مسرحية

موجــز حــرب

 


أمام أنظار العالم... كل العالم...

   كنت تحتضر دون أن يتقدم أحد   

لنجدتك! فإليك وحدك وأنت تطفو

   الآن جثة هامدة على سطح الكوكب


qالزمان :ليلة شتائية موحشة.

qالمكان :بيت فقير ثمة بساط رث من الطراز الشعبي يتوسط المسرح / ينتصب عليه كرسي من النوع الخشبي القديم/ في العمق مهد خشبي /خمس بقع ضوئية تضيء المشاهد الخمسة.

qالشخصيتان :

هو : عسكري / قادم من هزيمة حرب ما / ملفوف بالضمادات الطبية.

هي : زوجته التي انتظرته طويلا ترتدي زياً بيتياً بسيط.

 

البقعة الأولى

(صوت قطـار هادر  يخترق  المكان /  موسيقا ناي حزينة تنبعث من بعيد /هو يندفع داخل الضوء / يقف بانكسار يحمل حقيبة صغيرة / ملابسه العسكرية شبه ممزقة  / هي نائمة جلوسا و هي تتكأ على الكرسي / يتـوقف صـوت القطار / يرمي حقيبته إلى الأرض بقوة / تستيقظ  فزعة)

 

هي : ( تنظر إليه / تفتح فمها بقوة تحاول  النطق دون جدوى)

هو : (يهز رأسه و ينظر إليها من الأسفل/صمت/ موسيقا)

هي : عبد الكريم ؟... (صمت)

هو : أمل ؟... (صمت)

هي : أخيراً !

هو : ماذا ؟

هي : أخيراً عدت ( تنهض / تحتضنه بقوة / تنفجر الموسيقى) كنت أعلم أنك ستعود .

هو : أنا نفسي لم أكن متيقنا من العودة حياً... كل ليلة أنام وأنا أحلم بالعودة إليك... و لكن في تابوت .

هي : كفى... اصمت أرجوك .

هو : رأيت المدينة... رأيت الحارة قبل دخولي البيت... كل الجدران  ملطخة بلافتات النعي السوداء... هل قتل الجميع ؟

هي : نعم

هو : إلا أنا بقيت حياً !... كيف نجوت ؟

هي : الحمد لله على سلامتك .

هو : وكيف سأخرج  إلى الشارع... كيف سأنظر إلى عيون زوجاتهم... أطفالهم... إخوتهم... أمهاتهم... ليتني...

هي : ( تقاطعـــــــه) لا تقلـها أرجـــوك... من أجلــي اصمـــت أرجوك... الله وحده يعلم بحالي... أنا اليتيمة... أنا المحرومة منذ الطفولة... لقد رحمني الله بعودتك... لقد استجاب الله لدعائي... لم أترك شيئاً إلا و نذرته لوجه الله من أجل عودتك سالماً... و ها أنت عدت إلي سالماً.

 ( تحتضنه)

هو : سالماً ومفلساً... من سيسدد نذورك ؟

هي : سيساعدنـــا الله لأنه الوحيــــد الذي يعلــــم بحالنـــا... عبد الكريم... عبد الكريم... ( تحتضنه مرة أخرى / تريد مراقصته / لكنه مسمر / تهزه / يترنح /  يتأرجح / ينتصب أخيراً) ما بك ؟

هو : لا شيء .

هي : لا بل ألف شيء و شيء... لقد أصبت... أليس كذلك؟ يا روحي يا عبد الكريم... من عمري على عمرك... يا عيوني... يا دموعي... يا جنتي... يا فانوسي... أرني أين أصبت ؟

هو : توقفي .

هي : أرجوك... أستحلفك.

هو : (يصرخ بها بشكل هستيري) كفى... أمل كفى

( تتصاعد الموسيقى / تنسحب الإضاءة)

 

البقعة الثانية

 

(مع انبلاج الضوء نشاهده نائماً في حضنها و هي تهدهده)

هي : يا وحيدي... يا زوجي... يا كل أهلي... يا شمعة بيتي... أنت كل  حياتي.. دنياي و آخرتي... عبد الكريم في حضني الآن... يا إلهي ما أعظم رحمتك... كرومي معي... يا الله... لقد نسيت كل ألمي بعودتك  سالماً يا بعلي... يا أبا طفلي القادم...

هو : (يفزع / يحاول تغيير الموضوع) أمل... كفى !

هي : ما بك ؟... ما بك يا عمري ؟

هو : حقاً... تذكرت... أين أثاث البيت ؟

هي : (بتردد) بعته ؟

هو : بعت كل شيء ؟!

هي : لكي آكل... لكي أتمكن من انتظارك... و هل كنت تريدني أن أموت من الجوع يا كرم يا حبيبي ؟

هو : و هل بعت هذا أيضاً... (يشير إلى جسدها)

هي : ( تصرخ) عبد الكريم... عيب عليك... والله عيب... رحمتك يا الله... (صمت طويل)

هو : أنا متوتر... متعب... أنا آسف... يا أمل يا روحي بعتي كل شيء فلم أبقيت على هذا المهد اللعين.

هي : (بغنج) لعين ؟..ما بك... إنه مهد طفلنا... وحيدنا...

هو : (يصرخ) أمل (يصمت) كفى لا أريد اللف و الدوران... هناك عشت أياماً سوداً جعلتني أندم على اللحظة التي  ولدتني أمي فيها... هذه الحرب الثانية التي أخوضها وأخرج منها حياً... وما أدراني مالذي سيحدث في الحروب القادمة

هي : تفائل بالخير يا عبد الكريم.

هو : لا تفاؤل ولا هم يحزنون... هناك الآلاف من الحروب تنتظرنا... لا شيء ينتظرنا سوى الموت... ولذلك اتخذت قراراً لا رجعة عنه... لن أنجب طفلاً... لن أجرم بحق أي مخلوق... على الناس    أن يوقفوا الإنجاب... لندع الحروب والأمراض تفتك بنا وإلى حد الإنقراض... إلهي... المزيد المزيد من الحروب... لينقطع نسل الإنسان على الأرض أأنجب طفلاً للعذاب... للقذارة... للأيام السود... طفلاً للحرب أو للمقصلة... طفلاً سيعيش سعيداً بكتابة التقارير السوداء أو يكون مطارداً ملعوناً أبد الدهر أأنجب بنتاً للزمن الفاجر... للزمن المكبوت للحجاب والحلال والحرام... لن أنجب أي جلاد أوضحية علينا أن نضع حداً لهذه القضية الآن هل فهمت ؟

هي :عبد الكريم هل جننت ؟!

