) التي كتبها عام (1945) بعد مسرحيته الأخرى (سوء تفاهم) إلا أنها عرضت في البلدان الأوروبية قبلها. (كاليغولا) هذا إنسان جد عاقل ورزين لكنه عدمي جاف القلب وإلى حد اللعنة ولكنه ليس مجنوناً عندما يطلب المستحيل والحصول على القمر لحاجته الماسة إليه بعد أن أحس بخواء هذا العالم من حوله وتفاهة الأشياء وتكرار الوجوه لديه كل يوم. كل هذا حس به فجأة بعد أن ماتت شقيقته وعشيقته (دروسيلا). ربما أراد شيئاً يعيد إليه سعادته ويحمي خلوده ولكن ليس من هذا العالم بل من عالم آخر. جاءته هذه الفكرة بعد أن رأى الموت (موت دروسيلا) وتوصله إلى قناعة أن الناس يموتون دون أن يعرفوا السعادة ويدرك أن تحقيق ذلك مستحيل في السماء لذا يحاول خلق المستحيل على الأرض بأن يعلن للشعب حريته بعد أن تأكد بأن الناس قد وافقوا على حياة الموت والشقاء لجهلهم وسوء تقديرهم، الأمر الذي يدفعه في أحد المشاهد إلى أن يشكك بل ويتهم العجوز ميريا بأنه يشرب دواءً مضاداً للسم لأنه يخشى غدره. ويقسم ميريا أنه يستعمل دواءً مضاداً للسعال إلا أن كاليغولا لا يصدق فيسممه ويعترف لعشيقته سيزونيا بأن ميريا كان يقول الحقيقة والصدق ولكنه لا يهتم لموته. حتى في هذه المحنة نرى أن هذه إحدى الصيغ المتبعة لدى (الأمير) الميكيافيللي وقد ربطها بذكاء المخرج الشاب (هادي المهدي)، حين يعلن له الأمير بأن عليه أن لا يهاب لموت أحد من حاشيته حتى ولو عن طريق الحظ إذ ليس طريقة أخرى يمكن التحقق فيها بصورة كاملة عن صدق الرجل أو كذبه. وبنفس الحال عندما يصدر أوامره إلى جميع أشراف البلاد بوجوب تحرير وصية حرمان ذريتهم من الإرث والوصية بها لخزانة الدولة حتى تنتهي الخزانة، ودفعهم إلى هاوية الموت بقوله "إذا كان المال ذا أهمية فإن حياة الإنسان بلا أهمية" ويبعثهم واحداً بعد الآخر إلى الموت مبتدئاً بالمسكين (ميريا). هنا وقفة أخرى لـ (المهدي) ومقولة الأمير أن يصبح مبتزاً وأن يقدم على كل عمل يؤدي إلى كسب المال.

إذن أصبحت للسلطة جرائم علنية ومباحة. ونحن والحال هذه نحن متهمون لأننا ضحكنا ملء شدقينا حيث يهتك (كاليغولا) أعراض نساء أصدقائه أو يكره الأعيان والشيوخ على الجري حول فراشه وعربته للنـزهة كالقطعان والبهائم. واستمر في كفاحه ضد المطلق، إلا أن الأمير (شيريا) والشاعر الصبي (سيبيون) يتضرعان باسم نظام علوي (بحسب كامي) وحسب انتفاضة الشعوب ووعيها بالخطر المحدق بهم لدى (هادي المهدي) حيث كان كلاهما يفهمان نفسية (كاليغولا) جيداً لكي ينهيا سلطته الأبدية وطمس فكرته حين كان يدعي بأنه يحس بتحرره من العالم ويتمنى الموت حتى لأحبائه واشتهاء نساء تحرم عليه نواميس الإسرة والصداقة اشتهاءهن حتى يكون منطقياً وأمور أخرى من تفاهة الأفكار لكل الذين على شاكلته يحكمون لمتعتهم وهواهم مخلفين عرض الحائط جميع القيم الإنسانية النبيلة مثلما يستهزئ (كاليغولا) بقيم الحب والصداقة ويعتبرها أشد مقتاً من الجحيم. ولهذا يجذب (شيريا) الناس جميعاً والشعب كله إلى صفه – للثورة والإطاحة به وكذلك تمرد "سيبيون" عليه ليس بسبب قتله والده فحسب ولكن لأنه يدنس بجرائمه القيم الإنسانية الجليلة وعلى ما فعله الشعراء وعلى لعق قصائده ….

وكيف يجهل مثل (كاليغولا) بأن القتل ليس مخرجاً. وتلفظ حبيبته (سيزونيا) ألفاظها "أهذه الحرية المخيفة هي السعادة؟" ويعلم أن في الموت حياة ويحطم المرأة التي عكست صورته وضحكته الأخيرة ويقتل وهو يقول (إنني مازلت حياً) ووجهه يطفح بالدماء والضحك. هذا هو (كاليغولا) يقول فيه (كامي) بأنه إنسان قاده حب الحياة إلى جنون التخريب فغدر بالناس بدافع من إخلاصه لهم وتنكر لكل القيم الخلقية ولأن كانت حقيقته هي أفكار الآلهة فإن عثرته كانت في أفكار البشر ومن ثم لم يدرك أن الإنسان لا يستطيع تدمير الكون دون أن يدمر نفسه.

عناصر ومفردات الإخراج …

 (كاليغولا) من المسرحيات التي كان فيها الكثير من الذكاء والتفهم. إنها مسرحية يسيطر فيها عالم من اللامعقول يسير كل شيء فيه على وفق منطق جنوني وعبثي ويخيم على أجوائها الموت والتمرد والشقاء واللاجدوى والأفعال العدمية البعيدة عن المنطق. والتي جعلها المخرج (المهدي) مقارنة أو مناظرة بين منهج سيزيف (كما يدعي كامي) وبين الأساليب والمناهج المتبعة في كتاب (الأمير) لنيقولا ميكيافيللي متخذاً من السلطة الدكتاتورية لـ (كاليغولا) خيطاً وثيقاً وموصلاً بالحقائق التاريخية التي تطرحها أحداث المسرحة مع الميكيافيللية السياسية، كأن يتصف الأمير بالخوف والرهبة من رعيته بدلاً من المحبة وأن يجد نفسه مرغماً على تعلم طريقة عمل الحيوانات و يقلد الثعلب والأسد معاً. إذ أن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب لذا يتحتم عليه أن يكون ثعلباً ليميز الفخاخ وأسداً ليرهب الذئاب كل هذا وأمور أخرى طرحها (المهدي) من خلال حوارات المسرحية بإضافة شخصية (الأمير) بعد أن يقوم الشخصية بشكل حركة الأحداث ليوجه آلية لـ (كاليغولا) وما يتوجب عليه إزاء الأمور والقضايا المتعلقة بالدولة وشعبه.

