رثاء الظــــل

 

إنكساراته حين هوى نجمه

يتبعه صعوده إلى أفق محال

 

  الاهداء : إلى ميديا ... جنتي وقنديلي

 

مقترح لفضاء العرض

 المسرح يقسم إلى ثلاث مستويات أو أجزاء / ويفضل أن يكون بشكل الجلسة العربية حيث يجلس الجمهور من الجهتين/الجزء الأول المقهى/ الوسط غرفة الدكتور/ الثالث فضاء الهاجس/ أو حسب رؤية المخرج

 

النفس الأول

(بقعة ضوء / غرفة الدكتور/ الظــــل مدد على سرير الفحص/ الدكتور عند رأسه)

الدكتور  : وهذا مساء أخر ... وحلمك أيتها الروح الوديعة يستطيل وينشطر... من أين نبدأ ؟

الظــــل  : من أين سنبدأ وأنا أدور... تدور بي الأبواب... حكاية ملؤها أبواب تحملني رؤى وأحلامٌ جديدة تثـقلني ولا أنكسر ..أدور وأتبع خطوتي التالية ... وأستمر بالدوران.

الدكتور : حاول من جديد ... كي أساعدك ... حاول شرح التفاصيل... حاول الآن اغف...

الظــــل  : غفوت دهراً فتحجرت .

الدكتور  : أصح إذن .

الظــــل  : صحوت فتوجوني بالجنون.

الدكتور  : من هم ؟

الظــــل  : كلهم ..

الدكتور  : من هم ؟

الظــــل  : لايهم.

الدكتور  : بل يهمني أن أعرفهم.

الظــــل  : الوجوه الغريبة.

الدكتور  : أكمل ... تابع.

الظــــل  : كنـت صبيـــاً لاشــيء يؤلمنــي ســوى رفســات الآخرين... فصرخت ..لكن صراخي كان همساً ومزق آذانهم رغم ذلك... وبعدها أصبحت شاباً... لست مطيعاً كما يدعون فرميت وراء البيت والجيران وحكايا العجائز الشتائيه كنت أحمل في داخلي قديساً أوشاعراً وأحلم أن أكونهما ... لكن ذلك كان محالاً ... فتلبسني القلق الدائم فالتجأت إلى العزلة ..

الدكتور  : ولِمَ لم تكن مطيعاً كما يدعون؟

الظــــل  : هكذا جعلني القلق ... أسمي الأشياء كما أريد ... كنت أتساءل لم لا تنثني ساقي عن التقدم ولم لا أكون كالسلحفاة بطيئاً ... ولكن الآتي كان يلوح لي أن أتجه إليه... وعندما كنت أصل إليه يبتدأ بالتلاشي.

الدكتور  : وبعد... وبعد ؟

الظــــل  : ودامت عزلتي عشرين عاماً... عقدت لساني... بعدها مددت أصابعي النحيلة أتلمسني فلم أجدني ... هربت إلى الشارع ... إليهم ثانية فكان الـ...

(يصمت)

الدكتور  : ماذا كان ؟

الظــــل  : الطوفان ... راح يخنقني باسم المودة والحب والشفقة... خذ مثلاً في المقهى عشنا الدائم... كنا نتدأول فيه دائماً ... لكنهم...

الدكتور  : لكنهم ماذا ؟

( تتحول الإضاءة إلى الجزء الآخر / في المقهى أشخاص يحملون كتباً ضخمة بشكل كريكاتوري ويجلسون بأوضاع غريبة)

الأول    : أريد أن أقول...

الثاني   : نعم من ؟

الثالث   : لماذا صحيح ؟ أوه هيمو ..

الرابع   : هلو ... أوه ... هيه ... عشره ..

الأول    : كو ... هيها ... هام

الثالث   : أحياناً.

الثاني   : بل في كل الأحيان .

 (يتحول المشهد إلى غرفة الدكتور)

الدكتور  :   هذا مفزع ... حقاً...

الظــــل  : هربت بعيـــداً ..متهمـــاً بالســطحية واللاهوتية معاً      (يضحك) ... أخيراً سلخت عن جلدي كل الألفاظ الكتبية.

الدكتور  : وماذا بعد؟  أكمل.

الظــــل  : أصبحت منبوذاً وبعيداً جداً عن عيون النساء... وديعاً يفـزعني صراخهم...

أصوات  :  معتوه ... ساذج ... بائس ... سطحي ..

