الثورة      11 الثورة الثقافي

العدد: 10774 5-1-1999

حوار مع المخرج المسرحي هادي المهدي:

النص العربي الفارغ هو واحد من أهم وأكبر مشاكل المسرح العربي

حاوره : ابراهيم الطاهر

 

منذ وطأت أقدامي أرض الشام قدم هادي المهدي ثلاثة عروض مسرحية (دائماً وأبداً) (دم شرقي)

 ثم (الكراهية): عنها وعن المسرح السوري وهمومه ومشكلات النصوص المسرحية العربية وعن حضور الإسطورة في العمل المسرحي … ومحاور أخرى عديدة كان لنا هذا الحوار مع الفنان المخرج المسرحي هادي المهدي.

-    كيف ينظر هادي المهدي إلى المسرح السوري؟ وهل هناك حقاً أزمة تعتريه؟ وإن كانت … فهل هي أزمة إنتاج؟ أم جمهور أو رؤيا؟

-    أميل إلى تسمية الإشكاليات التي يمر بها المسرح السوري بـ (الهموم رغم أن البعض يحاول إطلاق صفة (الأزمة عليها)، إن من يروج للأزمة هم المأزومون أنفسهم أولئك عجزوا عن مواكبة التطورات المذهلة التي يشهدها المسرح الحديث، ذلك أنهم سجناء أيديولوجية وأساليب عجزت عن التواصل وتقديم الجديد، لذلك تراهم يروجون لشائعة الأزمة في محاولة منهم لحجب المنجز الراهن الذي يزخر به المسرح السوري على اختلاف المستويات الإبداعية وهنا لا أريد التغزل بالمنجز وبمن يقف وراءه، بقدر ما أسعى لملامسة الحقيقة الساطعة فمن البديهي القول أن وزارة الثقافة السورية هي آخر وزارة عربية ترعى كل هذا الكم من الإنتاج الثقافي على صعيد (المسرح، السينما، الكتاب، المطبوعات، الدورية، المهرجانات، والندوات، إضافة إلى الموسيقى والفن التشكيلي) بيد أن وزارة الثقافة غير مسؤولة عن الجدوى بالمعنى الإبداعي، ذلك أنها تمنح الفرص للجميع: وهنا يأتي دور المبدع في تحمل مسؤولية جدوى ما يقدمه من إنتاج ثقافي مسرحي أو غيره.

-         إذن كيف تفسر ضعف توافد الجمهور على المسرح؟
-         الجمهور ما يزال يعشق المسرح ويتوافد إليه بكثافة وهذا ما يجعلنا نستمر بالعمل إلى الآن وأنا شخصياً أتابع جمهوري الذي يتكاثر من عرض لآخر وهو يقارن بين كل تجربة وأخرى بدقة وهذا مفرح للغاية مما يدفعني للحرص والتهيب من كل تجربة جديدة، مع الإشارة إلى تغيب واضح للمسرحيين أنفسهم محترفين وطلبة ذلك أن الأمر يعنيهم أكثر من غيرهم إلا أن غيابهم المتعمد عن العروض لم يشل حركة المسرح لحسن الحظ.

طالما هناك دعم من الجهات الرسمية كما أسلفت … وهناك حضور جماهيري، فهل هناك مشكلة بخصوص الممثلين أنفسهم، خاصة وأن الغالبية منهم أرادوا ظهورهم للمسرح واتجهوا للتلفزيون؟