المسرحية بدأت بعملية البحث واللاجدوى لمسار الحياة الرتيبة المملة في ظل حكم دكتاتورية (كاليغولا) والشعب في حالة قنوط ويأس من الحالة التي يعيشها ولا أحد يستطيع أويجرؤ أن يفعل شيئاً على الرغم من عدم وجود الإمبراطور في القصر واختفائه ثلاثة أيام والكل يفكرون في طريقة للخلاص والتمرد على الواقع المعاش ولكن خبر عودة (كاليغولا) إلى القصر يعيد الأشياء والأمور إلى مجاريها بعكس مما كانوا يحسون. يدخل الإمبراطور في حالة تعب وهلاك من البحث عن المستحيل وهو القمر. (المهدي) بوضوح حالة اللاوحدة في صفوف الشعب وتضارب آرائهم إزاء الحكم القاسي للبلاد عندما يدخل عليهم فجأة (كاليغولا) في إحدى المشاهد نرى الكل يختبئون وراء المقعد والعرش لإخفاء أنفسهم وكأنهم لم يكونوا هم أنفسهم يفكرون بالمؤامرة. ومن المشاهد المثيرة حقاً كذلك مشهد استهزاء (كاليغولا) بالشعراء والأدباء وطردهم من القصر بعد أن لعقوا قصائدهم بأنفسهم وكذلك مشهد تدنيس شرف زوجة الشريف (موسيوس) بمأزق من الأشراف وسادة البلاد. ولكن تبقى بعض المشاهد الأخرى بحاجة أكثر إلى تجاوز تكرارها في مسرحيتنا كمشهد التضامن حول (شيريا) ورفع أيديهم نحو السلاح وكذلك تكرار دخول وخروج بعض الشخصيات مثل (كاليغولا) و (شيريا) من بين الجمهور. طالما أن المسرحية اعتبرت أمسية فكرية لإعطاء الحكم المنطقي والعقلي مسار إحداث المسرحية فلا داعي إذاً لهذا الإشراك من قبل الجمهور في قسوة الحدث، وكذلك (عذراً للمهدي) لعدم فهمه الدقيق الكلمات الكردية أي ما وراء السطور للحوارات ضاعت بين الحركة السريعة أحياناً والإلقاء الببغائي للممثلين وخاصة في مشهد إعلان عودة (كاليغولا) ومشهد النقاش بين (كاليغولا) و (سيبيون) حول الشعر والطبيعة، لأنه كما هو معلوم أن لكل لغة إنسانية مزاياها ونبرتها الخاصة بها والتي تختلف بها عن الأخرى والدليل على ذلك أن بعض الممثلين الهواة عندما يمثلون باللغة العربية تكون نبرة حواراتهم وأصواتهم أشبه بما تكون باللغة الكردية لعدم إتقانهم اللغة بشكل سليم! وهذا يمكن تجاوزه مستقبلاً مادام هناك اجتهاد ومثابرة.

التمثيل:

الحقيقة أفحمنا تمثيل الفنان (آزاد جلال) بدور (كاليغولا) بأداءه الرائع ولا يدل ذلك إلا على دراية وعلمية في تفسير الشخصية والوصول إلى جزئياتها من خلال الإلقاء المفعم بالحيوية والسلاسة اللغوية وتوزيع الإنفعالات بشكل سليم والحس الدرامي الجيد يبشر هذا بعودة فنان كبير بعد انقطاع دام سنوات إلى أحضان المسرح الكردي الممثل (كاروان عمر) أدى دور (الأمير ميكيافيللي) بشكل لائق وخاصة المشاهد التعبيرية الراقصة إلا أن نطقه للحوارات بحاجة أكثر للإتقان. أما الممثل (أميد حسين) لم يضف إلى أدواره السابقة (شيئاً) وتميز الممثل (حكمت هيندي) بالمرونة تارة والارتباك تارة أخرى خاصة في مشاهد المجموعة إلا أن أداءه كان مرضياً مع كاليغولا. الممثلة (تريفه جمال) لم تكن كذلك بمستوى أعمالها السابقة أما الممثلون (شورش قادر) و (دانا كريم حمه رضا) فقد أديا دوريهما بمستوى لائق حيث تميزا بالحركات المتقنة من قبلهما وحواراتهما سليمة ويبقى الثناء للممثلة (بي كه رد أحمد) لجرأتها وشجاعتها في أداء دورها بشكل جيد ينم عن ممثلة ذات طاقة جيدة في المستقبل أما الممثلون الآخرون فلم تضع جهودهم المتواضعة.

 

الديكور:

إستخدام الفضاء الواسع في المسرحية مع المقاعد الهندسية أعطى جواً ملائماً لنفسية من هم في القصر من السوداوية وغلاظ القلوب تنم عن فهم واسع للفنان (رؤوف عمر) بأجواء الأحداث،

الإضاءة:

تغيرات الإضاءة أحياناً كانت إعتباطية وليست مع تطورات ونفسية الشخوص والأحداث المارة وقام بتنفيذها كل من (كاروان أنور) و (فلاح عز الدين) .

المؤثرات والموسيقى :

الحالات والأحداث التي كانت تمر على (كاليغولا) وبقية مسار الأحداث كانت بحاجة ماسة إلى موسيقى أكثر ملاءمة مع الأجواء النفسية العامة وخصوصاً الموسيقى المستخدمة في نهاية المسرحية (حفنة من الدولارات) كانت غير ملاءمة مع تطور الأحداث النهائية ولم أتوقع بأنها أختيرت من قبل الفنان الموسيقي (صلاح رؤوف) ونفذت من قبل (سيامند عمر) .

الأزياء:

الأزياء التي اختارها "فرهاد محي الدين" كانت ملائمة باستثناء زي "سيزونيا" التي ضاعت ملامحها بينهم. أخيراً نشعر جميعاً بالرثاء والشفقة على شخصية (كاليغولا) وصانعه البيركامي والمخرج (هادي المهدي) لأنه لم يحصل على القمر!