هو : بل أنا أعقل مما كنت...هذا قراري ولك الحرية... كل الحرية في العيش معي دون طفل... أو...

هي :عبد الكريم... إهدأ حبيبي لنؤجل هذا الأمر .

هو : أمل أقسم بقبر أمي أنا أعقِل ما أقول إنه قراري و لن أتراجع عنه وأقسم...

هي : حسنٌ... فهمت...

هو : إذن اطردي هذا الشبح من الغرفة... حطميه أحرقيه... افعلي به أي شيء... أي شيء... (ينهار على الأرض تتلقفه موسيقى)

هي: بعد لحظات طويلة يا وحيدي... يا كل أهلي و عشيرتي... يا شمعة بيتي... أنت دنياي و آخرتي... عبد الكريم في أحضاني يا الله ما أعظم رحمتك...

هو : (وهو ممدد في حضنها) أمل لقد قررت بيع البيت.

هي : و لماذا ؟

هو : سنبيعه و نشتري غيره في مكان آخر... لا أستطيع النظر في وجه أهالي الحارة... كل أبنائهم ماتوا و أنا العائد حياً... سأشعر بالذنب طيلة بقائي في هذه الحارة... أريد أن أغير نمط حياتي...

هي : و لكن.

هو : غداً صباحاً جهزي لي الأوراق سأذهب لبيعه.

هي : ( تنهض / تبتعد) ولكنه...لم يعد ملكاً لنا...

هو :أجننت... أتمزحين...

هي : بل هي الحقيقة.

هو : أية حقيقة و أي هراء هذا الذي تقوليه... أليس البيت بيتي ؟ ورثته عن أبي الذي ورثه عن جدي... و لقد سجلته باسمك خوفاً من الموت... تكلمي... ؟

هي : نعم... و لكنني...

هو : بعته.

هي : من أجلك.

هو : كيف... ولماذا... تكلمي سأجن...

هي : اسمعني أولاً يا حبيبي... أنت تعرف [وهب] صاحب  المكتب العقاري في أول الحارة... وهب أصبح مسؤولاً كبيراً مع بداية الحرب... قال لي إنه يستطيع أن يحصل لك على تسريح و ينقذك من موت محقق... و لكن لقاء مبلغ كبير... كنت أتردد... ولكن مع مجيء كل جثة إلىحارتنا صرت أرى الموت يقترب منك لحظة بلحظة... لم أفكر... وكدت أموت من الحيرة والخوف... أخيراً قررت أني لا أستطيع الحياة بدونك... البيت يعوض... إنه حجر و إسمنت... المهم أنت... سلامتك بالدنيا كلها...

هو : و بعد... ما الذي حدث.

هي : أخذ البيت و قام ببيعه... تسلم المبلغ من المشتري و قال انتظري أياماً قليلة... ولكنه حذرني أن أخبر أي إنسان بالأمر لأن ذلك سيفسد الأمر... صمت وانتظرت... المشتري الجديد وافق على أن يبقيني فيه كمستاجرة لمدة سنة مجاناً كشرط للبيع...

هو : وبعد ؟

هي : لقد خدعني وهب... بل خدع الحارة كلها... فعل الأمر نفسه مع جميع الجيران... جميع بيوت الحارة مباعة الآن و أهلها مجرد مستاجرين و الكل كان صامتاً خوفاً من فساد أمرتسريح ابنه من الجيش... وبينما كنا ننتظر ووهب يعدنا خيراً... فجأة اختفى...

هو : اختفى ماذا يعني ذلك .

هي : شكوناه إلى الشرطة... سألوا عنه... وبعد فترة جمعونا و شتمونا لأننا نمس بسمعة رجل وطني... هكذا  قالوا لنا... هو الآن سفير لدولتنا في الخارج...

هو : سأبحث عنه لآخر يوم في عمري... وسأقتله.

هي : لقد أصبح منهم... لن تستطيع الوصول إليه... سيقتلونك يا عبد الكريم... ارحم حالك و إلا ساقتل نفسي ( تذهب عنه)

هو : توقفي... انسي الأمر الآن (صمت) أريد أن آكل ؟

هي : لا يوجد لدينا سوى بيضتين سأعدهما لك  ( تذهب)

هو :عدت حياً... الحمد لله... عدت بلا طفل... بلا بيت... بلا طعام... ماأجمل الحياة...

هي : ما بك يا عبد الكريم .

هو : فرحان... فرحان جداً...

هي : من حقك أن تفرح... اضحك يا حبيبي... الدنيا كلها لا تساوي ضحكتك

(يضحكان إلى حد البكاء موسيقى /ينسحب الضوء)

 

 

البقعة الثالثة

 

 ( تفتح الإضاءة / كل منهما جالس على طرف من السجادة يفصل بينهما الكرسي)