الظــــل : (يصرخ) هذا أنا ... أبكي ... أضحك ... أرقص... وأجن ... أعشق ..أقفز وأتدحرج... متأمل ... وصوفي في بعض الأحيان ... هذا أنا... هذا أنا كل الأضداد تجتمع في لتخنقني لكنها تمد لسانها بوجوهكم ... هيه ... (يهدأ) هكذا صرخت بهم فرموني بحجارة السخرية ولكني ... أنا هكذا... صدقوني... صدقني ...

الدكتور : من أنت ؟

الظـــل  : بعد هذا كله... كذلك من أيقظتني من سباتي ... لا تعرفني... أمي لا تعرفني مثلك تماماً، تعجب...

( تتحول الإضاءة إلى الجزء السابق وقد أصبح له شكل بيت بسيط وتجريدي)

الأم     : بني، صغيري... كفاك هلوسة ... تعال إلي ... عصفوري ترجل...

الظــــل : ماما... أماه أنا لست من تصرخين به... أنا الفرق بين الأصابع وكفها... أنا الفرق بين الشروق والغروب.

الأم     : هل جننت ؟

الظــــل : كذلك تتهميني... أنا ضجر هل فهمت ضجر... منهم ومنك... أماه لم كنت البحيرة وأنا السمكة المقيدة... لم تكوني الجاذبية وفي ظهري ألف جناح.

الأم     : ولدي... تعال إلي... رحماك... هل جننت... تعال..

( تعود الإضاءة إلى غرفة الدكتور)

الدكتور  : وبعد أكمل ؟

الظــــل  : حاولت أن أكون معهم... صدقني لكني فشلت... بقيت أبتعد وأدور... أفتح أبوابي وأدور... من باب لآخر... ومن فكرة لأخرى... كنت أعشق وقتها ومن خجلي كنت أخبىء قلبي بالقمصان... وفي قلبي كنت أخبىء معشوقتي... كنت أحملها... وأحلمها... فالتقينا أخيراً.

الدكتور  : متى ؟

الظـــل   : عندما أمعنت بعيداً في الدوران.

الدكتور : ومن تكون ؟

الظــــل : نخلة أو رياح... شيء يشبه ماء العين... أو دعني أسميها العاطفة.

الدكتور  : وكم مرة التقيتها؟

الظــــل  : كنت أحملها وأحلم بها... كانت تحلم بي أيضاً.

الدكتور  : تحدث... أريد تفاصيل اللقاء.

الظــــل  : بأية وسيلة أصفها لك... هي ماء العين... هي العاطفة... بأية وسيلة أشرحها...

الدكتور  : بكل الوسائل حأول... تذكر ... نم... تذكر...

(يتحول المشهد إلى المنطقة الثالثة)

 

(موسيقى ناعمة / فضاء حلم)

 

الظــــل  : كنت أحلم وفي الحلم أسير... أروي لكل الشوارع التي نبذتني ولكل الوجوه التي توعدتني... أروي لها حلمي... كانت هي هناك، في قلبي... في قلب السماء... كانت نجمة المساء...   أو عشب وماء... للريح تصغي... فصرخت حينها بكل أيامي وهواجسي... يا أنت... يا قاسية يامن كنت إذا أضناني الشوق أبل عيوني بطهرك الناصع... وأعلق جسدي كل صباح على شرفتك الوردية مهموماً متعباً أرهقني إخوتي... الشارع والمقهى أرهقه أنا... تعالي... تعالي إلي فقد تعبت هل تسمعين أنيني.؟

الهاجس: من أنت أيها الناحل ؟

الظــــل : أنا المباح... رجموني فطارت روحي بعيداً.

الهاجس: ولِم أنت مرتبك هكذا ؟

الظــــل : كيف أبرهن لك أني انتظرتك منذ الولادة .

الهاجس: وهل تخدعني إذا صدقت ؟

الظــــل : وهل في قدرتي أن أخدع العاطفة ؟

الهاجس: هل تتبعني في المغامرة ؟

الظــــل : اختيــاراتي مخيفة وعيوني ثاقبة، سأتبعك، لقــد تساقط مني الآخرون ... لذلك سأتبعك ... وأنا سعيد لكوني ... أتبعك سعيدا بهذا كله .

الهاجس: اخترت أخيراً ؟

الظــــل : تشبهين السماء حين أكون طائراً ... تشبهين الروح حين أكون غريباً.

الهاجس: هل أرحل الآن ؟

الظــــل : وماذا قلنا بعد.

الهاجس: كل شيء.

الظــــل : يا ... ياأنت

الهاجس: نادني باسمي.

الظــــل : أيتها العاطفة لم ترحلين سريعاً وقد بحثت عنك طويلاً؟

الهاجس: أعلم... وكنت تسميني روحك.

