المخرج المسرحي هادي المهدي:نلجأ إلى الفن لا لنؤكد قوانين الواقع بل لنغيرها

غاية العرض المسرحي الوصول إلى الشعر 

حاوره : ابراهيم الساعدي

صحيفة السفير - بيروت             

 

حول وظيفة المسرح ومشكلات النص المسرحي العربي  وعن الشعر ومدى حضوره في العرض المسرحي، وموضوعات أخرى، هذا الحوار.

في عملك (دم شرقي) نتعرف إلى خطاب ذي مناح سياسية، صريحة حينا ومبطنةً أحياناً، في مسرحية (الكراهية) يطالعنا خطاب عن عجز الذات أمام العام، ماذا عن هذا الانشغال، مرة بالمقولات السياسية وأخرى بمقولات الذات، وماذا عن وظيفة المسرح، كما يراها هادي المهدي؟  

-         المسرح بل الفن عموماً ليس واقعياً، ويخطئ من يقول إن الفن مرآة للواقع، الفن واقع آخر يوازي الواقع المادي ويشاكسه، ونحن نلجأ إلى الفن لا لنؤكد قوانين الواقع أو نفسرها بل لنغيرها، فهو لعب برئ قوامه المعرفة والجمال وهدفه الاحتجاج على الحياة نفسها، وهذا الاحتجاج قد يكون سياسياً مرة، أو ذاتياً وجدانياً، اجتماعياً أو روحانياً دينياً، أو اسطورياً. المهم بحسب اعتقادي أن يخرج المسرح عن الواقع وسطوحه ليخلق واقعاً آخر يخلخل هذا الواقع المادي ولكن بلا غايات أو أهداف أيديولوجية أو نفعية ما وإلا فإنه سيتحول إلى عمل سياسي محض، وأنا بطبيعتي أميل إلى تعدد الأسلوبية والمقولات من عرض لآخر لمقاومة التكرار. فلا أريد أن اسجن نفسي في مقولة أو تقنية ما.

-         ما ذكرته بأنك تميل إلى (تعدد الأسلوبية) لمسناه من خلال عرضك الأخير (الكراهية) مقارنة مع عرضيك السابقين. هنا لاحظنا انشغالك بما يمكن تسميته (بالتفصيل المشهدي) للإيحاء بتأثير هذه التفصيلات في عملية خلق فضاء العمل، هذا التوجه، هل يعد تجربة خاصة أملاها نص بيرغمان، أم هو ناشئ عن فهم جديد لجمل المسرحية؟   

-         الفنان هو من يخون هويته الفنية باستمرار عبر تطويرها تقنياً وفكرياً وربما الوصول إلى نفسها. ذلك أن الإبداع الفني  والأدبي ما هو إلا جنوح خارج الأطر العقلانية والطرق المجربة. وبالتالي فهو ابتكار الغائب/إمساك باللامتوقع، تأثيث الوجود بمسمى جديد، مسمى حاضر سيتحول عبر إدراكه إلى ماض. والعمل ينتقل بالنسبة لي من القدرة على (الإصغاء) الطموح الخلاق لروح النص وهذا الإصغاء بدوره سيجعل من النص منهجاً جمالياً ومعرفياً يلائمه هو وحده من دون غيره.

وفي (الكراهية) كان الإصغاء يتجه بهذا النص بعيداً عن مرجعيته الاسكندنافيه الباردة، ويقترب من شموس عالمنا الشرقي، وليلامس مفهوم التسامح والتعايش الذي يتعطش إليه مجتمعنا أحادي المزاج والذائقة والعقائد، بل وليناقش أهمية دور الفرد في تحمل مسؤولياته تجاه نفسه والمجتمع. كل ذلك أنتج أسلوبية معينة في التعامل مع العرض كصياغة بصرية، تستبطن خطاب العرض (فأنا أؤمن بتلاحم الخطاب البصري مع الخطاب المعرفي في العرض المسرحي وبشكل عضوي) وهذه الأسلوبية أعتقد أن تسميتها بالتفصيل المشهدي الذي حددتموه في سؤالكم هي تسمية دقيقة تخص بنية عرض (الكراهية) .

-         طالما نحن بصدد (النص وتأثيره) هناك تصريح للمخرج جواد الأسدي يقول فيه "كلنا يعرف أن واحدة من أهم مشكلات النص العربي هو النص الفارغ. لذا فالبحث في ماهية النص العربي، بعيداً عن المسرح العالمي، هو أمر في غاية الصعوبة … إن لم يكن ورطة بحد ذاته" ما هو تفسيرك لذلك. خصوصاً أنك أصدرت أخيراً (الحياة تبدأ غداً) . وهي مجموعة نصوص مسرحية قدمت واحداً منها على مسرح القباني؟.