(جريدة العراق الثلاثاء 10/ايلول 1991)

 

 

· مسرحية دريا

 

 

الممارسة التناصية وثنائية الوهم والحقيقة

عواد علي

 

يدخل الخطاب المسرحي الموسم بـ "دريا"، تأليف هادي المهدي، وإخراج وتمثيل الفنانة ميديا رؤوف، في علاقة تناصية مع مجموعة خطابات مسرحية هي: ماراصد لبيتر فايس، واسمع يا عبد السميع لعبد الكريم برشيد، وهاملت لشكسبير ودائرة الطباشير القوقازية لبرشت، وأغنية التم لتشيخوف. وبمعنى آخر أن المسرحية تقع في مفترق طرق مسرحيات أخرى تشكل نوعاً من المرايا المتجاورة، ويتميز العمل التناصي هنا بكونه (إقطاعية) لا (تحويلاً) لإقتران الخطاب المتناص بمرجعيات، أو خطابات مسرحية، لا بمرجعيات من أجناس أدبية أخرى. وتكاد الممارسة التناصية أن تكون (توليفاً) أو (كولاجاً) أكثر من كونها (تأليفاً) بالمعنى الشائع. ينهض الخطاب بصيغتيه الإنتاجيتين (النص/ العرض) على بنية مهيمنة تتمثل بثنائية (البراءة / الزيف)، أو (الحقيقة / الوهم)، فالشخصية الرئيسية تعيش صراعاً حاداً في داخلها بين (دريا) القروية، البريئة، والممثلة التي جرفها عالم النجومية، والشهرة، والضياع، والعلاقات المزيفة. ويبدأ العمل الدرامي من وصول الشخصية إلى لحظة النهاية حيث أصبحت ممثلة مهجورة وعانساً تخلى عنها المعجبون، كما تخلى الجمهور الجاحد عن (فاسيلي فاسيليفتش) في مسرحية أغنية التم. ويعتمد البناء الدرامي على تقنية زمنية معروفة هي تقنية الاسترجاع، ولكن غير المتتابع، بمعنى العودة إلى الأحداث والوقائع التي عاشتها الشخصية بشكل لا يراعى تتابعها نـزولاً في الزمان، بل على وفق طفرات زمنية يتداخل فيها الماضي القريب بالماضي البعيد طبقاً للحالة النفسية التي انتهت إليها الشخصية في خمس حركات بدلاً من المشاهد. ففي الحركة الأولى وهي بداية المسرحية، تظهر الممثلة مستسلمة لكابوس ثقيل، وحينما تستيقظ من نومها تشرع بمحاكمة نفسها، وتقرر الإنتحار … ولكنها تخشى أن يتقول عليها الآخرون، ويؤولوا انتحارها تأويلات شتى من قبيل: أنها قتلت نفسها لأنها تحب ممثلاً شاباً يصغرها بعشر سنوات … ولكنه لا يبادلها الحب فانتحرت … أو أنها قتلت نفسها لأنها أصيبت بنوبة من الكآبة الحادة والتقارير الطبية تشهد على ذلك. وهي إذ تتوقع مثل هذه الإشاعات والتقولات فإنها تخشى أن يشوه تاريخها الفني وتصبح مادة دسمة بيد الصحفيين، والفضوليين. ولذلك تتخلى عن فكرة الانتحار وتدخل في صراع حاد مع (دريا) التي تركتها في القرية، وتخلت عن اسمها وتاريخها وتتبادل معها الاتهامات:

 (تكرهينني لأنني ممثلة ناجحة … تكرهين صوري المعلقة في كل مكان … تكرهينني لأنني أخرستك منذ البداية. كنت تريدين أن أصبح أماً وزوجة أقضي أيامي في المطبخ والرضاعة … كنت تريدينني أن أدفن مواهبي وجمالي … ألم أدفنك؟ … لقد مسختك وغيرت اسمك فكيف أتيت؟) فترد عليها دريا القروية:

 (لقد أتيت لأنني شعرت بك يائسة وحزينة يلفك الليل والوحشة. ذهب الجميع وتركوك وحيدة تأكلك الحسرة والوحدة، ويعتصر قلبك الأسى) .

ثم تبدأ عملية الاسترجاع اللامتتابع، فتشرع في استذكار أول دور مثلته على المسرح، دور (كوردي) لدى دخولها الأول إلى المدينة، فتخليها عن القرية، وسفرها إلى المدينة، والاستغراق في عالم الحفلات، والأمسيات، والتملق للصحفيين والنقاد، ومن ثم الشهرة، والجوائز، والمعجبين.

ويستمر الاسترجاع في الحركة الثانية فتتذكر أيام الدراسة في الجامعة، وعلاقتها بفرهاد الذي يدعوها إلى الابتعاد عن تعاليم مدرس التمثيل ودروس استانسلافسكي، والتوجه إلى مسرح الحياة، مسرح الحقيقة والمشاعر الداخلية.

وتسترجع في الحركة الثالثة مقتل والدها الفلاح على يد الآغا. ثم هجرتها من القرية إلى المدينة. وانغماسها في عالم يسوده الزيف، واللهاث وراء الشهرة، والعلاقات المشوهة، والكذب والانتهازية، وبحثها اللامجدي عن الحبيب، أو زوج تنجب منه طفلاً. وعندما تعجز عن تحقيق طموحها تتبنى طفلاً يملأ حياتها الخاوية. ولكنها سرعان ما تفقده، وتقع فريسة للضياع واجترار حكاية معاناتها إلا في الليلة الأخيرة التي تنتفض فيها على كابوسها وتقرر تمثيل الدور الذي تمنته طوال حياتها من دون حاجة إلى مؤلف ومخرج وممثلين وخشبة مسرح وإيهام، فتلغي الإضاءة والموسيقى وتفتح أبواب القاعة لتمثيل شخصية (جان دارك)، وهي تحمل سيفاً وكتاباً خارجة إلى المدينة لتعلن عليها حربها، وتبشر الإنسان بالنور. وهنا يجد المتلقي نفسه أمام علامة رمزية مركبة: السيف والكتاب اللذين يوحيان، طبقاً لعلاقة غياب استعارية، إلى أن العقل وحده غير كاف لمواجهة الذئاب بل ينبغي أن تستعين بالقوة أيضاً لدرء أخطارها.

وإذ ينهض سطح الخطاب المسرحي على علاقات سياقية، أو حضورية تؤكد قيمة الصدق، والابتعاد عن الزيف، والتصنع، والقوانين المكبلة لحرية الإبداع، فإن البنية العميقة للخطاب، وعلاقات الغياب فيه توحي ببنية فكرية، أو موقف فكري يلتقي مع الموقف الرومانسي المعروف، وهو الدعوة إلى التخلي عن القيم والأسس التي تسود مجتمع المدينة، والارتماء في أحضان الطبيعة، والتمسك ببساطتها وعفويتها، بل الدعوة هنا أكثر خطورة من ذلك لأنها تدعو إلى نبذ كل أسس المسرح وقيمه ، ونظريات التمثيل، ومؤلفات عباقرة المسرح كاستانسلافسكي، وشكسبير وغيرهما، والاعتماد على الفطرية، وكأن هذه القيم هي السبب في ما يسود الوسط المسرحي من علاقات مزيفة!!.

يقول فرهاد لدريا: (لا عليك بتعاليم مدرس التمثيل … حركي جسمك كيفما تشعرين لاعليك بتعاليم استانسلافسكي، فقد مات وشبع موتاً رحمه الله)!!.