بخصوص سرقة التلفزيون للكادر المسرحي فأعتقد أنها مغالطة خطيرة ذلك إن ما يدفع الممثل للهرب من المسرح هو جدية العمل المسرحي نفسه وجدية رؤية المخرج ففي ظل غياب عنصري الجدية والإبتكار وسيادة روح الكسل والترهل والنمطية يجد الممثل نفسه مجبراً على التعامل مع التلفزيون نظراً لمكاسبه المادية والمعنوية المعروفة وفيما يخص المردود المادي في المسرح فمن الصحيح القول أنه غير مجز إلا إننا يتوجب علينا تذكر قضية مهمة فالتجربة المسرحية تشحن الممثل جسدياً وذهنياً أما التلفزيون فيفرغه من ذلك والشحنة الجسدية والروحية تأتي هنا مقابل ما يقدمه التلفزيون للممثل وهنا يتعادل الأمر غير أن الأمر يتوقف في النهاية على جدية المشروع المسرحي من جهة وجدية الممثل … لكنني لا أدافع هنا عن بعض المتهربين ولا سيما من الخريجين الذين لم يقدموا مشهداً مسرحياً ومنذ تخرجهم: وهذا يرجع باعتقادي لتواضع مواهبهم ورغبتهم الملحة بالبساطة والسطحية ومكاسب التلفزيون الرخيصة التي يدفعون ثمنها الكثير من كرامتهم لعدم توافر الطاقة الإبداعية فالممثل الكبير في المسرح كبير في السينما والتلفزيون والعكس غير صحيح بالتأكيد: وأود أن أشير هنا إلى أن أهم التجارب المسرحية السورية التي أتطلع إليها باحترام كبير هي لنجوم التلفزيون أمثال (غسان مسعود، جهاد سعد، جمال سليمان، حاتم علي) وهذا ما يؤكد عدم قدرة التلفزيون على سرقتهم من إبداعهم المسرحي بل أن نجوميتهم التلفزيونية قد تكسب المسرح جمهوراً جديداً.

-         يشهد عصرنا الحاضر عودة إلى عالم الاسطورة … مما يشكل اتجاها واضحاً في كثير من الفنون المعاصرة … وبلادنا غنية بأساطيرها وتراثها فأين المخرجون المسرحيون من هذا؟
-         هذا السؤال يثير غرابة هائلة حول مغالطات الاتجاه العربي في المسرح ففي الوقت الذي استوردنا فيه المسرح وانصرفنا إلى أدلجته بشكل قسري إلى حد لي عنق التراث الإسطوري لخدمة الخطاب السياسي المعاصر كان المسرح الغربي ينمو بشكل حر وصولاً إلى العودة إلى الأساطير وبدون أهداف أيديولوجية مسبقة بل إيماناً منه بضرورة تفجر وتطوير الهوية الثقافية لمجتمعاتهم. والعودة العالمية للأسطورة لم تأت على أساس استنساخ الأسطورة القديمة بل على أساس الاستفادة من روح الأساطير القديمة اليونانية والأغريقية والهندية والفارسية والعربية والإسلامية في بناء طقس مسرحي معاصر وهنا يقول بتر بروك (وهو يقدم أسطورة المهابهارتا الهندية ورسالة الطير الإسلامية): أنها عروض تنتمي لعصرنا، أوكما يقول المخرج والباحث المسرحي المعاصر غروتوفسكي: (على المسرح المعاصر أن يخلق أساطيره) وهذا يحيلنا إلى قضية مهمة حول فهم خاص ومتقدم لهذه الأساطير التي عاشت لآلاف السنين حية في أرواح الشعوب وأذهانها، كونها عبرت عن الكوني والشمولي الإنساني بشاعرية عالية بعيداً عن الأدلجة والمناهج العقلانية التي طالما عجزت عن تقنين الظاهرة البشرية ولا سيما على الصعيد الوجداني والروحي وقد أدى هذا الفهم الغربي إلى قراءة دقة العقل الذي صنع هذه الأساطير والاقتداء به نحو صياغةأساطير
-          معاصرة تهم حياة المجتمع الراهن، إلا أنها تنطلق من الأسس الإبداعية نفسها، في الوقت الذي كان فيه المسرح العربي يتجه نحو الأساطير والحكايات التراثية ليسجلها كما هي إلى الزمن الراهن فيغيب أزمة العصر وأسئلته ويغرب المتفرج عن زمكانيته المحددة فتصبح اللعبة المسرحية أشبه بعمل المتحفي الذي يعرض الأحجار. ويشرحها دون إضافة أو تطوير وقد شغلني هذا الموضوع طويلاً الأمر الذي دفعني لدراسته بشكل فلسفي وتقني إنطلاقاً من فهم روح تلك الأساطير ومناخاتها لإنتاج أساطير ومناخات مسرحية معاصرة تنتمي لنا عبر امتدادها التاريخي وذلك ما عبرت عنه بشكل واضح ومفصل في كتابي الذي صدر مؤخراً بدمشق بعنوان (الطقس المسرحي المعاصر) وقد بدأت هذا البحث في فترة مبكرة من حياتي وقد رافقه تجريب عملي ومنه (أيها العالم الغريب وداعاً) الذي قدمته في بغداد 1989 في قصر السنك وعلى ضفاف دجلة مستفيداً من روح الإسطورة والتصوف العربي وإلى طبيعة الفضاء العضوي الحي من تعازي عاشوراء وبالحروفية في الفن التشكيلي الإسلامي، وقمت بمحاولة إخراجية أخرى لعرض (احتفال النار) في السليمانية مستفيداً من الأساطير الكردية.