-         جواد الأسدي، رجل خبير في مجال المسرح العربي والعالمي، وهو لا يقول ذلك جزافاً أو تهكماً. ولكن من أين يأتي النص العربي بهذا الفراغ والخواء الدرامي والبصري؟ هذا هو السؤال الخطير الذي يجدر بنا الإجابة عليه.

بعد حركة الإستقلال العربية عن الاستعمار تورطت البلدان المستقلة ولا سيما عواصم الثقافة العربية باستيراد مناهج وهياكل نظم الحياة والحكم، وقد ظلت هذه النظم مستوردة وإلى يومنا هذا، عاجزة عن لعب دورها لأسباب واضحة … وهكذا نشأ الصراع السياسي (الأيديولوجي) بعد فجر الاستقلال بين السلطة ومؤسساتها ومعارضتها على امتداد الوطن العربي، وهنا سيطرت الأيديولوجية على الخطاب الثقافي بل وجعلته بوقاً للسياسي والسلطوي والمعارض معاً، فمن جهة لم تعترف المؤسسة المسرحية الرسمية بحقيقة أن الفن المسرحي جهاز ثقافي مستورد. فحصرت بحثها في إيجاد هوية عربية منبثقة من التراث والتاريخ العربي لهذا الفن فكان نتاجها ترفياً غير ملتحم بحياة المجتمع، ولم يؤسس في النهاية إلا هاوية للنص والعرض معاً، ومن جهة أخرى عمل اليسار العربي – بوصفه المعارضة الأكثر شعبية في تلك العقود للسلطة القومية – على أدلجة الخطاب الأدبي بشكل عام والمسرحي خصوصاً باتجاه شعاراته، ومن منطلقات السلطة نفسها – أي استخدام المسرح انطلاقاً من الموروث للتعبير عن الشعار السياسي – بعد هذا كله جاءت قضية الصراع الإسرائيلي العربي فزادت الطين بلة فلكل حادثة سياسية وعسكرية كان هناك نص وعرض. وهنا أشير إلى اعتراف سعد الله ونوس المريض بكراهيته لإسرائيل كونها ضيعت الكثير من وقته وإبداعه في كتابة نصوص المواجهة والتعبئة وإذا عدنا إلى نصوص المراحل المذكورة أعلاه، فلن نجد دراما أولاً، بمعناها الوجودي، كما لن نجد إلا شخصيات مسطحة أحادية الجانب والمقولة من البداية وإلى النهاية (جلاد – ديكتاتور – انتهازي – وضحية – مناضل مسحوق) . وبشكل نهائي يغيب البحث في كنه الإنسان وفلسفته وطباعه وخلجاته وقلقه، التي هي جوهر وهدف الدراما النهائي. أما بالنسبة للورشة المسرحية، فيمكن أن أشير هنا إلى محددات ثلاثة وهي: 

فكرة النص وقدرتها على ملامسة وجعي، والكائن البشري الذي أعيش معه وصولاً إلى الإنسان العالمي، فالنص المحدد مكانياً وزمانياً يحطم بحثي ويكسر أجنحتي ويمنع تحليقي.

فضاء العرض. أن يكون النص قادراً على اقتراح الكثير من الفضاءات الجمالية لصياغة عرض مميز قابل للتشغيل والتعدد دلالياً على الصعيد المعرفي.

لغة النص اهتم وإلى حد بعيد بشاعرية النص، شاعرية ذات لغة عالية كـ (شكسبير) أو هذيانية مشاكسة كـ (هارولد بنتر) أو صوفية غرائبية كـ (بيكت) .

-         من هذا المحدد الثالث الذي ذكرته نود أن تحدثنا عن علاقة الشعر بالمسرح: الشعر بوصفه لغة كيف يمكن أن يتوجه حضوره داخل العمل المسرحي، كون الأخير يعتمد على الحركة والتشكيل للصور.