ويخاطبها في حوار آخر: (تعالي فأنا أدركت أن المسرح أنانية وحب للذات، هيا اهجري المسرح فقد اكتشفت أن التاريخ مزبلة لا يدخلها إلا المرضى والأنانيون والمخالفون للمنطق … مزبلة هو التاريخ يعتز بشذوذ شكسبير، ونيتشه، ومارلو، ورامبو … تاريخ للديدان التي عاشت على آلام غيرها وشربت من دماء وأحزان غيرها … وإلا ماذا فعل برشت، أو فايس، أو مسرح الصور والأوهام والتغريب والتطهير؟ وحسناً فعل الأستاذ رؤوف بي كه رد، حينما خفف في تكريره للنص من حدة هذا الموقف الذي يلغي الإنسانية، رغم أن المؤلف هادي المهدي لم يكن بحاجة إليه مطلقاً لتوكيد قيمة الصدق في الفن … ثم أنه كيف يوفق بين رفضه لبرشت واقتباسه منه الفكرة الأساسية التي طرحها في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) وهي كما جاء في حوار الأم حينما تخاطب الطفل الذي تبنته (ليست الأم التي تلد … الأم التي تسهر وتربي وتمنح عمرها) .

إن النص في بنائه الدرامي اقرب إلى المونودراما منه إلى المسرحية بمعناها الشائع، وتنازعه صغيتان في تقديم الحكاية هما:الحكاية والعرض، أو الرواية والسرد المشهدي، ويكاد عنصر الحكاية يتغلب على عنصر العرض، فالصراع يجري أساساً داخل الشخصية نفسها بين دريا الماضي، ودريا الحاضر، أو بين القروية والنجمة التي تنكرت لتاريخها. وهكذا تجلت موهبة المخرجة والممثلة ميديا رؤوف وذكاؤها حينما جسدت هذا الصراع من خلال ممثلتين، حيث أدت (فيان نوشيروان) دور دريا القروية البريئة، وادت ميديا الدور نفسه بعد أن هجرت القرية وأصبحت ممثلة، فتحول الصراع من مظهره الداخلي إلى مظهر خارجي مجسد على نحو من الحرية، وبذلك كانت المخرجة بمثابة المؤلف الثاني للنص المسرحي، فضلاً عن دور المعد الأستاذ رؤوف بيكرد الذي عمق النص بإضافة قصيدة من تأليفه .

وعلى الرغم من ضيق فضاء العرض فقد استطاعت الفنانة ميديا مخرجة وممثلة أن تستثمر الفضاء استثماراً فنياً فكانت خطوط التشكيل والحركة موزعة على شكل صليب، وربما في ذلك دلالة أيضاً، ولكننا لا نود أن نقيده بمدلول واحد.

ولعل من فضائل هذا العرض أنه قدم ممثلة واعدة هي فيان نوشيروان التي استطاعت الوقوف إلى جانب ميديا في نسق ثنائي متقن في الأداء الصوتي والحركي والإيمائي، وأني لأتنبأ لها بمستقبل كبير في فن التمثيل إذا ما وجدت المخرج الموهوب الذي يصقل موهبتها وينميها.

(1) قدم العرض ضمن المهرجان المسرحي الرابع لمعهد الفنون الجميلة في السليمانية بتاريخ 4/5/1990 .

 

(صحيفة القادسية 12/7/1990)

 

تصحر العالم ومأساة الكولونيل

هوشنك الوزيري

 

· العرض المسرحي هو مجموعة علامات، بمعنى أن المسرح ليس له وظيفة أخرى سوى الاشارة إلى شيء آخر ويكف عن أن يكون مسرحاً أذا لم يدل على شيء آخر.

                           (أوتمارزيغ)

· كل شيء في العرض المسرحي علامة.

       (تاديوس كوزان)

 

هذه الدراسة قراءة نقدية لمكونات عرض (ليس لدى الكولونيل) المسرحي والأقتراب من بناه للكشف عنها، وهي محاولة لاستقراء ( الخارج) عبر الاشارات/العلامات والعناصر التي تكون الفضاء المرئي للعرض. وتنقسم الدراسة إلى محورين تحليلين:

1. لاشيئية العالم =لا فعلية الكولونيل.

2. العرض بين ثنائية (الداخل والخارج ).

لكن قبل الدخول إلى الدراسة وقراءتها، نتوقف قليلاً عند حدود النص المعد وخطوط تناهيه مع نصوص مسرحية عالمية أخرى، هنالك التقاء أو تداخل نصي (عملية تناص) بين النص المعد لهذا العرض ونصوص مسرحية مثل (اللوحة/والصمت) للكاتب الانكليزي هارولد بنتر، و (انتظار غودو) للكاتب صاموئيل بيكيت.

 (عملية التداعي/ فقدان الاتصال بين الشخصيات/ السكن في الذاكرة، ) هذه الثيمات وغيرها تحيلنا باستمرار إلى مسرحيتي بنـتر سالفتي الذكر، حيث نجد اللغة المضطربة بل والمهشمة في بعض المواقف التي تجتاح شخصيات بنتر، والفقدان التام للاتصال بين عوالمها، وحنينها الجارف إلى الأيام الغابرة، الخوف من الزمن. . الخ من هذه الميزات. ومن جهة أخرى الانتظار المفزع والسكون التام (اللافعل) . ترقب حدوث شيء ما، هذه هي الفكرة الرئيسية التي بني عليها العرض والتي ترمي بنا إلى عوامل نص (انتظار غودو) القاتمة، لاشيء يحدث، لاأحد يأتي، أنه عالم يجبر الانسان على خلق مثله الوهمية. لكن بالرغم من هذا فلابد من الاشارة إلى الفارق الجوهري بين الإنتظارين، فانتظار الكولونيل للرسالة، ليس إلا ترقب شيء أو اتيان ما يخصه، شيء يستمد شرعية وجوده من ماضي الكولونيل، وهو انتظار ينطلق أساساً من أرضية سوسيولوجية ونفسية واقتصادية.

ولكن انتظار (متشردين، أفاقين) لشخص لا يأتي على الاطلاق (غودو) هو انتظار أنطولوجي ينطلق من اللاشيئية المرعبة التي تجتاح العالم والغيبية المفزعة التي يفرضها هذا العالم على الإنسان ؟؟؟؟؟ يفقد كل شيء ولهذا يجبر على خلق منقذه الغيبي الوهمي، ونقطة الالتقاء الرئيسية بين الانتظارين هي اللاشيئية  التي تنتج الانتظار.

