المخرج العراقي هادي المهدي : نحن مخلوقات لها تراث ولسنا كائنات تراثية.

مسرح السبعينات أنتج ديكتاتورية التخلف وعمم سلطة القطيع.

 

حاورته : منى العاصي

صحيفة الكفاح العربي بيروت بتاريخ 21\ 12 \1998

 

يسجل المخرج المسرحي العراقي هادي المهدي أن المسرح يتنفس برئتين: الممثل والمتلقي ويأخذ على بعض المسرحيين تعاملهم مع المشاهد بشكل تعسفي على طريقة السياسي، ملاحظاً أن العرب يعانون أزمتين، أزمة على صعيد السلطة وهي مكشوفة ومعروفة، وأزمة ديكتاتورية التخلف أو سلطة القطيع، التي تحاول بكل صلف أن تهيمن على الثقافي وتحد من حريته، موضحاً أن السلطات العربية هي التي تمنح الفنان هامشاً من الحرية، معتبراً أن النص السبعيني هو نص ميت كونه نصاً قطيعياً، يغيب الجوهر الوجودي لمصلحة الإيديولوجيا والشعارات المحلية، معلناً أن الدعوات إلى البحث عن هوية للمسرح العربي هي دعوات زائفة، وهي في الحقيقة بحث عن هاوية للمسرح العربي، مشيراً إلى أن المكبوت السياسي العربي يوازي الكبت الجنسي ويفوقه، معيباً على بعض المسرحيين العرب إستفادتهم من هذا المكبوت والمتاجرة به، جاعلين من مسرحهم أشبه بكباريه سياسي يتم فيه التنفيس عن كوابت المشاهد.

-         من الملاحظ أن جميع أعمالك تكرسها للمسرح، لماذا هذا الغياب عن التلفزيون والسينما؟

اعتقد أن المسرح هو المكان الحميمي الوحيد في العالم المعاصر، الذي يذكرنا بالمعبد، فيه يستطيع الإنسان محاورة وجوده بشكل حقيقي، وهو المكان الوحيد الذي يستطيع أن يعبر فيه الإنسان عن الحقائق الجوهرية. ذلك أنه يتخذ شكلاً من أشكال الديانات، كونه يتصدى للظاهرة البشرية ويعنى بالطبائع الإنسانية بشكل ساخن وطازج، ولكنني لا أنكر أنني أميل إلى السينما أيضاً وهي مشروعي المقبل بالتأكيد، أما على صعيد التلفزيون فهو الآلة التي لايمكنها إلا أن تكون بوقاً للسلطة أو الجهة المالكة لها وأتفق مع سعد الله ونوس بوصفه للتلفزيون بأنه (قناة للتفاهة المعلبة) .

التلفزيون وسيلة خطرة لتفريغ الإنسان من محتواه الثقافي والفكري، وذلك أنه يستلبه طوال الوقت من خلال برامج التسلية والترفيه الرخيصة، ومن خلال لعبة التماهي الخطرة بين ما يحدث على الشاشة وبين ذات الملتقى المستلبة والمستسلمة لدعابات التلفزيون المهلكة. وباعتقادي أن جوهر المشكلة بين المسرح والسينما من جهة، والتلفزيون من جهة ثانية هو أن المشاهد يذهب إلى المسرح والسينما، ويدفع لكي يتثقف بما يريد هو و بالتالي لكي يناقش وجوده ويتحاور مع المبدع بشكل جمالي ومعرفي متقدم، أما التلفزيون فيأتي بكل رخص وبساطة ليعرض سمومه وأمراضه وبلا مقابل، لذلك نجد أن الثقافة التي نذهب إليها بالضرورة هي الثقافة الفاعلة، وهي غير الرسمية دائماً. أما الثقافة التي تأتي إلينا فهي ثقافة سلطة ومؤسسة لها أهدافها. وبالتالي أمراضها.