الظــــل : روحي الغائبة الحاضرة ... لاترحلي إن الرياح قد تلتقي .

الهاجس: في كل وقت.

الظــــل : لاترحلي قولي شيئاً .

الهاجس: أحبك...

الظــــل : تقمصيني أو اقتليني كي لاأنسى.

الهاجس: ( تغني وهي تختفي) أنا خمسة صلبان ... أنا خمسة أطواق... أنا لاأنسى أنا ينساني النسيان.

(يتحول المشهد بطيئاً إلى غرفة الدكتور)

الظــــل : هكذا أخبرتني لم تكن حاضرة ... لم أكن غائباً... كنت أقتحمها وألتحم بها فاختفت بين ضلوعي وتسامت في شراييني.

الدكتور : وماذا بعد ؟

الظــــل : أطلقت روحي في الريح ... كنت أخبؤها في صدري وعشر عصافير ملونة تقتات على صدري وبقايا الرئتين... عدت مبتسماً لكل الوجوه التي وشمتني بالجنون ... ولكن الهول أطل...

الدكتور : الهول ... أي هول ؟

الظــــل : استلو الحلم مني وقالوا ... لم هجرتنا ... تعال وعاشرنا ... لم يسمعوا مني ولم يسمعوني شيئاً ... من يتكلم لايسمع غيره... ومن يصمت يغلق أذنيه ... لكنهم سرقوا الحلم فشوهوني

الدكتور : حدثني بالتفصيل ؟ (يتحول المشهد)

(يضاء الجزء الأول /موسيقى هستيرية /الأقزام الثلاثة يهجمون عليه /يمزقون أشلاءه يسقط هو في إعياء تام)

الظــــل : أيتها الكينونة الصغيرة ... ياأشد القساة ... تعالي الآن يتسع لكل الفصول.

الهاجس: وهل عذبوك لأجلي ؟

الظــــل : إني أحبك... لايهم ... هل تخونيني ؟

الهاجس: حين تأتي إلي بلا قلب.

الظــــل : حينها يتجسد الموت في جسدي ؟ أني أموت ؟

الهاجس: وهل أخلع لك قلبي ... أنا مسحوره

الظــــل : تعــالي إذن... لـم تهجريني... مـــرري أصابعك الثلجية على جسدي دعيني أرتدي وجه الحياة.

الهاجس: ( تغنـــي وتختفي) أنـــا خمســة صلبان... أنــا خمسة أطواق...

الظــــل : تشبهين الضجر الذي يجعل من الفوضى نظاماً صارماً ... تشبهين الشوارع حين أكون ضائعاً ... هل أنت بعيده ..

الهاجس: على بعد إغفاءه من الحلم ... أنا لاأنسى ينساني النسيان...             

( تحول إلى غرفة الدكتور)

الظــــل  : كنت ألتصق بالحلم التصاقاً ... أعلن لها يأسي... وللأخرين حضوري

صوتها  : هو الحب إذن ؟

الدكتور : حاول معي الآن ... نحن في صلب القضية ... هل كان حلماً... هل كان وهماً.

الظــــل : أنت الآخر!؟

الدكتور : هم يسخرون... أما أنا...

الظـــل : (يقاطعه) لا أدري ما هي... كنت متلبساً كل تفاصيلها وطقوسها... كانت في جسدي... تشعل الحريق لتستقبل الربيع وترقص... كانت عصافيرها لاتهجرني... بينما لم تسعفهم كل علاجاتهم... ووصاياهم فراحوا يقولون...

أصوات : مجنون... مسحور... أبله...

الظــــل : صدموني بالكهرباء !

الدكتور : كان القصد منه العلاج

الظـــل : قتلتني مودتهم... تيبست الشفتان... جحظت العينان... شاب الرأس ... كان وجه الرصيف يشبهني... كأنني الخريف نفسه، متمايلاً كأغصان شجر الرمان في أخر موسمه...

الدكتور : ألم تشاهدها ثانية... لم يحدث أن صادفتها...

الظــــل : بل مازلت... أحلمها...

(يتحول المشهد / فضاء مساحة الحلم)

الظـــل : أيتها العاطفة... تشبهين بقايا دمي... صفرة وجهي حين تمطر عليه الأسئلة... تشبهين الذاكرة.

الهاجس: أنا قادرة على الحب فهل تصمد؟

الظــــل : وهل أنت المدينة ؟

الهاجس: أنا العاطفة.

الظــــل : أنى لي بصوت الجهات الأربعة لأصرخ ... أنى لي بصوت زلزله لأصرخ إني أحبك... لكن لاترحلي أنا الذي سيرحل الآن .