المحور التحليلي الأول

لا شيئية العالم = لا فعلية الكولونيل

إن عرض (الكولونيل) هو انتظار عقيم لمعنى ما، أو رحلة بحث ساكنة عن شيء ما، وهذا في عالم عار من المعاني لا يقدم للإنسان شيئاً، بل أنه يعري الانسان شيئاً فشيئاً من قيمه الشاملة من كل ما يضفي على الإنسان إنسانيته، انه دخول لا جدواني إلى مناطق لا تعطي سوى الأوهام وتخلق جبرية الانتظار لخلاص غيبي، لمنقذ لا وجود له.

ان فضاءات العرض الراكدة، تتوزع بين قطبين مأساويين:

  . الاضطراب والتشتت.

  . التمزق العنيف بين الفقدان التام والعوز.

اللاشيئية هي البنية الأساسية لهذا العالم المتهاوي في تتابع اللامعنى، الذي يتجه فيه كل ما تبقى من الاشياء نحو الاضمحلال والتهرؤ، واللاشيئية هذه تنتج في المقبل حالة ثبوتية عند الكولونيل نستطيع أن نسميها (اللا فعلية المتواصلة) فكل ما في البيت وكل ما يقع خارج جغرافيته، يعيش حالة من الفراغ الهائل الذي يغزو ببطء كل المجالات الأخرى.

يبدأ العرض المسرحي بمشهد استهلالي خارج حدود خشبة المسرح، حين يقتحم الكولونيل العالم الخاص بالجمهور (الصالة) – وهو عالم في عملية تفاعل تحاوري مستمر مع عوالم العرض المتعددة – وفي يده انارة صغيرة وكأنه في رحلة تنقيب في هذا الظلام عن شيء فقده، يستكشف الوجوه، ثم يقذفها بتساؤلات هادئة وغالباً ما تكون إجابات هذا العالم، هذا إذا كانت هناك إجابات، بـ (لا) أو (ليس) أو (لم يظل ما يكفي) ، إنها أولى تجليات اللاشيئية التي تحتل عالم الجمهور، بعد هذه العملية البحثية، يلج الكولونيل  حدود فضاءات العرض / البيت / الممزق بين عدمية الأشياء وعوزه للاشياء كلها، إنه بيت مسكون بظلال الأشياء آخذ في انهيار بطيء، تملأه خرق متناثرة مرمية هنا وهناك بشكل عشوائي خطوط منكسرة، فوضى، سرير قديم ترقد عليه كومة لحم مريض (الزوجة) ، كرسي هزاز. . إلخ من ظلال الأشياء هذه.

إن التوزيع الجغرافي للمفردات الاكسسوارية (العلامات المرئية) مبني أساساً على اللاهندسية، بصيغة أخرى ان البناء السينوغرافي الكلي للعرض مرتكز على فقدان أي شكل من أشكال النظام، هالة من الفوضى الشاملة تعم الأشياء، وتحدث في علاقاتها خللاً كما في العلاقات الانسانية أيضاً، مثلاً ان وضع المفردتين الرئيسيتين على ارضية الخشبة، الكرسي والسرير، يدل على نوع من الخلل والاضطراب في علاقات الاتصال بين الكولونيل وزوجته، حيث يقع السرير خلف الكرسي مباشرة، ظهر الكرسي تجاه السرير، وقد يصل هذا الاضطراب إلى فقدان الاتصال كما يتجسد في بداية المشهد الحواري الأول حيث حركات الكولونيل مضطربة وأفكاره منفصلة عن أفكار زوجته ولا تسيران بنفس الاتجاه. في هذا المشهد ليس هناك ديالوغ تتداوله شخصيات بل هناك مونولوج طويل يلقيه الكولونيل وتقطعه الزوجة بين الحين والآخر، والانتقالات الكلامية اللامترابطة من الحديث عن جواربه إلى برودة الجو، موت أحدهم، ذهابه إلى التعزية. . الخ، ان هذا الخلل في العلاقة الاتصالية والتشوش الذهني راجعان إلى نوع معين من قطيعة الكولونيل مع الحاضر المحيط وتسوير نفسه بعوالم ذاكرته، وهذا لا يعني بأنه لا يفهم العالم بل العكس هو الصحيح، أن العالم ينبذ مثل هذه الشخصية ويرفضها.

بعد مرحلة قصيرة من هذا الاضطراب في العام العائلي، يستكشف الكولونيل فضاء بيته وكأنه لم يظل هناك من شيء يستطيعان به مواصلة الحياة (لم يظل لدينا أي شيء) تلك هي الجملة المفزعة التي يطلقها الكولونيل معلناً بها  الدخول إلى الموت البطيء. أذن البيت ليس الا قفراً تجتاحه انهيارات الأشياء واحدا تلو الآخر.

من هنا نستطيع القول إن (الفقدان) هو القانون الرئيسي الذي يحكم عوالم العرض الخفية بدء من عالم الجمهور الذي يقع خارج حدود العرض ومروراً بعالم الكولونيل الذاتي وانتهاءً بالعالم الكبير المترامي خارج البيت.

فالبيت فاقد لنظامه الأسري، وتماسك بنائه، وأمنه واستقراره، وامتداده المستقبلي، والأهم من كل هذا أنه لم يعد فيه أبسط المستلزمات المعيشية الحياتية التي تهيئ للفرد الإنساني مواصلة الحياة بشكل طبيعي (المأكل/ المشرب/الملبس…) .

أما الكولونيل فقبل كل شيء أفقده معناه، جوهره، ذلك الماضي البطولي، أنه لا يستطيع أن يتواصل مع آن/حاضر/ لا معنى فيه دون العودة المستمرة إلى ماضيه وتأريخه الذي ما انفك يفتخر به، ذلك التأريخ الذي سلب منه من قبل كل من دافع عنهم.

إذن هناك قوة خارجية عرت الكولونيل من الزمن (التأريخ) وذلك حين أظهرت تجاهه لا مبالاة قاسية وهو يحتضر بطيئاً من البرد والجوع ولم ترسل له ما يذكره بذلك التأريخ (الرسالة) التي تحتوي على راتبه، والتي فرضت عليه انتظاراً عبثياً يمتد إلى أكثر من 15 عاماً. ولكن فلنتوقف قليلاً عند الرسالة لأنها (كرمز جوهري) لها القدرة على الإيهام التفسيري.

أي أنها تحمل مساحات واسعة تساعد في إنتاج تفسيرات سطحية ساذجة وهمية، مثلاً كتفسير أنها تحتوي على المال الذي يستطيع الكولونيل به مواصلة الحياة، لكن الرسالة أساساً هي التأريخ نفسه، ماضي الكولونيل أنها رمز (محاولة انتزاع اعتراف العالم بالماضي، بالنضال الذي خاضه). وبعدم إرسالها والانتظار الطويل لها يتم التجريد البطيء للكولونيل، ما الانتظار الطويل سوى عملية تعري الكولونيل من كل شيء (التأريخ/ الحياة…).