هو : (يغني) لا أب ولا أم لا وطن و لا إله... ما من حبيبة بقربي... و لن يدفنني أحد حين أموت (صمت طويل مع الموسيقى)... كنا هناك... في صحراء مترامية... لا شيء نحرسه سوى الرمال و عواصفها الخانقة... لم نكن نحلم إلا بالمدن... بالبيوت... بالشوارع... بالحمامات... بأحضان زوجاتنا... ولا نتحدث إلا عن دوش الماء البارد الذي حرمتنا  منه الحرب... الماء البارد... والدشداشة بعد الحمام... النوم فوق  السطح تحت نجوم الصيف البريئة... اللقمة الطيبة النظيفة... تمنع الزوجة عند القبلة الأولى... ودلالها في صحوها عند الفجر... صوت  الأذان يغسل الأحلام عن عيوننا المتعبة و يعطر أرواحنا بالعافية لمواجهة تعب  النهار... كنت معي هناك لحظة بلحظة... أنت وأمي التي لم أذكرها إلا بعتب على ولادتها  لي... هناك لم يغادر الله لساني من شدة الخوف... الموت كان ضيفنا الدائم... فالموت يأتي مع الخبز العفن الذي يصلنا بعد أيام من صنعه مع قدور من الحساء والرز التي يغطيها  ستار من التراب... والموت كان ينط من الأرض أيضاً... فالرمال ملجأ للأفاعي والعقارب التي لا علاج لسمومها... والموت يأتي مع عواصف الصحراء المباغتة... مات الكثيرون من فصيلنا بداء التسمم بالطعام... أو بلدغ العقارب السامة والتي لم نكن  نملك أي دواء لعلاجها... ومات البعض من الاختناق والربو... هناك لم نكن نملك أي شيء... لم يعطونا أي شيء... لا طعاماً نظيفاً و لا ماءاً نقياً... لا خياماً و لا أدوية... كنا فقط محملين بالأسلحة والعتاد الصدء ومعاول لحفر المزيد... تقدم... احفر... صباحاً تأتي الأوامر بالتراجع نعود إلى الوراء دون أن يهزمنا أحد وبدون  أن نعرف معنى لتقدمنا ولتراجعنا نتقدم نتقهقر والمصيبة أن الصحراء تدمر مانحفره من خنادق وأقسم لو كانت الصحراء صالحة للزراعة لشهد هذا العالم موسماً خصباً فلقد حصدناها بمعاولنا شبراً... شبراً... وكنا نسأل أنفسنا أنحن في حالة حرب أم في نزهة قسرية... أين هم الأعداء... لاشيء... ليس سوى الصحراء ترد على حيرتنا بالعواصف... والضابط هو الوحيد بيننا من يعلم بأخبار الدنيا... فهو الوحيد الذي يملك راديو جيب وهو الوحيد الذي يملك جهاز اللاسلكي مع الخطوط الخلفية... ولكنه لم يخبرنا بشيء... دائما يقول... تهيؤوا... كونوا على استعداد... العدو قد يباغتنا في أي لحظة وعلينا أن نلقنه درساً لن ينساه لنريهم من نحن ومن هم...كنا نضحك ضحكاً يشبه البكاء !أين هم الأعداء... ولم هم أعداء لنا؟ ماذا فعلنا لهم؟ وما الذي سيجنونه من قتلنا نحن المدفونين أحياءاً في الصحراء ؟ أتصدقين يا أمل لم يكن بيننا هناك من أكمل الدراسة الإعدادية ومع ذلك صرنا فلاسفة من كثرة الصمت و التأمل... شهور وأيام طويلة وآه لأيام الصحراء... نهارها يسير كالسلحفاة... وليلنا ثقيل كصخر لا يتزحزح... نفد الكلام... صرنا نحكي لبعضنا أحلامنا واحتلاماتنا... لقد جردتنا الصحراء من كل أسرارنا... صرنا عراة أمام بعضنا... وبعدها جاء الصمت... انتهت كل الحكايات والطرف... بح صوت المغني الذي معنا جفت آبار أحلامنا... صرنا كالصحراء... كالرمل... كالعقارب... نلدغ بعضنا لأتفه سبب... ننتظر أي خطأ عابر لننفجر... نهدد بعضنا بالقتل... لأننا لانملك إلا السلاح... والسلاح هو الوحيد بيننا لايتكلم... لايحلم... لايجزع... لاينتظر العودة... لاينام... لايصحو... لايجوع... لايتسخ... لايشعربالملل والكآبة... صرنا نبحث عن أي مبرر لنتشاجر... نهدد بعضنا بالقتل ولانفعل... أخيراً تجرأ أحدهم  بالرهان على رأسه راهن بأن يطلق الرصاص على نفسه إذا لم تأت الأوامر صباحاً بالانسحاب أو التقدم... أقسم بشرفه وكنا نسخر منه لاعتقادنا بأنه يمزح فطلبنا منه تخفيف الشرط... فأضاف شرطاً ثانيا لينقذ نفسه من هذه الورطة قال "سأطلق النار على نفسي إذا لم تأت الأوامر غداً بالتحرك إلى الخلف أو الأمام... وكذلك إذا لم يأت العدو‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍" نمنا بأرواح أكلها الضحك السمج والرمل الساخن... عند الفجر استيقظنا كالمجانين على صوت رصاصة... لم تأت الأوامر... ولم يأت العدو لإنقاذ هذا الرجل إنه قسم الشرف الذي أخذه على نفسه... فجر رأسه ليرتاح... أخذ بطاقة سفر مريحة إلى السماء... صعدت روحه إلى هناك لكي تتخلص من عفن الصحراء لقد حسدناه جميعاً في سرنا على هذه الجرأة... دفناه... فتحول قبره وخلال ساعتين إلى وكر للعقارب والأفاعي وجرذان الصحراء...حشرات وحيوانات لم أر لها مثيلاً في حياتي... لذلك أمرنا الضابط بالتقدم عدة أمتار لنتخلص من خطر هذا القبر... على كل حال ساهم المرحوم بكسر جمود أيامنا... (يضحك بحسرة) انتقلنا... ولم تنته الحكاية عند هذا الحد... فعند كل خندق حفرناه كنا ندفن أحد  الأصدقاء... صارت مواقعنا قبوراً وأطلالاً... يتيمة مقهورة... ذليلة... قبور وحيدة ومحرومة حتى من زيارة الأهل والأحباب قبوراً لاينعي عليها أحدٌ سوى صوت ريح الصحراء الحزينة... صوت الريح... صوت ربابة كئيبة... صوت أم جفف الزمان دموعها وخدش أوتار حنجرتها... صار الجميع يوصي بعضه البعض بكتابة جملة على شاهدة قبره... كنا نستخدم خشب صناديق العتاد كشواهد قبور... نحفر عليها بالسكين تلك الجمل... أتعلمين بم أوصى صديقي "مهر" أن يكتب على شاهدة قبره .؟ مهر... مهر من فرج أمه إلى القبر‍‍‍‍‍‍‍! (يضحك / يسعل  / يتوقف)  وآخر أوصى أن يكتب له   " آخ يا أمي " وثالث " ليسقط الوطن .                              (صمت)