بالإضافة إلى ما ذكرته من إصدار (الطقس المسرحي المعاصر) لك إصدار آخر بعنوان الحياة تبدأ غداً وهو مجموعة نصوص مسرحية قدمت واحداً منها على صالة مسرح القباني وهي مسرحية (دائماً وأبداً) السؤال: كيف ينظر المهدي إلى مسألة النص العربي (الفارغ) كما يطلق عليه البعض: مقايسة بالنصوص العالمية التي يتجه إليها الغالبية من المخرجين العرب؟

لا أختلف كثيراً مع من يقولون بفراغ النص العربي، ويمكنني القول بأن هذا الفراغ هو واحد من أهم وأكبر مشاكل المسرح العربي القديم والمعاصر كما هو معروف فإن كافة المناهج وهياكل نظم الحياة والحكم السياسية منها الثقافية والاقتصادية وفي غالبية البلدان العربية قد ظلت إلى يومنا هذا عاجزة عن لعب دورها، لأسباب واضحة، أولاً لأن السلطة السياسية لا تريد أن تلعب وبحرية دورها بعيداً عن ديكتاتورية الحكم، ومن جهة ثانية لم تلتحم هذه المؤسسات مع المجتمع لكونها غريبة عنه بسبب من استيراد هذه البلدان لهذه الأنظمة والهياكل.وما حدث بعد ذلك: صراع سياسي (أيديولوجي) ما بين مؤسسات  السلطة ومعارضيها وأتخذ هذا الصراع وعلى طول الخط طابع الفعل ورد الفعل من السلطة باتجاه المعارضة وبالعكس. وقد سعى الطرفان نحو أدلجة خطابهما الثقافي وبما يخدم مصالحهما السياسية فكان نص السلطة يتغنى بأمجاد الماضي المجيد بينما الآخر يستخدم أمثلة من التراث للإحتجاج على ديكتاتورية السلطة وإعلان مظالمه المعاصرة باسقاط المشهد التاريخي على المشهد المعاصر، وبشكل تعسفي وقسري من الجانبين ولم يبعدا إلا ركام من النصوص الميتة والخطابية غير القابلة للتأويل والاستمرار تماماً مثل قصائد المناسبات الميتة، فتميزت نصوص تلك المرحلة بغياب الدراما بمعناها الموجود كما لن نجد شخصيات ذات طابع إنساني مجسم … فكانت هذه النصوص أشبه ما تكون عليه معالم التظاهرة الشعبية وفي التظاهرة يتسطح الإنسان وفق شعار المسيرة وهدفها مع روح الجماعية ضد العدو (السلطة أو الاستعمار) … كما يغيب الصراع بمعناه المتعدد ليحضر بشكل أحادي: الفرد، المجموع – ضد السلطة على غرار النص الإغريقي البدائي المجموع + الفرد = ضد الألهة.