لكن الكولونيل لم يفقد جذوره الماضيوية فحسب بل واستمراريته المستقبلية أيضاً، لقد اغتالوا امتداده وذلك بقتل ابنه في ساحة صراع الديكة. أذن مع فقدان عنصر الزمن يصبح الكولونيل عائماً ويدخل زمناً مغايراً وهو زمن الانتظار الثابت. ولكن الكولونيل لا يتخلى عن ماضيه بل يظل متشبثاً به وذلك بخلق قطيعة مع كل الحاضر. إنه يحاول أن يسكن الماضي في ثنايا الحاضر، لا يستطيع فعل أي شيء سوى فعل التذكر والتداعي، ولهذا يتقوقع داخل ذاكرته المتهرئة، أو يصبح ذاكرته/ ماضيه/ ويسقط بين حاضر محاصر باللاشيء، ومستقبل وهمي مقتول لحظة قتل أبنه.

إن العالم الخارجي أيضاً يعيش حالة فقدانية مفزعة، إنه يشبه تلك العلبة الفارغة التي يمسك بها الكولونيل ويتفحصها ويرى أنها فارغة تماماً أو بالأحرى أنها أفرغت من محتواها. أنه عالم عار من القيم الإنسانية الشاملة.

نستنتج من كل ما سبق من الإشارات بأنه لا شيء في عالم الجمهور/ لا شيء في البيت/ لاشيء عند ساعي البريد/ لا شيء عند المحامي/ لا شيء في الجرائد/ لا شيء. إن القطبين المأساويين لهذا العرض ينتج ويولد أحدهما الآخر باستمرار، ببساطة إن الكولونيل لا يستطيع فعل أي شيء لأنه ليس هناك من شيء. وربما أن من أخطر ما يواجهه الكولونيل هو محاولاته العبثية لإيجاد شيء أو خلق شيء من هذه اللاشيئية الرهيبة، إذ نجد لديه محاولات خلق إرادة الفعل أو رغبة في تأدية فعل ما مهما كانت نوعية هذا الفعل أو مدى تأثيره وتغييره للأشياء ووضعها. ولهذا نراه يتخذ عدة قرارات ولكنه يحجم عن تنفيذها بعد إصدارها مباشرة. وهناك ثلاث لحظات قرارية أساسية في العرض:

1.  قراره بيع الديك.

2.  زيارته أصدقاء أبنه المقتول.

3.  كتابة رسالة الشكوى.

إن عدم وجود أي فعل يتبع هذه القرارات، له عدة عوامل ربما أهمها، إدراك الكولونيل المسبق بأنه حتى لو أقدم على تنفيذ هذه القرارات الثلاثة أو أحدها لن يكون في وسعه تهشيم الركودية التي يعانيها الواقع، وهناك عامل ذاتي وهو أن كرامته تمنعه من ذلك أي خوفه من اتهام الخارج له بأنه يعيش فقيراً معدماً. إشارات أخرى كثيرة تدخل  الدائرة نفسها (الكرامة) مثل محاولته بيع الساعة واعتراض الحلاق طريقه/ محاولة زوجته بيع خاتم الزواج. . الخ. أخيراً، في نهاية هذا المحور التحليلي نستنتج هذه المعادلة:

لا شيئية العالم (لا شيئية البيت الحياتية والمعيشية ولا شيئية العالم القيمية) الأنتظار العقيم = سكونية الكولونيل (لا فعليته) عملية تعريته المستمرة. أو اللاشيئية…إنتاج متبادل…اللافعلية.

المحور التحليلي الثاني

العرض بين ثنائية الداخل/ الخارج…

بدءاً وتجنباً لأي التباس، لابد من توضيح ورسم معالم مفهوم (الداخل) المستخدم هنا، إن الداخل الذي نتجه إليه في هذا المحور هو المساحات الداخلية والذاتية الخاصة بشخصية الكولونيل، وتنقسم المساحات هذه إلى:

1.  البيت/ كل ما يقع داخل جغرافيته الهشة.

2.  الكولونيل/ عالمه النفسي الذاتي.

أما (الخارج) فحدوده غير مرسومة، ويشمل كل ما يقع خارج (الداخل) الذي حددناه أعلاه.

نحاول هنا أن نقترب من استقراء تحليلي لأبعاد العلاقة التي تكمن بين كل من الداخلين و/ الخارج وصولاً إلى الإمساك ببنيتهما الخفية.

نبدأ بالبيت الذي هو دال ترميزي، تكمن دلالته الأساسية عند العالم الخارجي. فكل ما يحدث في البيت هو انعكاس بشكل أو بآخر لما يحدث في الخارج. فالفوضى التي تجتاح البيت، هي فوضى العالم بعلاقاته الاجتماعية المتقطعة، ولا نظامية أشيائه. ولإثبات هذه الفرضية ننطلق من قراءة العلامات والعناصر التكوينية المرئية لفضاء العرض.

إن المفردة الأساسية المستخدمة لملء البيت/ أرضية الخشبة/ هي قطع أقمشة ممزقة متناثرة ومرمية في كل زوايا المسرح، وهذه لها دلالات واضحة، إن القماش كمادة رئيسية مستخدمة في تكوين العنصر الرمزي في هذا العرض، هو مادة مرنة، قابلة للتمزيق بسهولة، ولها القدرة في اكتساب أشكال متعددة، أي أنه (القماش) لا يملك نظاماً شكلياً ثابتاً محدداً، ولم يستخدم لون واحد، بل مجموعة كثيرة من الألوان، قطعة من كل لون، متداخلة متناثرة إنه العالم الممزق المتقطع الأوصال الذي يحيى فيه الكولونيل/ هشاشة البنى وقبولها للتمزق، البنى الأخلاقية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية. . إلخ. وهناك إشارة حركية، أو الأصح حركة تمثيلية تشخيصية لا تقبل التأويل من قبل الكولونيل تدل على أن هذه الكومة من قطع الأقمشة الداخلة في فوضى الألوان واللامنتظمة شكلاً، هي الوطن الذي طالما دافع عنه وناضل من أجله وذلك في مشهد المحامي عند الدولاب الحديدي، والمفردة الأخيرة هذه (الدولاب)  عتقت وفقدت شكلها الأصلي، وتعيش فوضى الأوراق والتواريخ والسجلات القديمة، إنها نوع من التمثيل الرمزي لذاكرة الكولونيل. فوضى البيت هذه لا تعكس العالم الخارجي أو تتجه نحوه فقط، بل تمتد دلالاتها إلى دواخل الكولونيل النفسية، وعلاقاته المضطربة بل وتشتت تاريخه أيضاً. أي أن هناك علامات وإشارات داخل حدود البيت تحاول التخلص من محدودية التعبير الدلالي وذلك بمحاولتها مغادرة حدود البيت نحو الخارج لإيجاد وخلق مساحات تأويلية دلالية جديدة.