هو : كنا معتقلين هناك في الصحراء دون أي جرم... استطعت هناك يا أمل و لأول مرة في حياتي أن أفهم معنى كلمة وطن... الوطن هل هو الشوارع وأكداس القمامة؟ النساء الجميلات ؟ محلات التجارة والدعارة... نعم الوطن لا يعني لنا نحن المحرومين  أي شيء... إنه مقبرة لنا وحسب... ولكنه كنز بالنسبة لأولئك المنتفعين أباً عن جد... أما نحن أيتام الكون نصدق الكلام المزخرف الذي طبعوه على أفئدتنا منذ الصغر  "نموت... نموت... ويحيا الوطن " نعم... نموت معذبين ليحيا الوطن... ونعيش محرومين ليحيا الوطن... فيما هم يعيشون الحياة كلها... بكل أفراحها ومكاسبها... ونحن  نموت... لأننا لا نستحق إلا الموت...(صمت) نندفع إلى الموت لأننا لا نملك شيئاً ندافع عنه... صدقيني يا أمل ليست شجاعة تلك التي يمارسها الجنود على الجبهات إلا فيما ندر... وأما الباقي فهي محاولات انتحار علنية... كنا ننتظر الهجوم  المعادي هناك كمن ينتظر خلاصه... لأننا لم نكن نجرؤعلى الانتحار... كنا ننتظر رصاصة الرحمة القادمة من بندقية العدو انتظار المحكومين على عمود الإعدام... وماذا نملك لنعيش من أجله... وماذا نملك لندافع عنه... وما الذي ينتظرنا كي نستمر في الحياة... لا شيء إلا الحرمان... الكبت... الجوع... الأحلام الوضيعة التي تكفي زبالة أي من أبناء الوطن لتحقيقها !! (يردد بآسى) لم آكل شيئاً منذ ثلاثة أيام  ولا كسرة خبز... أعوام عمري وحدها  قوتي... سأبيعها لأول شارٍ... وإذا لم يكن هناك من يحتاج إلى عمري سيأخذه الشيطان لنفسه... هكذا عشت سدى... سأكون أول من يقول جعلوني ألعب دور البهلول والأن حتى موتي لن يفيدني... هذه الأرض سوف تستلمني كصندوق للصدقات لاأحد يريد عملة لاقيمة لها بقيت من أيام الحرب (صمت) لم أكن أحلم هناك إلا بك... كنت الوحيدة التي تدفعني للاستمرار  في الحياة... إلى التمسك بها في الأيام الأولى كنت أواسي نفسي بذكرياتي الوديعة... غزلنا الأول... المواعيد عند مفرق الحارة... احتكاكي بك في سوق الخضرة... خجلك و احمرار وجنتيك... كلماتك الأولى " فدوة عبد الكريم " و بعد نشطت ليالي الصحراء الطويلة ذاكرتي... تبددت تلك الذكريات لكثرة ما أعدت شريطها في ذهني المرهق... و بعد كان جسدك الواحة الوحيدة في صحراء حياتي... روحك نشفت ذكراها...  فبقي جسدك... كنت أحتلم بك أول الأمر و لكن بعد شهور انقطع حتى ذلك... فصرت أستدعيك عنوة في صحوي... كنت أستمني عليك... على ليالينا... أعذريني إني لم أكن أحمل في ذاكرتي إلا صورة واحدة لجسد امرأة... هي أنت... أنت     وحسب... ولإن ضيعتك... ضيعت نفسي... وإلى... الأبد... أبد الدهر... أريد أن أنام... لاحلم بحرب جديدة...

 (صمت)