الهاجس: لا ترحل الآن... فالنجوم على خطأ... والدب الأكبر قد يبدو دباً أصغر... والبوصلة في يد لا أثق بها... لاترحل...

الظــــل : ماذا أفعل ساعديني.

الهاجس: لقد نفد الحلم فابتدأ من جديد.

الظـــل  : من ضياعي... تعالي ضميني إليك... إني أتبعك...

الهاجس: انتهت صورتي... أنا خمسة صلبان... أنا خمسة أطواق...

 ( تختفي/يتحول المشهد إلى غرفة الدكتور)

الظـــل  : هـاهم يضحكون مني... يحتفلون بضياعي... إنني أسمع ضحكاتهم تلدغني... فكيف البداية من جديد... ياأنت... في شهقة الموت تطالبني بالجديد، هاهي النهاية تطرق الأبواب وتـفتحها وتدور بي... أيتها العاطفة كيف لي أن أستعيد هذا الموت من جديد...

الدكتور : كفى اصح من حلمك... اصح... من تكون تلك التي تتبعها في حلمك ؟

الظــــل : كذلك أسأل... أين تذهب الأحلام في الصحو هل تغادرني إلى رؤوس الآخرين... أم تتبدد في الصباح... إن غادرتني هواجسي سأسقط هشيماً.

الدكتور: سنبدأ مــن جــديد حــاول... مرة أخرى... بشكل آخر.

الظــــل : أعلم أن رحيلي قريب آه...

الهاجس: هل تخدعني إذا صدقتك؟

الظــــل :  إني أحبك فاقتليني ..

الهاجس: ( تغني ) وداعاً... وداعاً... أنا... خمسة صلبان، أنا خمسة أطواق...

الظــــل : سأنكسر... سأنكسر.

الهاجس: أنا خمسة صلبان... أنا خمسة أطواق ... أنا...

الدكتور: كفــى... افتحــوا الأضـواء... هـاهي الأبــواب تتوقف... تدور... ويدورمعها... لا تضجروا سادتي المتفرجين... سنخرج من الحلم ونمضي بعيداً ولكن بهدوء ... لاتوقظوه رجاءً... هيا لينصرف الجميع .

 

 

النفس الثاني:

 

( تتوقف الموسيقى/الظــــل مدد/ يخرج الممثلون من الكواليس)

الهاجس: ماذا ؟

الظــــل : انظروا هناك ... هنا...

الدكتور : أين في صدرك المليئ بالهواجس والأوهام ؟

الهاجس: إنه يرتجف من الهلع .

الظــــل : انظروا .

الدكتور : إلى أين ؟ إلى تلك النجمة الآفلة ؟

الظــــل : كلا هناك ... هنا...

الدكتور : إنه في ذهول مرعب .

الدكتور : إنك تهذي ... أي هنا وهناك ؟ أتهذي من جديد؟

الهاجس:  ياإلهي عيناه تبرق كمنار بحر .

الظــــل : هذا برق بوح الروح وليس عيوني المتسائله .

الهاجس: قلبه يزلزل مثل قلب الأرض

الظــــل : لاتتوهموا ... هذا انبثاق النور في روحي .

الدكتور : كل هذا خواء وهراء ... ماذا تريد ؟

الظــــل : الكلمة تخونني ، الإشارة تتعثر ... المعنى صعب ممتنع ... آه لكن المطر ..

الدكتور : وماذا يعني كل هذا ؟

الظــــل : إن تمطر يجن جنوني ... وأعود أعدو في سنيني... ماسحاً بخطواتي البريئة كل أخطائي... إنه مطر من وضوح من لغة ونجوم... يعافي الجسد ... مطر مخاض يلدني ثانية وإلى الأبد ..

الدكتور : ظل بائس يتبع وهما... لافائدة منه.

الهاجس: ظل مسكين... يصدق كذبه .

الظــــل : لست ظلاً ... كنت ظلاً أنا دانيال الذي يأتي من الأمطار... ظلاً كنت صيرني جفاف الطقس... لكني دانيال الذي يأتي من المطر العسل (يخلع قناعه فنجده فتى من محال)  المطر... النجوم حكايتي هذه ... في البدء كنت أحلم بأمطار تحمل الصحو العارم للبدو... وبعدها صرت أحلم لهم بجدران بيوت... صرت ظلاً ... فحلمت بتهديم الجدران بالطرق السلبية ... داكناً صرت في خريفي حلمت بالنوم معهم على أسرتهم وتحت سقوفهم... فصرت ظلاماً وعتمة دامسة . لكني أدركت حلمي الأول ... أدركت المطر الذي يحول الحواس إلى عيون تحدق في وهج الحقيقة ... انظروا معي اسمعوا بلهفة .