إن الانهيار التدريجي الذي يصيب بناء البيت هو انهيار لامرئي للأسس الأخلاقية التي قام عليها وطن الكولونيل ومجتمعه. ولحظات سقوط الكولونيل وزوجته/ الاحتظار البطيء/ التهرم/ المرض/ الانتظار العبثي/ الاضطراب. . إلخ، كل هذه دوال، تكمن مدلولاتها في العالم الخارجي الماضي نحو الهاوية والانحطاط، فأي سقوط جسدي على المسرح هو سقوط أخلاقي للخارج، وبدأ هذا السقوط مع لا مبالاة العالم بل و تخليه عن الكولونيل، تخلي أصدقاء أبنه/ الحكومة/ الوطن/ المجتمع. إن موقف العالم لا يتوقف عند التخلي أو اللا مبالاة فحسب، بل يصل إلى الاستهزاء والسخرية أيضا كما عند (ساعي البريد) وتجريح الكرامة أو الاعتداء كما عند (الشرطي) إنه الوطن نفسه قتل استمراريته (أبنه) .

من هنا يكننا القول بأن بنية العلاقة التي تكمن بين البيت/ العالم، بناء البيت/ بنى المجتمع، هي بنية انعكاسية. يمثل البيت دور العالم في بعض الأحيان ويتشابهان (التقمص) في أحايين أخرى، أي يصبح البيت والعالم بحد ذاته وبهذا تصبح العلاقة بين البيت والعالم، علاقة مرآوية.

والآن نتصدى لمحور العلاقة بين الكولونيل/ العالم: لقد أشرت سابقاً إلى وجود نوع من القطيعة بين كل من الخارج من جهة وعالم الكولونيل من جهة أخرى. وذلك يسور الكولونيل نفسه بمتاهات ذاكرته الزاخرة بالبطولات والنضال لكن استخدام هذا المصطلح لوصف أبعاد العلاقة بينهما لا يعني عدم وجود أية نقاط اتصالية مشتركة، لأن الكولونيل استطاع أن يدرك بنية الطرف المقابل (الخارج) الأساسية، وهي اللاشيئية التي تبتلع كل المديات والمجالات، لقد اخترق معالم الواقع الخفية واستوعبها تماما، وتجلى هذا الاستيعاب والإدراك في صرخته التساؤلية نهاية العرض (ماذا نأكل. ؟) … (الخراء) إنه عالم لا يحكمه سوى القذارات والنفايات، إذن هناك قطيعة مفروضة من جانب واحد أو بشكل أصح وأدق هناك (عدم فهم عنيف) من قبل العالم للكولونيل، ونحاول هنا الدخول إلى تلك المناطق المشهدية التي تتم فيها عملية القطيعة/ عدم الفهم معولين أساساً على تقنيات التمثيل للإمساك به (بعدم الفهم) وإظهاره. يحدث أن يلعب ممثل واحد، شخصيتين مختلفتين أو حتى متناقضتين في فضاء مشهدي واحد (كثيرا ما يتم هذا في مسرحيات المونودراما والمسرحيات المحكومة ببنية سردية حكائية) ولكي يقدر الممثل على إبراز وتمييز كل من الشخصيتين على حدة، باستقلالية، يستخدم عادة مفردة إكسسوارية معينة ويغير من أدائه الإلقائي (الصوتي) . أي تتم عملية الانتقال التمثيلي بين الشخصيتين المختلفتين باتخاذ الممثل مفردة مرئية كالقبعة/ عكاز/ قطعة زيت/ نظارة أو أي مفردة أخرى تعبر عن الشخصية الممثلة ويغير في إلقائه الصوتي هذا كله كي تستقل الشخصية المنتقل إليها عن الشخصية الرئيسية في العرض. ولكن ما حدث في هذا العرض، هو أن عملية الانتقال التمثيلي بين الشخصيات المختلفة وشخصية الكولونيل، قد تمت عبر استخدام المجال النفسي (الآليات النفسية) . لنأخذ على سبيل المثال لا الحصر مشهد (المحامي والكولونيل) نرى أن الممثل (إبراهيم جيوار) حين ينتقل من شخصية الكولونيل إلى (تقليد) شخصية المحامي، لا يمثل بقدر ما يحاول تقليد هذه الشخصية من  الزاوية النفسية، أي أنه يحاول جاهداً أن يوصل إلى الجمهور بأن المحامي لا يتفاعل مع قضية الكولونيل، بل غير مبالٍ به إطلاقا، وذلك حين يرخي انفعالاته، ويهدئ من أعصابه تماماً ويلقي الحوارات إلقاءً بارداً، والعلاقة التي يبنيها مع المفردة التي في يده، علاقة غير متوترة ويستخدمها استخداما هادئا وهو يقتل الذباب الذي يزعجه، إنه لا يكون أي علاقة بصرية مع كولونيل (وهذه دلالة إهمال تام). إن تقليد (إبراهيم جيوار) لشخصية المحامي، يبرز لنا ميزتها الرئيسية إلا وهي برودته ولا أبا ليته تجاه قضية الكولونيل. ولكن حين يعود الكولونيل إلى تمثيل دوره الرئيسي، يبدأ اضطرابه النفسي بالظهور، وانفعالاته الحادة تطغى عليه، ويصرخ دون جدوى، ويدخل في عمليات التداعي والتذكر، وكل هذا يتجسد بوضوح في كيفية استخدام نفس المفردة على أساس التوتر النفسي، فيستخدمها هذه المرة بعنف وقسوة كعصا، هنا تفقد هذه المفردة دلالتها ووظيفتها الأصليتين لتكتسب دلالة ووظيفة مغايرتين جديدتين وتتحول من مجرد أداة لقتل الذباب إلى عصا يضرب بها الكولونيل كل ما حوله، ويقوم بعملية ضرب وهمي للمحامي أو تعذيب كل من دافع عنهم، إنه القيام بعملية انتقامية تنفيسية وهمية.

وهناك مشهد ساعي البريد أيضاً، فمن خلال تقليد الكولونيل لهذه الشخصية، يكشف لنا مدى استهزاء وسخرية هذه الشخصية به.

من خلال استقراء نفسي للشخصيات المختلفة الساكنة في الخارج والتي يمثلها/ يقلدها الكولونيل نستطيع الإمساك بانفصالية العالم عن الكولونيل. إن العالم ينبذ مثل هذه الشخصية ولا يستسيغ معاناتها، ويقوم بمحاولات مستمرة لتهميشها. ويصل عدم الفهم أوجه عند الصائغ الذي يقلده الكولونيل أيضا، فالصائغ قد شبع لتوه من شتى أصناف الطعام بينما الزوجة تحاول بيع أعز ما تملك (خاتم الزواج) كي لا تموت وزوجها جوعاً. لكن الصائغ يرفض شراء الخاتم وهو ينظف ما بين أسنانه من اللحم.