هي : أتسمع إنه أذان الفجر... عندما ذهبت أخر مرة كان ذهابك مع أذان الفجر أيضا... أتذكر... صرخت دجاجتنا الوحيدة على  السطح... قلت لك حينها إنها تبكي على فراقك يا عبد الكريم... و لكي تعود رشقت وراءك ثلاث طاسات ماء... و رددت دعاء العودة  مئة مرة... و استغفرت مئة مرة... لم أكن أفهم أي  شيء... عن هذه الحرب... فهمت معنى الحرب الأولى... وكن هذه الثانية ما هي قصتها... سألت أبو جودي مدرس الرياضيات... قلت لنفسي لابد وأنه يفهم القصة... أجابني  " وما دخلي... أنا مدرس رياضيات و لست حلال ألغاز... لا أنا ولا أنشتاين يفهم قصة هذه الحرب... " لقد انقلبت السماء على الأرض... كل لحظة و الحارة تضج بخبر عجيب... فجأة أبو سلمان السماك أصبح مسؤولا كبيراً... تصور بدشداشته و معطفه الزنخ و بعصاه التي لا تصلح إلا لرعي الماشية أمثاله أصبح مسؤولا عن تجنيد الشباب و الصبيان للحرب و لماذا ( تقلد صوته)   " تعبئة عامة... الوطن في خطر... " الشبوط أبو شوارب صار يتكلم بالفصحى...             وبعد أيام راح يدق على الأبواب بعصا رعي الأسماك تلك... يبحث عن الصبيان لأخذهم لساحة الحرب... صار يتمرجل علينا لكونه الرجل الوحيد المتبقي في الحارة كان يتبختر في الحارة بإذنيه اللتين تشبهان زعانف السمك البحري... تحول إلى الآمر الناهي فى الحارة... صورة مصغرة لصاحبنا الزنخ الكبير... نعم أبو سلمان هودون غيره لاتستغرب... تعلم كيف يلقي علينا  الخطابات وباللغة العربية العظيمة لقد قطعوا عنا الكهرباء... لذلك انقطعنا عن العالم... لاتلفزيون... ولاصحف... الراديو وكما تعلم جميع محطاته تم تشويشها من أيام الحرب الأولى... وهكذا صار أبو سلمان السماك الناطق الرسمي باسم الوطن في الحارة... صار تلفزيوننا هو صحيفتنا اليومية... كل مساء كان يجمعنا ليشرح لنا تفاصيل الموقف الدولي... و بعض النسوة كن يطالبنه بسرد أحداث المسلسل البدوي الذي يعرضه التلفزيون فى السهرة... وكان يستجيب لهن ويبدأ بسرد قصص في جيبه الخامس... بالمناسبة وجد أبو سلمان السماك بعد بداية الحرب مقتولاً في بيته... يقولون والعهده على القائل أن زوج إحدى نساء الحارة اللواتي اعتدى عليهن جاء ليلا وقتله والتحق إلى جبهات القتال لكي لا يكشف أمره... من الصعب تحديد القاتل لأن أبو سلمان سبب  مشاكل كثيرة للجميع كان يجند الصبيان ويتحرش بالنساء... المهم مات تلفزيون وراديو الحارة... و صرنا في عزلة أكثر فأكثر...(صمت) ولكن أنت... كنت معي كل ليلة ... كل ليلة كنت  أغتسل وأتعطر وأتهيأ لك... كنت هنا معي تحت ثيابي وبين أصابعي فوق جلدي تسري كالنسيم البارد في عز الصيف... تحتضنني... تتمدد فوقي تهمس في أذني فتخرج لك روحي منها " شبيك لبيك  عبدك بين يديك "شفتاك كل ليلة كانت هنا على شفتي تطبعان قبلاتهما التي تشبه همس الليل... كنت تطرد عني وحشة الليل و تحيله إلى جنة... تطرد عني جبني... وساوسي... ضعفي... خوفي... ترددي... كل ليلة هنا على سريرنا الذي صنعته بيديك كنت أندلق عسلاً و أنا أفكر فيك... التفكير بك وحدك يجعلني أنتشي... أتحول إلى فراشه تتوق إلى الضوء... ضؤوك وحدك أنت يا عبد الكريم... كل ليلة أذوب فيك انتظاراً... أرتجف... أرتجف وأكاد أموت من رغبة الاحتراق بين يديك... صرت أهذي... عبد الكريم يا عبد الكريم... يا عبد من لا عبد مثله... تعال وشقني نصفين بسيف حضورك يا زوجي... يا حبيبي وياكل أهلي... (صمت) عبد الكريم... لقد أعدت إلي الشعور  باليتم ثانية... تعرفني أنا اليتيمه منذ الولادة... أصغر شئ في الدنيا يبكيني... و يدفعني إلى الضعف والخجل... فكيف تتركني يا عبد الكريم... أنت الوحيد لأهلك وأنا اليتيمة بلا أهل... منذ عرفتك و صرت لي كل دنياي... غطائي... سمائي... سندي... أهلي... كبريائي وكل الناس أجمعين... منذ عرفتك نسيت ضعفي... صرت قوية... منذ عرفتك والعالم الذي أخشاه  صار أهلي... ولكن آه ياعبد الكريم كيف تركتني كل تلك الأيام السوداء... ماذا أفعل... ماذا لو؟  ياإلهي... وأنا المرآة الضعيفة التي تجهل كل شيء... لا أفهم بالحرب ولا بالسياسة...  لا أسمع... لا أرى لا أحد يدلني... الحيرة تلفني من رأسي إلى قدمي... صرت كالمجنونة أتلفت أينما سرت... أي عسكري يمر يشد روحي و بصري... والشارع مليء بالعسكر... أركض نحوه كالمسكونة بيقين... هل شاهدت عبد الكريم عبد الصمد ؟ عسكري؟ صنف مشاة ؟ أسمر... شعره... لا تعرف؟ مرة أجابني أحد العساكر وكان مخموراً... " أتعلمين كم عسكري يحمل اسم عبد الكريم في جيشنا العظيم؟ ربما مئة ألف واحد..." يا إلهي مئة ألف عبد الكريم  طيب وكم عدد الجيش؟ "مليون عسكري منظم ومليون متطوع... هذه حرب يا أمرآة وليست لعبة..." لقد انقطعت أخباركم... قطعت خطوط الهواتف... توقف بريد الرسائل... ولكني لم أيأس... كنت كل يوم أعطي حليمة ابنة جارتنا شيء من مكياجي و ملابسي لتكتب لي مئة رسالة... "إلى العزيز عبد الكريم عبد الصمد... جندي مشاة من زوجتك الغالية... عمري... حياتي... أنا بخير فما أخبارك طمئني عنك... "ولأن القطارات تتحرك ليلا فقط... كنت آخذ سطل ماء بارد معي إلى محطة القطار أوزعه مجانا على الجنود وأستحلفهم... "خذ ياأخي... هذه الرسالة... هي لعبد الكريم عبدالصمد... ربماتعرفه..ربماستعرفه... ربما ستعثر عليه في يوم من الأيام أثناء تنقلك في الجبهة... الله يسلمك لأهلك... الله يحفظ شبابك خذها معك و لن تخسر... ربما ستلاقيه بالصدفة... "  (صمت) ويا للحظ العاثر... لم تصل منك أي رسالة... حظي أسود وأنا أعرفه... كيف تصلك الرسالة؟ كيف يرتاح بالي ساعة؟ صرت كالشاي المطبوخ على الحصى الساخنة... أهدر بعذاب...     روحي التي كانت تغور على خطى انتظارك الساخن يا عبد الكريم... و المصيبة الحقيقية ابتدأت عندما انطلقت صافرات الإنذار... فهمت حينها أن الحرب ابتدأت... و ابتدأت الحارة معها تستقبل التوابيت يوميا... تنطلق صافرة الإنذار من بعيد... أبو سعاد صديقك كان الأول... ابن أم خليل كان الثاني و هكذا إلى أن ضاع العد واختلط الحساب... كل ليلة تفزع الحارة بكل نسائها وأطفالها لدى فرملة أي سيارة وإن كانت عابرة... صوت السيارة في الليل صار علامة على قدوم تابوت جديد... أم خليل عند ما رفعوها عن تابوت ولدها صرخت... ياولدي... ياوحيدي... لا تأخذوه بعيداً عني... ادفنوه في قلبي !! صارت قلوبنا مقابر من الحسرات... ليدفنوا فيها أولئك الرجال و الشباب إنهم أحباؤنا وضوء عيوننا نعم... أوصيت جيراننا عندما يأتون بكريم... ستكون نهايتي... لذلك عليكم أن تدفنونا معا لكي لا أحرم منه في الموت كما حرموني منك في الحياة... أنا وأنت ياكريم  وحيدان تحت التراب... صرت أشتهي حتى تلك اللحظة من الحرمان و الخوف... أنا و أنت دون عذال... دون حرب... لا يعرفنا أحد... حتى الموت نفسه يعجز حينها عن تفريقنا عن بعض... أنا و أنت في قبر نملؤه بالقبل والأولاد... صرت أتمنى ذلك... خفت أن أموت يتيمة وأبقى إلى الأبد يتيمة 