- هنالك من يقول أن المسرح هو المكان الحقيقي الذي يكشف عن إمكانات الممثل، كيف ترى إلى هذا الموضوع؟

- أعتقد أن المسرح يتنفس برئتين هما الممثل والمتلقي، فمن جهة اؤمن أن الممثل كائن منتج للمعرفة والجمال، والمتلقي هو شريك منتج وفاعل في العمل المسرحي يعيد تشكيل العرض بحسب ذائفته ووعيه، والمسرح الذي يعتمد على تقديم مقولات جاهزة على طريقة الصيدلاني يغيب دور الملتقى ويهمشه، وهنالك العديد من المسارح التي تعامل المشاهد بشكل تعسفي على طريقة السياسي، تخاطب المشاهد بوصفات جاهزة وكأنه غير قادر على إنتاج المعرفة، المسرح الحقيقي باعتقادي يقدم أسئلة والمشاهد يعيد انتاج هذه الأسئلة وأجوبتها: ولكن أين هو المخرج والمؤلف من هذه اللعبة. المؤلف هو الخالق الأول على الصعيد المعرفي ولكنه بدأ يغيب في المسرح المعاصر، ذلك أن المخرج ابتلع الأدوار كلها باستثناء دور الممثل، فأصبح هو الكاتب أو السيناريست والسينوغرافي للعروض المسرحية، ذلك أنه المنظم والمدبر الأساسي للقاء الإبداعي بين الممثل والملتقي، ومن دون المخرج يفقد العرض خصوصيته، يفقد النظام، نظام بث الرموز والدلالات وتحديد الغايات والأهداف. وعلى حد قول شوبنهاور فإن المخرج بالنسبة للعمل الفني هو مثل الله بالنسبة للكون، فهو موجود في كل مكان من دون أن يكون مرئياً في أي مكان.

لذلك يختفي المخرج ليحضر الممثل. وأنا أعتقد أن على المخرج أن يموت حباً في الممثل ليحضر من خلاله في حوار ساخن مع المتلقي.

من الملاحظ أن المسرح العربي يعاني أزمة النص. فكيف تنظر إلى هذه الأزمة وأسبابها؟

الثقافة بشكل عام والمسرح هو جزء منها (بالطبع) لايمكن أن تتطور إلا بوجود حرية حقيقية، وما نعانيه نحن العرب أزمتان على وجه التحديد، أزمة على صعيد السلطة وهي مكشوفة ومعروفة لا أريد الخوض فيها ولكنني أريد أن أسلط الضوء على ديكتاتورية من نوع آخر هي ديكتاتورية التخلف أو سلطة القطيع التي تحاول بكل صلف أن تهيمن على الثقافي وتحد من حريته، وأنا أعتقد أن تنامي سلطة التخلف هي نتيجة حتمية لتلك المقولات التي كانت سائدة في العقود الثلاثة السابقة كمقولة الجماهير وسلطة الشعب وديكتاتورية البروليتاريا. أنا لست ضد الجماهير ولكن علينا أن نعترف بأن التاريخ هو من صنع أبطال فرديين استطاعوا أن يتحولوا إلى موج وصدى وليس العكس، فالقطيع الذي يجب أن نرتقي به يحاول الآن أن يفرض هيمنته علينا ويحط من إبداعنا باسم الرأي العام والأخلاق العامة والكبرياء الشعبي، الخ …

أعتقد أن السلطات العربية تمنح الفنان هامشاً من الحرية، وهذا الهامش تحاول الآن ديكتاتورية التخلف الإجتماعي أن تقضي عليه: ومن هنا تنبع أزمة النص يمكن للكاتب أن يقول ما يعتقده حقيقياً وساخناً في الوقت التي تفرض فيه السلطة السياسية هيمنتها، والقطيع ينهش آخر هوامشه التي يمكنه اللعب من خلالها، ولهذه الأسباب أعتقد أن النص السبعيني هو نص ميت كونه نصاً قطيعياً، نصاً تظاهرياً يغيب الجوهر الإنساني الوجودي لمصلحة الإيديولوجيا والشعارات المرحلية، لذلك ماتت المكتبة المسرحية العربية السبعينية.