الدكتور : ماذا يعني؟ أنا لاأفهم.

الهاجس: كذلك أنا لاأفهم .

الظــــل : اخلعـــوا كل أســـاطيركم والخرافــــات القديمة... ستدركون تدركون هذا النداء الغريب الهائل الذي يخترق الجسد... ويسكن الأوردة. الأعصاب واصغوا لندائي في الحقول وفي الأسرة والشوارع... أنا دانيال نسل من نجوا من الطوفان... وإنه المطر الذي يرتد بي طفلاً ويفتل جسدي شباباً... انظروا حدائق تتقدم في ضلوعي... جسوراً لكل العابرين إلى التسامي.

الدكتور : هذيان ... هل تنوي أن نعيد الكرة ؟

الظــــل : تعني لعبة التنكر والتخفي ... لعبتك الوهمية ... والنوم الأعمى فوق سريرك الإسفنجي ... كلا... سأرتقي أفقي وحيداً أرجوك لاتجعلني ألتفت ... دعني أحاول ... هناك ما يشدني نحوك ... استمع إنه يبسط لي فكرة هائلة .

الدكتور : من هو... هل تخدعني... ذاك النجم... أو تلك الغيمة... أو تقصد سقف المسرح ؟

الظــــل : كلا أبعد من ذلك ..لكني أراه .

الدكتور : ذاك الكوكب ، أم النيزك ؟

الظــــل : كلا أبعد في القرب... ليتك تفهم .

الدكتور : أين في المدارات المجهولة ؟

الظــــل : إنك لاتفهم .

الدكتور : توقف... إنني آمرك أن تتوقف .

الظـــل  : الهـــواء هنــــا مر وخــانق ... هذا الهــــواء ليس هوائي... إنني أختنق دعني أحلق .

الدكتور : أوه لايمكن ذلك ... إنه تمرد معتوه .

الظــــل : أوه أيها الـ ... ياقوةً لاتدركها اللغة دعني أسميك البصيرة أو التنفس في الحقول... أو الرغبة الملحة آه دعني أسميك المحبة، خذني إليك... شدني أكثر...

الدكتور : ماهذا... علي أن أفعل شيء... سيرحل... أوه أيتها الهاجس تقدمي إليه امنعيه بكل الوسائل دعيه يتراجع .

 

(ينسحب الدكتور تتغير الإضاءة)

 

الهاجس: ( تغني) أنا خمسة صلبان ... أنا خمسة أطواق... أنا لاأنسى...

الظــــل : بل نسيتك ... غيابك علمني أن أنسى.

الهاجس: قلت أنك لاتنسى!

الظــــل : إلا أن يغتسل القلب بماء الورد... بماء قدسي بروائح وبخور، فأعود معافى .

الهاجس: أنا اختيارك المخيف... ألم تقل هذا ؟

الظــــل : توهمت... بل أوهمت قسراً على ذلك ...

الهاجس: بل غيابي جعلك تتوهم حلاً آخر.

الظــــل : شكراً لغيابك السعيد... ألف شكر لكل غياب يعلمنا الحضور

الهاجس: إنك تخون ...

الظــــل : أيها الجناح العالي... كعنقاء السندباد... ياثميناً كأحجار بابل كغناء الأم دعني أتمسك بك كثدي أمي لاتجعليني أنفلت أو أهوي في السهو والنسيان .

الهاجس: لاترحل قل شيئاً .

الظــــل : ماذا بقي لنا من الكلمات ؟

الهاجس: أحبك... تقمصني...

الظــــل : أثقال... إنكم تصرون على لصق خطواتي بتراب يجفف خضرتي .

الهاجس: اروي ظمأ الروح.

الظــــل : آه إنك تنفثين في صدري هواء يسمم دمي.

الهاجس: ضمني إليك... آه.

الظــــل : ياأنتَ... ألوذ بك الساعة فاسرقني من هذا الحضور في شروقك الأبدي... ياأنتَ...

الهاجس: انظر... كذلك لم تدركني... فمنحتك المعرفة بي.

الظــــل : لكنك أقفلت جداراً... أنا لاأحب الذكريات.

الهاجس: تعال جسدي يتسع لكل الفصول .

الظــــل : آه إنني أهوي ثانية...

الهاجس: تعال عطشي إليك يفوق صيام الدهر كله... ضمني إليك

الدكتور : (على حده) نعم... نعم... هكذا أفضل .