 

( تعلو الموسيقى وصافرة الإنذار / تنسحب الاضاءة)

 

البقعة الرابعة

 

 (مازالت صافرة الإنذار تهز المكان يرافقها صوت ناي حزين من بعيد هو في حالة هستيريه هي في هذيان لاحدود  له) .

هو : الخلاص الذي انتظرناه كان الجحيم بعينه... جاء الأعداء من السماء ورصاصات الرحمة كانت قنابل لم نسمع لها وصفاً من قبل... صرنا مختبراً لتجاربهم الحية... قنابل لثقب الآذان قنابل للموت من الضحك... قنابل لدفن الجيش حيا... حجبت الطائرات ضوء الشمس والقمر... إنها المعجزة... الكسوف والخسوف معاً... عاصفة سوداء حولتنا إلى سبايا مذعورين  لانعرف حتى طريق الهرب... سبايا كنا... سبايا عزل... نتراكض بين خيول الموت التي تسحقنا بشظاياها... أسراب من الطائرات المحصنة بالحديد والسماء البعيدة... وجنود عزل إلا من سلاح... سلاح معطل... اصطففنا كالمحكوم عليهم بالإعدام تحتها دون أية مقاومة... كنا نحدق بموتنا... بينما الرماة كانوا معصوبي العيون... معصوبي القلوب...

(يتعالى صوت صافرة الإنذار و صوت الناي)

هي : عبد الكريم... يا عبد الكريم... مدينتنا... بل وكل المدن الأخرى... بشوارعها و بيوتها وجسورها وحدائقها وأنهارها ، بنسائها وأطفالها وقفت كالمحكوم بالإعدام مستسلمة أمام وحوش السماء تلك... نفس الوحوش... أين ولوا أولئك الذين حشوا آذاننا بصراخ الصمود والمقاومة... قاوموا... قاوموا...

(صوت الصافرة / موسيقا الناي)

هو : بماذا نقاوم يا سيدي بجلودنا و عيوننا... نقاوم جهنم التي فتحت أبوابها علينا بهذه البندقية الغبية... خذها عني و قاوم أنت الأول... علمني كيف تكون المقاومة...

(صوت الصافرة / موسيقا الناي)

هي :مع أول مفرقعات الفجر النارية... ومع بداية ذاك العرس الوحشي بدأت العوائل بمغادرة المدينة إلى الأرياف... كانوا يفرون وهم يصرخون... هذه ليست حربنا... ليست حربنا غير أن الطائرات لم تبخل على الريف بحصته المناسبة من الموت... ياالله... صارت البساتين قبورا لهم... كيف سيكون قبرنا نحن يا عبد الكريم ؟ و هم... شاهدتهم بأم عيني التي سيأكلها الدود... هربوا من بناياتهم المحصنة إلى المشافي ليهتموا بترسانة الأدوية... نامت الحكومة على أسرة المرضى بعد إزاحتهم عنها... السجون وحدها بقيت تعج بالمعتقلين تواجه طيور السماء السوداء... كانوا ينتظرون الخلاص أيضاً وجاء الخلاص من السماء... رجمتهم الطائرات بموت سريع ومريح طالما منّت عليهم الدولة به... احتمى الجلاد بعلب الإسبرين بينما ركض الأطفال إلى سطوح البيوت يشاهدون الخراب يطبعونه في ذاكرتهم التي تشوهت وإلى الأبد... ‍‍‍

هو : ليكن ما يكون... سأجلس هنا على سطح الموضع بانتظار الموت... تعبت يا أصدقائي من دفني لنفسي في الحفر كالنعامة... لاأريد أن أصاب في مؤخرتي... إذا كان لابد من الموت فليأتي إلي من الصدر... لتكن مواجهة رجل لرجل... هناك تذكرتك ياأمل... وكنت أتمناك معي... صعق القنابل سيمزق ثيابنا.. سنرقص... احتضنك كالموت الأبدي... أدور معك على الأرض من حفرة إلى حفرة نموت معا ونحن نسبح بدمائنا... آه كم تمنيت ذلك الموت... إنه أهون من كل تلك الذلة... المهزلة... صار البعض منا ينادي الطائرات كما ينادي ربه: الرحمة الرحمة... مزقوا ملابسهم الداخليـة وربطـوها على البنـادق  الذليلة ليعلنو الاستسلام... إلا أن الطائرات كانت عمياء... صرخوا من اليأس... اتركونا أحياء و سنقبل أحذيتكم... و لكن الطائرات كانت صماء أيضاً.

(صافرة الانذار)

هي : استسلمت المدينة لقضاء لامهرب منه... المقاومات الأرضية صمتت كمن أصيب بالخرس المفاجئ... و المعزوفات كانت تواصل عرسها الوحشي... تغتصب المدينة... تغتصبنا... علانية... بلا رحمة... و بلا خجل...