الآن أعتقد أن المسرح بدأ يكتب نصوصه على الخشبة، نصوصاً تحاور الجوهر وتلمس العمق، ذلك أنها تنمو داخل الورشة المسرحية بعيداً عن المكاتب والغرف الرطبة، فانظري إلى تجارب المسرح في تونس وسوريا ولبنان والعراق؟

هل تعني أن الإنتاج الخاص هو الحل بالنسبة لأزمة المسرح بعيداً عن مسرح المؤسسة الرسمية؟

-         الإنتاج الخاص الآن في البلدان العربية يمثل قمة الإنتاج المسرحي، ففي الوقت الذي فشلت فيه المسارح الرسمية بتأسيس هوية لمسرحنا استطاعت تجارب القطاع الخاص في تونس ولبنان على وجه الخصوص إيجاد ملامح رصينة لمسرح يمثل وجودنا الإنساني وبالتالي السياسي والاجتماعي والاقتصادي وبعيداً عن الغائية الرسمية.

هل تعتقد أنه أصبح لدينا هوية خاصة بالمسرح العربي؟

- أنا مؤمن بأن دعوات ما يسمى بالبحث عن هوية المسرح العربي، هي دعوة زائفة وهي في الحقيقة بحث عن هاوية للمسرح العربي، فالمسرح كجهاز ثقافي هو في المحصلة مستورد ولكن ليس هذا هو المهم، المهم ما يمكن قوله وتشكيله داخل هذا الجهاز، وأعتقد أن الرواد بذلوا جهوداً مهمة على صعيد نقله، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر على صعيد ترسيخه داخل حياة المجتمع العربي، ذلك أنهم استوردوه شكلاً ومضموناً، وأنا أعتقد أن مشكلة المسرح العربي الحقيقية هي مشكلة غياب إنتاج المفاهيم، ذلك أن مسرحنا بحاجة ماسة إلى مفاهيم خاصة في طرق الكتابة والأداء والإخراج وطبيعة صوغ السينوغرافيا وفق محددات معرفية ليس بالضرورة أن تكون صادرة عن التراث والفلكلور، بل من اللحظة علينا أن نميز أننا كائنات لها تراث، ولسنا كائنات تراثية، وأن التراث فيه الكثير من حالة الموت و السبات، و فيه ما يمكن أن يستمر و يعيش ليعاصر أوجاعنا الراهنة كذلك هناك التلاقح الحضاري شرط عدم النظر إلى المنجز الأوروبي بدونية وإعجاب إلى حد الاغتراب عن الذات واللحظة العربية الراهنة.

إن عملية إنتاج المفاهيم الجمالية والمعرفية باعتقادي هي الحل الوحيد لأزمة هوية المسرح العربي.

-         أراك ناقماً على المشروع السياسي العربي مع إنه يشكل الحيز الأكبر من النتاج المسرحي العربي طوال العقود الثلاثة الماضية وحتى الآن؟

نعم هذا صحيح. أنا أعتقد أننا أمة ابتليت بالسياسة  وهناك مكبوت سياسي يوازي أحياناً المكبوت الجنسي ويفوقه، وللأسف فإن بعض المسرحيين العرب استفادوا من هذا المكبوت ليتاجروا به وليحولوا أنفسهم إلى أبطال من صفيح، ذلك أنهم انتفعوا من تواطئهم مع السلطات التي قدمت لهم الحماية واستفادت منهم كأداة تنفيذ وتنفيس من الضغط التعسفي السياسي الذي تمارسه، وهذه التجارب لم تكن إلا (كاباريه) سياسياً يتم فيه التنفيس عن كوابت المشاهد، تماماً مثلما يحدث في علب الليل الجنسية وذلك لتفريغ شحنة الغضب وتسطيح وعي المشاهد، ذلك أن هذه التجارب كانت تنتهي جميعها بالغناء الوطني وتمجيد العلم وحماية الأفذاذ ممثلين بالسلطة.

أما على الصعيد الجمالي وبصراحة فإن مسرح التسيس لم يقدم أي صوغ بصري مهم من المشرق إلى المغرب، وبذلك خلف لنا ركاماً من الخطابات الغوية الفجة ونجوم شوارع لا يختلفون كثيراً عن نجوم الغناء والطرب الشعبي، إلى جانب ذلك خلفوا لنا جثة ومسرحاً ميتاً لا يمكن بعثه إلا من خلال تفجيره وإعادة خلقه من جديد بعيداً عن لعبة السياسة، وذلك من خلال ملامسة كنه الإنسان العربي وكوامنه الدفينة وبالتالي إبتكار صيغ جمالية ترتقي به على عطش المشهد اليومي وبؤسه.