-         أعتقد أن غاية أي عرض مسرحي الوصول للشعر، شعر اللغة والجسد والعلاقات المادية والمعنوية داخل الفضاء المسرحي وصولاً إلى لذة التواصل بين الملتقي والعرض ولكن الشعر بوصفه لغة سيف ذو حدين، فهو قد يحول العرض المسرحي إلى منبر صوتي والممثلين إلى أبواق، ولذلك تغيب الصورة والفعل والتشكيل النحتي، وكما تعرف فإن المسرح هو فن بصري بالدرجة الأولى والكفة فيه تميل إلى التشكيل والحركة ونسج الأفعال، أكثر من الاهتمام باللغة وطرق الإلقاء. وأنا أعترف بأنني مأخوذ بالشعر أكثر من النص المسرحي، أعتبر الشعر محرضي الأول لابتكار الصورة المسرحية والشعر المسرحي قائم على فهم متقدم لعلاقة النحت الجسدي بفضاء العرض، علاقة الجسد باللون والخط والكتلة والمساحة، أو هو تأسيس مجازي لهذه العلاقات (بين عناصر السينوغرافيا) بعيداً عن المفهوم الواقعي القائم على الوظائفية والغائية. وأنا أسعى لتأسيس شاعرية تلق لا تقوم على أساس الصدمة والدهشة، بالقدر الذي تعتمد فيه على التحريض نحو إعادة تركيب الحياة وتشكيلها، أي خلخلة قوانين الواقع بشعرية الصورة. وأذكر هنا بأن لي تجارب عديدة على مسرح النص الشعري، فعرضت (تحولات) عن (مزامير) أدونيس في مجموعة (أغاني مهيار الدمشقي) ولي عروض مأخوذة من قصائد السياب ومنها (حفار القبور – المومس العمياء – البنت الضائعة) وأخرى من قصائد أمل دنقل (مقتل القمر) و رامبو (المركب السكران وفصل في الجحيم) وقريباً سأبدأ العمل على (كلكامش  … على سبيل المثال) للشاعر أحمد عبد الحسين، وهو مزيج من الدراما والشعر.

-         مجموعة كبيرة من الفنانين العراقين موزعين الآن في المنافي، فكيف ينظر هادي المهدي إلى أثر المنفى في المسرح العراقي واتجاهاته؟  

-         المسرح العراقي في الخارج هو المسرح المستحيل، ذلك أن المسرح يعتمد على التواصل الحي الطازج مع الملتقي وفي الداخل يمكن تحقيق ذلك بسهولة، لاشتراك المبدع والمتلقي بجذور ثقافية واحدة بينما يتعامل المسرحي في الخارج مع كوادر لا توجد معها لغة اتصال ثقافية وهذا ما يكلفه عناء لا يعانيه في الداخل، والأخطر من ذلك، فإنه يتعامل مع جمهور لم يحزره من قبل، كم بشري هائل لا تربطه به أواصر ثقافية قديمة راسخة، وهنا يكون النجاح والتفوق أعمق بكثير من النجاح في الداخل.

-         ما تقوله يتفق تماماً وطرح المخرج المسرحي العراقي د. عوني كرومي، حينما قال: "لا يوجد مسرح عراقي منفي … المسرح العراقي هو المسرح الموجود داخل العراق" … لكن ألا تجد في هذا إجحافاً كبيراً لما يقدمه المسرحيون العراقيون من نتاجات مسرحية في المنفى؟ وإذا تماشينا وطرحكما هذا فلأي مرجعية يصنف ما يقدمه المسرحيون العراقيون في الخارج؟  

-         المسرح العراقي هو مسرح واحد، تختلف منصاته ويختلف متلقوه وظروف إنتاجه، إلا أن مرجعيته الإبداعية واحدة. إن عراقية المسرح تكمن في (حس الاتجاه) بتناول المادة النصية وأنظمة العلاقات البصرية داخل الفضاء المسرحي، وتأسيس لإستراتيجية تلقي خاصة واعتقد أن أي متابع يعلم بإنجازات المبدعين المسرحيين العراقيين في المنفى، بالإضافة إلى إبداعهم على صعيد الأدب و الفن التشكيلي والموسيقى والإعمار.

أعود وأقول إن المسرح العراقي هو في الخارج والداخل، بل أميل إلى القول إن المسرح العراقي بهويته الحقيقية لا يوجد الآن في الداخل وذلك بسبب قهر السلطة والحصار للمبدع. بينما ساهمت الحرية وتبني المؤسسات المسرحية في الخارج بانتعاش التجربة المسرحية العراقية في الدول العربية والأوروبية وهناك الكثير من الشواهد.

 

عودة الى الرئيسية ماكتبته الصحافة
دير الملاك كتابة السيرة على الماء مواقع تحت الطبع نصوص خشنة الحياة تبدأ غداً الطقس المسرحي الآن مفتتح