إن السؤال الوحيد الذي يقذفه الكولونيل بوجه العالم باستمرار هو (هل هناك من شيء؟؟) إنه التساؤل الأكثر هدوءاً والأكثر عنفاً وقسوةً أيضاً، السؤال الذي يولد من سياق زمن انتظاري ساكن.

وضمن سياق العلاقة ذاتها هناك دائرة الوهم التي يسقط فيها كل من الكولونيل والعالم على حد سواء، ولكن الوهم الذي يسقط الخارج فيه، يسقط كلياً عن الوهم الذي يغرق فيه الكولونيل. إن الوسائل التي يتم فيها إيهام الخارج هي وسائل سياسية بحتة (الانتخابات/ تشكيل البرلمان. . إلخ) إنه وهم سياسي يقع فيه المجتمع وهو يتصور سعادته المستقبلية وربما أن الكولونيل هو الإنسان الوحيد الذي يستهزئ بهذا الوهم ولا يقع في حباله.

وللكولونيل وهمه الذاتي الخاص به الذي يكمن في تخيلاته المريضة لبناء مستقبله ومن أهم عوامل تكوين وهميته "الرسالة والديك" إنه لم يزل يأمل بوصول الرسالة التي انتظرها لأكثر من 15 عاماً. وهناك الديك ذلك الرمز الجامد طوال زمن العرض) الذي يعول على بيعه ليعيش به.

إن مفردة (الديك) هي الرمز الأساسي لوهم الكولونيل ولآلامه أيضاً.

قبل التطرق للمشهد الأخير وقراءته، نتصدى لعنصر الزي ومستوياته الدلالية في هذا العرض. ربما يعد عنصر الزي في هذا العرض من اكثر العلاقات قدرة على بث أكثر من معلومة على مستويات متعددة، وأكثرها قدرة على التفاعل مع بقية العناصر الأخرى المكونة للعرض.

يحمل الزي هنا مستويين دلاليين أساسيين:

1.  المستوى الظاهري/ ويعبر عن الشكل الخارجي للعالم وللكولونيل على حد سواء،

2. في بداية العرض،3.      نرى الكولونيل عائداً من الخارج وهو يلبس زيا مرتبا منظما (المعطف/ البنطال) وهذا يدل على محاولات الكولونيل إبراز نفسه للعالم على أنه متماسك،

4. متزن،5.منظم،6.    ليس بحاجة إلى أي شيء. إن هذا الشكل الخارجي هو كذبة الكولونيل على العالم،7.إنه الوجه الذي يرتديه الكولونيل حين يخاطب الخارج. وفي الوقت ذاته يعبر عن النظامية الهشة بوجه العالم الظاهرية. بنية العالم الشكلية التي تحاول القول بأن تماسك النظام والقانون هو سلطتها الأساسية. (إذن المستوى الدلالي الأول هو الكذبة الظاهرية المتبادلة بين الكولونيل والعالم). 8.     المستوى العميق / الخفي ويتجه هذا المستوى في التعبير عن البنية الخفية لكل من العالم والكولونيل. أي أنه يكشف عن القانون الأساسي الذي يحكم بنى العالم العميقة،9. وعوالم الكولونيل الداخلية/ النفسية. فبعد دخول الكولونيل فضاء بيته،

10. يغير ويرمي الزي الأول الذي كان يخاطب به الخارج،11. فيظهر في باقي المشاهد،

12. وخصوصا المشهد الأخير،13. بزي أو الأصح بقطع من الخرق الممزقة والمتهرئة والمرقعة في أكثر من موقع،14. وهذا يدل على حقيقة الكولونيل الداخلية/ نفسيته الممزقة/ فقدانه للأشياء كلها…إلخ من اضطراباته وتشتته بكلمة أخرى أنه (نفسيته المرقعة) . ومن ناحية أخرى يتقمص الكولونيل (ظهوره وهو يلبس خرق مهترئة وممزقة) حقيقة بنية العالم الأساسية،15. وجوهر العالم،16. إنه عالم تحكمه الفوضى،17.     التمزق،18.     بناه متهرئة،19.     هشة قابلة للانهيار السريع.  (ويمكننا إطلاق تسمية "الحقيقة الجوهرية الخفية" على هذا المستوى).

وأخيراً، المشهد ا لأخير هو عملية الافتضاح أو الانتحار احتجاجاً، التمرد الكلي، إنه من أكثر مشاهد العرض إثارة لتساؤلات مختلفة وخلقاً لقراءات تأويلية متعددة. ويولد هذا الفضاء التساؤلي المنفتح من عملية التفاعل الجدلي بين كل العناصر لسينوغرافية المشهد (علائق العلامات) ، وإنتاجها لدلالات متعددة (تحول وجهة الإنارة في الداخل إلى الخارج/ من الخشبة إلى صالة الجمهور/ الصرخة التساؤلية المفزعة/ عملية التعري/ المحاورة المباشرة للجمهور/ الخروج الغامض نحو الخارج/ أسلوبية التمثيل. . إلخ من هذه الإشارات) استطاعت إنتاج آفاق تأويلية مختلفة، متعددة، أي تكوين قراءات تختلف من متلقٍ إلى آخر. إن سؤال الكولونيل عن شيء ما، ثم مجابهة الخارج، وبعدها نـزع الملابس على المسرح ليست إلا بناء لعملية أخرى أكثر تعقيداً وخطورة وهي محاولة الكولونيل نـزع نفسه عن العالم والخروج من ذاته أيضاً. إنه الخروج لمجابهة العالم بحقيقته المرعبة، إنه عملية مكاشفة عنيفة وصولاً إلى عملية افتضاح العالم، إنه يفضح العالم بفضح نفسه. وأخيراً إنه الانتحار احتجاجا (نـزع الملابس في جو يسوده البرد والجوع الشديدين) على الفوضى الهائلة التي تقود العالم نحو العدم المطلق، وعلى اللاأبالية البشرية تجاه موت إنسان دافع عنها، موته برداً وجوعاً، إي أن فضاء المشهد الأخير هو فضاء الاحتجاج على (نفسه/ تاريخه/ ماضيه البطولات والحروب/ الوهم الذي سقط فيه/ العالم/ الإنسان…) احتجاج الكولونيل على الأشياء كلها وقوانينها وخروجه الغامض من حدود المسرح المرئية هو خروجه التام من الحياة/ العالم/ ذاته/ ومن متاهات ذاكرته اللعينة.

 

مجلة المدى العدد رقم 6

 

عودة الى الرئيسية

كتابة السيرة على الماء

دير الملاك

مواقع

ماكتبته الصحافة

تحت الطبع

نصوص خشنة

الحياة تبدأ غداً

الطقس المسرحي

الآن

مفتتح