الظــــل : أيها الماضي ماذا فعلت بحياتي...

الهاجس: اخلع هذا... إنني أحترق .

الظــــل : أيتها البصيرة ... عيناي تـنغلق ثانية .

الهاجس: ياه عيناك لها بريق مشاكس... اخلع سيدي .

الظــــل : ضوء القلب الآخر كضرير .

الهاجس: ياللجسد الرائع... ( تفتح صدره) ماهذا... ماذا فعلت...

الظــــل : ألا ترين... إني أعلق على صدري طائر السنونو.

الهاجس: إنه أمر جلل.

الظــــل : إنني لأحلم ... سيأخذني السنونو ويطير بي بعيداً... إلى سمائي... إلى جنات أيامي .

الهاجس: وإن لم يستطع .

الظـــل : أقسمت عندها أن أسحبه إلى دهاليز أيامي إلى ظلماتي... ياللبؤس... أيها الماضي ماذا فعلت بحياتي يالسواد أيامي...

الهاجس: ياللهول... ياللسنونو المسكين... يالضياع أيامه

الظــــل : كفي عن قفل ما يفتحه المطر... توقفي عن لصقي بالأرض دعيني... دعيني .

الهاجس: لكــن دعني أفهم ... لست سهواً تمر به سريعاً فتهمله.

الظــــل : ياأنت يامن يشبه الوجد... لاتدعيني...

 

 ( تخلع قناع التمثيل)

الدكتور : (على حده) كلا... كلا... ماذا تفعلين .

الهاجس: سأتبعك... وأكون مريدك .

الظــــل : لست معلماً ... بل أنا أحلق نحو معلمي الأول .

الهاجس: من هو المعلم الأول ؟

الظــــل : الذي لايخدع بصيرتنا بسراب ماكر...

الهاجس: لم أفهم. ..

الظــــل : ستفهمين

(يحلقان وتتغير الإضاءة)

الدكتور : لا... إن الأمور بدأت تســـــوء ... كل الخيوط التي حكتها بدأت تفلت مني... الدمى بدأت تفكر... توقفوا... ليست هذه طريقتي          في التفكير... لست المسؤول عن ذلك... سيحتج  الجمهور... الإدارة والنقاد سيهشمون رأسي ... توقفوا .

 

(يتبعهم/يضاء مكان الأم)

 

الأم     : ولدي أين أنت ياشريان قلبي... ( تندب) أهكذا كل ولد... طفل رضيع يصير طيراً ويبتعد... أوف صغيري... عصفوري...

الظــــل : أماه لست صغيراً إلى هذا الحد ..

الأم     : بعيني أنا لو شبتَ... تظل صغيراً... أين ذهبت؟

الظــــل : أتبع حلمي .

الأم     : حلمك... وأين وصلت ؟

الظــــل : بدأت أدركه...

الأم     : إلى أين أنت ذاهب ؟

الظــــل : إليه.

الأم     :  يالجنونك .

الظــــل : لست مجنوناً... أماه ألاتفهمين... أنتِ لست أمي حين تحيكين لي ملابس التردد والسكون... لست أمي حين تحشين رأسي بحكايات العجائز... ولست أمي حين تعثرين طيراني... أماه... وداعاً...

الأم     : لكنك ستظل ولدي وشريان قلبي .

الظــــل :  آه ... أماه ... ماما

الأم     : ارحل... وابتعد... حلق ماتشاء... قلبي معك .

الظــــل : وداعاً (يحلق هو والهاجس) .

الدكتور : (يدخل فجأة) كيف توافقين على ذلك... لم آمرك بهذا.

الأم     : ( تخلع قناع التمثيل) كان لتوهج عينيه وناقوس لسانه رهبة قديس فوق رابية... لم أستطع أن أوقفه .

الدكتور : ياللكارثة سأتبعه (يخرج)

الهاجس: ولكن ماهو... أكمل مابدأت .

الظــــل : المعلم لايمكن تعريفه... الكلمة محنطة إزاءه ... لايمكنها أن تبصره .

الهاجس: كيف إذن يتم التعرف عليه .

الظــــل : بالقلب...

الهاجس: بالقلب... لم أفهم؟

 

(يضاء مكان المقهى المجموعة نفسها تهذي)

 

الأول   : إطلاقاً في البعد... هوفان .

الثاني  : كم التوحد.