هذا هو النص العربي الفارغ وهذا مصدر تجوفه، والذي بدأ الآن ينعتق منه، أما بالنسبة لاختيار النص فأنا أتقدم إلى النص بدون رؤيا وميول مسبقة بل أغيب تقنيتي وخبرتي وميولي المعرفية لصالح الإصغاء لروح النص أما بخصوص فضاء العرض فلا بد أن يكون النص مفجراً للكثير من الفضاءات الجمالية لصياغة عرض متميز وحاضن للنحت الحركي عبر جسد الممثل بشكل مغاير للمألوف والمستهلك التقليدي فهل نستطيع أن نعثر على هذه الميزات على سبيل المثال لا الحصر في أي نص سبعيني من نصوص الأدلجة أو التظاهرة …؟؟.

ما دمنا بصدد النص المسرحي ومشاكله، فهل هناك مبدأ ثابت يحول دون غربلة النص من قبل المخرج؟ أي … هل هناك ما يسمى بـ (النص المقدس)؟

كما أسلفت أنا أتقدم إلى النص بلا مسبقات ولكل نص مقترحات تمنحني نفسها بمجرد إصغائي لروحه، أما العمل على ترجمة النص أو العمل عليه برؤية مسبقة أو تهميشه وبحسب فهمي لا توجد علاقة ثابتة بين النص والمخرج إلا ما أسميه بفن الإصغاء الخلاق لروح النص، وأعتقد أن كل نص يقترح طبيعة عمل خاصة عليه وعلى الفضاء والممثل وصولاً إلى تأسيس علاقة خاصة مع المتلقي تنسجم وغاياته الجمالية والمعرفية.

تميل في إخراجك لأعمالك المسرحية لأساليب مختلفة … فكيف تفسر لنا ذلك؟  

بخصوص تجاربي المسرحية والتي وصلت إلى 18 عرضاً انطلق من إيماني بضرورة تعدد المقولة والتساؤلات وبالتالي تعدد الأساليب والمعالجات فأنا أتقدم إلى النص وأنا فاقد للذاكرة … لا أنوي ترجمته حرفياً ولا أجنح إلى تهميشه بقدر ما أسعى إلى الإصغاء الطموح لروح النص الذي سيعطي ثماره بمقترحات بصرية قد تتقاطع مع شكله الظاهري وتفتحه على فضاء مغاير لهذا كانت عروضي ومنذ بداياتي في العراق تتوزع في الصالات التقليدية وقاعات المعارض التشكيلية والطبيعية والبيوت الأثرية القديمة والملاعب والحارات الشعبية، في سورية تسنى لي تقديم –دائماً وأبداً – وهو من تأليفي وإخراجي وفيه صدق الثرثرة اليومية الملحة حول الثالوث المحرم وطموحات جيلنا بأسلوب المسخرة المسرحية وقد اعتمد العرض على أسلوب التكون والهدم والتكرار كبنية بصرية لصياغة العرض

وجاء دم شرقي – وفيه فتحنا ملفاً خطيراً للغاية حول ازدواجية المثقف العربي وعصر ما بعد الأيديولوجيا والتنامي الخطير للهويات الطائفية الصغيرة … وأخيراً كان عرض الكراهية الذي طمح لمناقشة مفهوم التسامح ودور الفرد في تغيير نفسه والمجتمع والقدرة على التواصل والتعايش.

 

حوار: إبراهيم الطاهر

عودة الى الرئيسية ماكتبته الصحافة
دير الملاك كتابة السيرة على الماء مواقع تحت الطبع نصوص خشنة الحياة تبدأ غداً الطقس المسرحي الآن مفتتح