(صافرة الانذار)

هو : قتل الضابط أخيرا... فسرقت الراديو الصغير منه... لا أسمع آخر أخبار الدنيا قبل أن أختفي عنها... (يقلد الإذاعات و المذيعين) " ألو صوت العرب من القاهرة... أطلب أغنية /بتونس فيك و انت معايا/..مونتي كارلو... دلل نفسك بجبنة لورباك... لونجين تعطيك الدقة في الوقت... الوكلاء الوحيدون في المملكة العربية... هنا بغداد... نواصل معكم الإصغاء لحديث الـ... موسيقا... هلاهل... النصر لنا... لا تنسحبوا حتى و لو ظهرت بنفسي على شاشة التلفزيون و طلبت منكم ذلك"...

هي : تساقطت الجسور في الأنهار... مباني البريد كانت هي الهدف الأول... تناثرت صحونها و أبراجها مع آخر وصايا الحذر والوداع والحب التي كان يتبادلها الناس من خلالها... هربوا قواعد الصواريخ و الطائرات المستهدفة إلى الأزقة و الحارات الفقيرة تبعتها الطائرات المتوحشه لتمزج معدنها بدماء الناس.. أين الحماة؟... أين المدافعين ؟ أين الكلما ت؟ أين الحكومة ؟ الحكومة!        ( تضحك) الحكومة كانت أول الهاربين... الحكومة وقتها كانت ضائعة... خائفة... تبحث عن ثقب تخبئ فيه نفسها.

هو : ألو سيدي... من هناك ؟ جندي أول رحيم... أين آمر الوحدة؟ قتل ؟ افهم أرجوك... نحن فصيل الحجابات... لا يوجد أحد عندك؟ أين الضابط؟ أين القيادة الميدانية ؟ هربوا ؟! و لكن ماذا سنفعل  الآن؟ نهرب !؟ سنهرب نعم سنهرب لسنا حمقى إلى هذه الدرجة و لكن يا رحيم قلي إلى أين نهرب... وكيف سنهرب؟(صمت) انقسم الفص المتبقي إلى قسمين اختار القسم الأول المسير باتجاه الشرق والثاني باتجاه الغرب... أحدنا ذهب باتجاه العدو ليقع في الأسر    ويقبل الأحذية حفاظاً على حياته الرخيصة... والثاني باتجاه الـ... وطن... كنت بين هؤلاء... وصلنا إلى مشارف إحدى القرى... أمواتاً أحياءً من الرعب و العطش و الجوع... بكينا بكاء الأطفال جراء سلامتنا... وصرنا ندبك من الفرح... آه... الطائرات لاحقتنا... قصفت دبكتنا... سقطت ولم أشعر إلا بأحدهم يسحلني خلفه كشاة ذبيحة... كنت أسمعه يصرخ بي... لاتمت... تحمل... اصبر... سنصل... وقبل أن أغيب عن الوعي كان صوت صافرة سيارة الإسعاف أخر شيء أسمعه...

 (صافرة سيارة الإسعاف)

هي : صافرات... صافرات... صافرة الإنذار... صافرة سيارات الإسعاف... صافرة سيارات إطفاء الحريق... كل الصافرات كانت تهجع ليلا باستثناء صافرة سيارة الإسعاف المشؤومة تلك... أتعلم يا عبد الكريم؟ كان أهل الحارة يقسمون أن الجرذ الكبير كان يتنقل فيها من حارة إلى حارة هرباً من الطائرات التي لم تستهدفه أبداً... كان طيلة أيام الرعب تلك ينام ويأكل ويتبول ويمارس مهامه الرئاسية في سيارة الإسعاف الصغيرة تلك...

(صافرة سيارة الإسعاف)

هو : كنت في المشفى هناك مع الآلاف... أكداس من اللحم لا هوية له... كان الأطباء يدوسون على أعضائنا ليتمكنوا من الوصول إلى من يحتاج إلى مساعدتهم... أكداس... تلال من الجثث تكدست بعضها فوق بعض... وكان المشفى بلا ماء... بلا كهرباء... العمليات الكبرى كانت تتم بدون مخدر... والطائرات يا ويلي...كانت تواصل قصفها دون رحمة... و الجرح كان ينزف من الهلع و الرهبة... شاهدت الجرحى يسقطون من أسرتهم كلما اهتز المبنى... يسقطون و لا ينهضون بعدها أبداً... وعندما تغيب الطائرات كنت أحلم ياأمل... أحلم بأني طائر شفاف يطير من حفرة إلى حفرة... من سماء إلى سماء... يعود إلى هناك... إلى ما قبل ألف عام... هناك أحط على الأغصان... لا رصاص... لا مدافع... لا طائرات... أطير أحلق عالياً بكل ما في من رغبة بالحياة... و لكني كنت مكشوفاً للطائرات... أصاب في وسط الطريق لأستيتيقظ على صوت الجرحى يصرخون من الموت والألم... أنجدونا... أنقذونا...

هي : أنقذنا من الطائرات يا إله الكون... أنت القادر الوحيد على نجدتنا... أخرس صوت سيارة الإسعاف اللعينة تلك... الكل بانتظار ساعته المحتومة... الكل توضأ وصلى استعداداً للموت... وسيارة الإسعاف ظلت تدور وتدور... و الجرذ يختفي تحت مقاعدها الخلفية يحلم بالحياة... هاربٌ في سيارة الموت التي لا تتوقف... كمريض بالطاعون لفظته المباني والشوارع... منذ تلك الأيام وحياته صارت حياة مريض لا يرجى شفاؤه أبداً...

(يختفي صوت سيارة الإسعاف و يبقى فقط صوت الناي)

هو : هناك في المشفى شاهدت رجلاً غريب الأطوار... أقول الصدق شاهدته بنفسي عدة مرات... وسيم بزي سهرة... يضع قلادة فضية على صدره ويحلي أذنيه بالفضة أيضاً... كان جميلاً بالرغم من أنه حليق الرأس... كان يدخل الردهة من أي مكان يريد و في الوقت الذي يريد... من الجدار... أو يقفز من السقف إلى الأرض... وأحياناً كنت أراه يدخل من الباب يمشي خلف الأطباء كان طويل القامة... أطول من الجميع و لكن لم ينتبه له أحد غيري... كان  عند مجيئه في كل مرة يطقطق عظام ظهره وكفيه... يبتسم لي بخفة... ينظر إلى أحد الجرحى ويغمز لي بوداعة... ويختفي... حينها أكتشف أن ذاك الجريح قد مات... تكرر ذلك أكثر من مرة... أردت أن أصرخ بالأطباء ليمسكوا به أو يطردوه و لكن في كل مرة أحاول الصراخ فيها كنت أتحجرمن لذتي بالتمتع بجماله الأخاذ... لقد عرفته فيما بعد... عرفته جيداً... عرفته أخيراً... إنه ملك الموت... نعم ملك الموت لقد كان ملك الموت يا أمل...