الثالث  : سيما... لو كيما... نونو

الهاجس: مابهم

الظــــل : يصرون على تحطيم اللغة... يسحقون الصوت... يحتقرون المعنى

الهاجس: وماذا يقولون إذن ؟

الظــــل : يقولون الفراغ... (يهجمون عليه بالهذيان) ياإخوتي لاتشاطروا الفراغ لعبته... انظروا جيداً... استمعوا إلى لغة القلب الصافية... (يسقط أحدهم) انظر بعينيك لها لغة لاتؤول تدخل في الصميم... (يسقط الثاني) استمع إلى الروح لها رنين مقدس (يسقط الثالث) ياإخوتي...

الهاجس: لقد تهشموا وإلى الأبد .

الظــــل : لـم تبتغــون الفـــراغ ... مجد في الفراغ خواء ... خواء في الفراغ ... هباء .

الهاجس: إنهم أموات .

الظــــل : بل أنهم يحلمون الآن .

الهاجس: انظر هذه الكتب .

الظــــل : كلا لا تلمسيها احذري... هيا بنا (يحلقان معاً) .

الدكتور : (يدخل ويراقب المجموعة وهم يخلعون أقنعة وأزياء التمثيل)  ياللشيطان... دمى بلا دماء... لقد حفظوا الحوار جيداً... ولكن بلا حياة... ياللفوضى .

الهاجس: ولست أراه ... خنقت أنفاسي لكي أسمعه في قلبي ولم أسمع .

الظــــل : وسائلنا قاصرة... هل تعتقدين بأنه نبي أوملاك... كلا هو الذي لاشيء يشبهه...

الهاجس: هو الفراغ...

الظــــل : كلا هو الجمع ... هو المفرد ... تجدينه في الماء... في ضوء النجمة ... في شهقة طفل... في رائحة الحب ... هو ماتهمسه الأشجار إلى بعضها ليلاً... لغة العاطفة... تجدينه في المسافة بين حنجرتي وأذنك...

الهاجس: هو قريب إلى هذه الدرجة ؟

الظــــل : وهو بعيد إلى هذه الدرجة .

الهاجس: ولست أراه ؟

الظــــل : هو لايرى ...

 

( تتغير الإضاءة فجأة... بينما تظهر مجموعة أخرى)

 

الأول   :هيه أنتم... قفوا .

الظــــل : ماذا هناك ؟

الثاني  : ألم تسمع لقد صدرت الأوامر بالصمت .

الظــــل : كنا نحلم فقط.

الثالث  : ياللكارثة ... ياللهول .

الهاجس: من أنتم ؟

الأول   : نحن ... نحن منظفو الأحلام .

الظــــل : تنظفون الأحلام ... لِم ؟

الثاني  : حتى لاتحدث كارثة .

الهاجس: كارثة ماذا ؟

الثالث  : كارثة التناسل والانتشار.

الظــــل : ولكننا...

الأول   : صمتاً لاجدال ... ليس لدينا وقت نضيعه معك... هيا انتزعوا الحلم .

           (يهجمون عليه)

الثاني  : أين هو الحلم... في الرأس أم في الأحشاء ؟

الثالث  : في الطفولة أو في حاسة الشم ؟

الأول   : في الغناء ... في الحنجرة أين تخبئونه؟

الثالث  : لقد أخفوه تماماً .

الأول   : حسنٌ حطموهما تماماً (يسحقونهما / ينسحبون)

الدكتور : يالفرحي... يالســـروري... هاأنذا أحكم قبضتي عليهم ثانية... لن يفلتوا مني... لقد سحقوا تماماً... آه... ما هذا... إنهما ينبضان بالحياة ، دقات قلب... رائحة دم... ويلي... لأختفي سريعاً .

 

    (يختفي... ضوء باهت... موسيقى كنائسية)

 

الهاجس: كسرت ساقي .

الظــــل : كذلك أنا لكني أحلق .

الهاجس: أستطيع السمع .

الظــــل : بالرغم من أنهم شمعوا لي أذناي .

الهاجس: فقؤوا عيناي .

الظــــل : لكني أرى رغم عماي .

الهاجس: كيف يحدث لنا هذا .

الظــــل : هذا أول النهار ... وهذا النهار الأول .

الهاجس: إنني أحلق بهدوء .

الظــــل : إنني كريشة في الفضاء .

الدكتور : (يدخل صارخاً / تتوقف الموسيقى ) أيها السادة لاتصدقوه... إنه الوهم... خداع... تكنيك كاذب... لاتصدقوه إنه لايفهم ما يفعله... هيا دعونا نغادر القاعة... نتركه لأوهامه هيا...

الظــــل : سيدي كفى .

الدكتور : ماذا تريد ؟

الظــــل : أن أدلك عليك .

الدكتور : أنت أيها الصغير .