تجربتك المسرحية الأخيرة (دم شرقي) كيف تنظر إليها من خلال مشروعك المسرحي؟

- أنا لا اؤمن بالأسلوبية على صعيد التقنية فأنا معني أولاً وأخيراً بالتجريب المسرحي، لتنويع علاقة المشاهد الشريك باللعبة المسرحية. قدمت سابقاً عروضاً مأخوذة عن نصوص محلية وعالمية  مؤلفة من قبلي أو من قبل بعض الأصدقاء، أو معدة عن نصوص عالمية قدمتها بأساليب وتقنيات مختلفة. فعلى صعيد المكان قدمت عرضاً على نهر دجلة في بغداد وآخر في إحدى القصور الأثرية، وثالثاً في المسرح الدائري، وآخر في ملعب كرة السلة والحارات الشعبية وأقبية البنايات. أما على صعيد التقنية فقدمت عروضاً تخلوا من الموسيقى وأخرى من الإضاءة المتغيرة، إضافة إلى عرض أجلست فيه المشاهدين على المنصة، وقد جربت اشكالاً عديدة منها إلغاء الحكاية كونها إحدى أعمدة البنية المسرحية في عرض (التحولات) المأخوذ عن قصائد لأدونيس. وفي تجربة أخرى أعتمدت على لعبة الكلمات المتقاطعة أو ما يسمى بلغة الطرشان … الخ.

أما في عرض (دم شرقي) فقد تصديت لأول مرة للمونودراما، فبالقدر الذي أعتبر فيه المونودراما أسوأ نموذج درامي كانت فرصة لي لاثبات عجز المخرجين العرب عن التصدي لهذا النموذج، ذلك أن جميع التجارب التي شاهدتها في المغرب والعراق ومصر وسوريا ولبنان كانت تنصرف إلى تجسيد موهبة الممثل على صعيد جهازه الصوتي وطاقته الوجدانية فحسب و تغييب عناصر الصنعة المسرحية كافة، ولذلك كانت (دم شرقي) هبة بالنسبة لي لإثبات طاقتي المضطردة الدافعة للخطاب اللغوي والزخرفة وبإضاءة ذات طابع سينمائي إضافة إلى الكشف عن إمكانية الممثلة (ميديا رؤوف) والتي تمتاز بصوت وجسد وحس وجداني مميز، وأعترف أنها حققت لي رؤياي بشكل يفوق تجاربي الأخرى مع الممثلين.

في (دم شرقي) كنت أردد أنني أريد أن أصنع مكواة لشي الجسد والعقل العربي، كنت أستنـزف طاقتي لبناء سلسلة من الأفعال أطولها لا يتجاوز نصف دقيقة للاحتيال على المونودراما وإيصال خطاب العرض بكثافة شعرية قوامها الضوء والموسيقى والحركة، ذلك أن النص يتعرض لمشكلة تقف على السطح ولا يمكن الالتفاف عليها بأساليب الرموز والتلميح والمجاز تلك هي مشكلة الهويات الصغيرة المتنامية (الطوائف) وكذلك الهزيمة غير المعترف بها رسمياً، ألا وهي إنكسار المثقف المؤدلج ما بعد البيروسترويكا وبالتالي ازدواجية الرجل الشرقي على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي. المسرحية وإن كانت تروى على لسان امرأة إلا أنها سيرة رجل أكتشف فجأة أنه في كارثة صنعتها هزيمة المثقف التي أدت إلى تنامي صراع الطوائف بشكله الدموي الذي نراه الآن صراعاً يشدنا إلى الوراء ويخرب آخر أحلامنا. تلك هي باختصار معادلة (دم شرقي) التي حملتها طويلاً توجعت بها كثيراً حتى تسنى لي أن أضعها على المسرح.

 

عودة الى الرئيسية ماكتبته الصحافة
دير الملاك كتابة السيرة على الماء مواقع تحت الطبع نصوص خشنة الحياة تبدأ غداً الطقس المسرحي الآن مفتتح