(موسيقى الناي)

هي : في ذلك الفجر... اصطفت كل المدن أمام فصيل الإعدام الجوي... مستسلمة لحكم باطل... وجاء الصمت... الصمت الأخرس... صمت بلا طائرات و بلا موت... وهكذا... حتى بدأ النهر يفور على غير عادته صار يهدر... ربما من الذل أو الغضب والحزن... صار يهددنا بالفيضان... ( تصمت وتصرخ فجأة) غريق أو حريق... حريق أو غريق نعم تذكرتها... تلك النبؤة المدونة في كتب الطلاسم... غريق... أوحريق... حريق أو غريق... و لكن لم تذكر النبؤة الأثنتين معاً... يا إلهي الحرق والغرق معاً... يا إلهي الرحيم... إنه مهد طفولتي ارحمه من الغرق... وأنجده من الحريق يا إلهي... إنه وطني فارفق به.

 (صمت موسيقا الناي تتصاعد تنسحب الاضاءة)

 

البقعة الخامسة

 

(يفتح الضوء/موسيقى ناي/هو متكور/هي تهزالمهد الفارغ)

هو : (يغني باللهجة وبهدوء) أريد أنهض و ما بالحيل قوة... على جتافي أشيل الثوب قوة... أجاكم يالحانا الشيب قوة... بعدنا زغار علهم والأذية... أنا شسويت عذبني زماني... (يئن إلى حد العويل).

هي : ( تهز المهد بقوة/ تتجه لعبد الكريم و تناغيه و هي تغني) هيا يا عبد الكريم... كفى... هل تريد أن نضيع عمرنا الباقي بهذه الذكريات السوداء؟... يا الله... هيا يا كريم... أريدك الآن... بكل حرماني وعذابي... أنا الفراشة و أنت النار... هيا أريدك الآن كلك...

هو : أنا وسخ يجب أن أغتسل...

هي : أريــدك بوسـخك... برائحتــك... أريــــدك مثلما أنت... أتريد إذلالي يارجل... هيا هاأنذا أتوسل إليك... أركع... أتمزق أمامك... هيا... أنت الخنجر و أنا غمدك... هيا... كفى تحجراً... لقد أهنتني بصمتك وتهربك... لقد صبرت... صبر أيوب لكي أحتفظ لك بنفسي... لك وحدك... كل ليلة كنت أتمدد وأنام مع ذكرياتك... و رائحتك... وجسدك... كنت أصبِّر نفسي بعذوبتك... لقد صبرت صبر الإبل... والآن... هيا يا عبد الكريم...

هو : لا أستطيع .

هي : أنت لا تريدني؟... فهمت الآن

هو : أقسم أنني أعبدك.

هي : ولكن ما معنى هذا... هل عاشرت امرأة في طريق العودة حتى أشبعتك؟

هو  : أنت تعرفينني جيداً يا أمل .

هي : وماذا إذن... عبد أريدك الآن... أنا ساخنة و أكاد أنفجر... أنت زوجي... جئت بعد غياب طويل... أنت حلالي هيا... لا تتهرب لقد صبرت أياماً وشهوراً ليالي من الحرمان كان سريري يتحول فيها إلى جمر... من الألم...

هو : طيب لنؤجل الأمر إلى الغد... إلى الصباح...

هي : لا أسـتطيع تأجيـــل ذلك لحظــة واحــدة... وأي شــيء يجعلني أؤجل ذلك وأنا التي في كل خلية من جسدي انتظارٌ مميتٌ لك... هيا ( تهجم عليه تفك قميصه العسكري يظهر صدره مليئاً بالضمادات...)

هو : لا..أمل... توقفي... أنا جريح...

هي : (وهي تفك جزمتــه العســـــكرية فتظهر قدماه ملفوفة بالضمادات الطيبة أيضا) وليكن جسدك كله جراح... لن أتراجع...

هو : أمل... توقفي... أنا مرهق...

هي : ( تفتح أزرار بنطلونه / يتراجع/ تظهر المنطقة ملفوفة بضمادات ملطخة بالدماء...)

هو : كفى.

هي : أستحلفك بروح أمك الغالية تكلم ؟

هو : قلت كفى... توقفي يا أمل (يعطيها ظهره من الخجل / يستدير نحوها يصفعها بقوة / تسقط أرضاً / تبكي) لقد أصبحت أشبه بمنخل الدقيق... ليس فيَّ جزء سالم إلا ما ترينه... قد أصبت هنا... و هنا... (يشير إلى قدميه وبطنه... و صدره) و هنا أيضاً... لقد عطبت... أتفهمين... عطبت وإلى الأبد... لقد خسرت كل شيء... (صمت) أريد أن أنام... أنا متعب... مرهق... أشعر بالضياع... أريد أن أنام ليوم كامل... بل ليومين... ثلاثة... أربعة... لا أريد أن أصحو أبداً... لا توقظيني... أريد نوم الدهركله... (يردد بحزن) وجدت أخيراً وطني... وخلاصي... تلك الأرض... حيث يكتب اسمي بشكل صحيح... فوق قبري... حيث أدفن لو أنهم سيدفنوني...

 

(يتمدد خلف الكرسي و ينام/ هي تأخذ حزامه العسكري /تصعد إلى أعلى الكرسي/ تعلق الحزام بالسقف وتشنق نفسها /صوت الناي يتواصل بلا توقف)

 

 

 

 

تـــــمـــــت

 

دمشــق

          1996


qالمقاطع الشعرية من قصيد( قلب نقي) للشاعر الهنغاري أتq