الظــــل : لست صغيراً... إنما عدت صغيراً بالوجه وشيخاً بالروح.

الدكتور : هذا هراء .

الظـــل  : هـــراء... هـــل عرفت لحظـــة التســامي أو رغبة الدخول في الأزمنة ، هل اعتصرك ألم التلاقح... هراء... وأي هراء... مضحك ما تفعله... اغتصبت الأوراق وأقسرت القلم على تشويه وجهي... سيدي أخائف أنت من حلمي   أن يدمر أبراجك الهشة... صورتني مجنوناً... محموماً... لايدري... لايعلم... لايدل... لايستدل... يطارد حلماً... وهماً... غباراً... كلا... تخطأ... إذ تتصور وجهي تشوه في مراياك... سيدي الهاجس لايعني أنثى بصوت فيروزي... الهاجس هناك ...

الدكتور : أين هناك ؟

الظــــل : هنا... وهناك... هل تفهم؟ الهاجس هو البعيد... الماضي... هو الآتي... أنظر... هو اللون... هو الرائحة... الهاجس هنا في الداخل... الهاجس كل المخلوقات التي تنظر إلى الداخل منها بعمق... الهاجس ضوء ينبعث في العينين يضيء العتمة...

الدكتور : لاتمزج الأفكار بفرحتك الصبيانية هذه... تعال نجرب ما تلهج به تعال نشرح ذلك كي أثبت لك وهمك بالتجربة.

الظــــل : لا... إنك تتوهم التجربة مقياس للوجد... وسائلنا قاصرة... قل لي هل باستطاعتنا أن نختبر العاطفة ؟

الدكتور : وإذن أشباح هي؟  ما تراه وتسمعه وتتبعه هي مجرد أشباح ؟

الظــــل : وإذن أنت الآخر شبح ما دام كذلك... وفراغ...

الدكتور : كلا إنك تفزعني... أين تمضي بي... ماذا تريد؟

الظــــل : أن اشطب هيأتك هذه... وأهشم سرير الدسائس والأمراض وأهتف بهدوء هذا هو الكابوس... كابوس جعلني أتوهم أماسي طويلة وأن أخدر رأسي بالنوم وحلو الإسترخاء .

الدكتور : أنت الذي كان يحب الإسترسال... لم تكن مرتاباً.

الظــــل : كنت أتوهم... بل أوهمتني قسراً... النوم... الهذيان ياله من عالم فسيح الأرجاء... ألم تحفظني ذلك كل مساء... نم تذكر... تخيل... وماذا فعلت؟ لم أفعل شيئاً سوى النوم والتخيل الرديء... التشكي البائس... التثاؤب السقيم... لم أفعل شيئاً... لقد كان محض خيال مريض.

الدكتور : وماذا فعلت الآن ؟

الظــــل : انظر هناك... هنا... انظر إلي... انظر إليك... كي ترى معجزتي أيها الكابوس الذي يوهم العصافير الصغيرة بالشيخوخة المبكرة .

الدكتور : لقد تجعد وجهي... تكسر كالزجاج  آه ..

الظــــل : أنت تبالغ في سحق الأعشاب البرية الناهضة بأستعلاء فتي .

الدكتور : آه قدماي تسمرت... اعوجت... تكورت .

الظــــل : أنت ترأوغ في صنع مواقف جاهزة... وكلمات ثعالب تمزق القلب .

الدكتور: أه ماذا جرى ... ظهري تقوس... لا أستطيع الصمود .

الظــــل : أنت وباء... هراء... هباء .

الدكتور : صوتي... صو... تي... يضيع في أعماقي... يخبو... يتكسر... إنني أهوي للقاع (يتلوى / يسقط / بقعة ضوء على الهاجس والظــــل / تتساقط الأمطار والثلوج)

الظــــل : آه ... أية رائحة فسيحة تجتاح الخريف؟ هل أبدأ من جديد ... آه... آه لي كيف لم أنتبه... لقد بزغ من جذعي ألف ريشة وألف جناح... علي أن أرحل الآن...

الهاجس: تعال... هنا سنبني المدينة المشتهات .

الظــــل : مملكتي ليست في هذا العالم .

                   (يرحل ويختفي / هي تتبعه / موسيقى)

 

تـــــمـــــت

 

بغداد - السليمانية

1986 /  1988

 

 

عودة الى الرئيسية

الحياة تبدأ غداً

دير الملاك

كتابة السيرة على الماء

ماكتبته الصحافة

تحت الطبع

نصوص خشنة

مواقع

الطقس المسرحي

الآن

مفتتح