الفصل الثاني

 كتاب الطقس المسرحي

المنهج وأيديولوجيا الجمال

 

 من البديهي القول: إن العرض المسرحي (التقليدي والتجريبي على حد سواء) لابد وأن ينتظم في نتائجه النهائية وفق منهج جمالي ومعرفي ما، ذلك أن المنهج يلعب دوراً "فاعلا" في حماية المنجز المسرحي من التشرذم لاسيما في مرحلة الإعداد والاختبار، بالتالي  فهو يحمي الجهد الإبداعي من التخبط في مهاوي الغموض أو التسطيح. إن التطابق بين الشكل والمضمون -وبالعكس- يعد واحداً من أهم فعاليات المنهج، إضافة إلى كونه يعمل على إيصال رسالة العرض -الجمالية والمعرفية- إلى المتلقي (المشاهد)، وبالشكل الذي يجعل منه شكلاً ومضموناً مدركاً وقابلاً لإثارة الجدل -مع أو ضد-، وبالتالي فهو يقود المتلقي نحو جوهر المنجز الإبداعي دون أن يتركه يتخبط في مساحات التأويل اللامحدود، والتي قد لا توصله إلى معنى ما، وبكلمة أخرى. إن المنهج هو النظام  "System" الذي يحتكم إليه المبدع في مختبره المسرحي، فهو بالضرورة يعمل كمفتاح سحري يقود المشاهد  نحو كنه العمل  وأهدافه، إن بديهية (ضرورة العثور على منهج في العمل الإبداعي ) مهمة للغاية، بل وللحد الذي يمكن القول فيه: إن عدم الحرص على إتباع منهج محدد سيسبب ضياعاً لجوهر وثمار العملية الإبداعية على الصعيد المعرفي، حيث تتضارب الأفكار فيما بينها بما يضعف الخطاب فكرياً، وكذلك على الصعيد الجمالي بحيث تظهر الصورة المسرحية أو الشكل متناقض، وجوهر الخطاب المعرفي الذي تتضمنه. إن الأهداف المعرفية الكبرى إن لم تكن راسخة ورصينة بقوة المنهج ستؤدي بدورها إلى عدم رسوخ الصور والتشكيل الجمالي وبالعكس، لذلك يعمل المنهج -الذي يتبناه المخرج المسرحي- في صناعة عرضه المسرحي، سيؤدي حتماً إلى تماسك العناصر المسرحية لتصب أخيراً في ذهن المتلقي، وتفعل فعلها الإبداعي في مخاطبة وجدانه وعقله بشكل ديناميكي خاص جداً.

غير أن المنهجية لا تعني مطلقاً تأطير واعتقال حرية الإبداع بل تعمل على تطوير المنهج الذي يعمل وفقه، بفتحه على المفاهيم الجمالية والمعرفية المعاصرة التي تتعايش معه وبالشكل الذي سيسمح به أفق المنهج نفسه،  وإذا ما كانت بعض المناهج المسرحية  قد انغلقت على نفسها وأعلنت القطيعة مع العصر الراهن فثمة مناهج أخرى مازالت تعاصر تطلعاتنا وتنفتح على أسئلة المستقبل، كما أن الاستناد إلى منهج لا يعني التقيد الحرفي بالأسس النظرية التي وضعها مؤسسوه، هذا بالإضافة إلى أن توفر المنهج وتطبيقه بشكل -صنمي- لا يعني نيل العمل المسرحي صفة الإبداع والتكامل أو النضج في ابتكار وإيصال خطابه، ذلك أن أيديولوجيا أخرى تقف وراء جميع المناهج وتتقدم عليها، لاسيما في العمل المسرحي وخصوصية صياغة عناصره، ألا وهي أيديولوجيا الجمال، فالجمال واحد من أهم أهداف العرض المسرحي مهما كان منهجه (واقعي أو سريالي/ تعبيري أم طبيعي) وخصوصاً في عصرنا الراهن، وفي ظل نهج الاستهلاك والانحدار -المدبر- الذي تشهده ذائقة المتلقي.

إن الرقي الجمالي يعد من أهم وسائل الدفاع عن ذائقة المتلقي، كما أنه هدف بحد ذاته إلى جانب الأهداف المعرفية الأخرى. كما أن الدفاع عن الجمال والارتقاء به بوصفه ضرورة لشد المتلقي نحو الإبداع المسرحي، هو هدف بحد ذاته، فما قيمة الأفكار الكبرى التي لا تدهش المشاهد بصرياً وتؤسره لها؟.

 ما قيمة المعرفة التي تفتقر إلى الجمال لفوضويتها أو سطحيتها وبؤسها على الخشبة؟ إن ما يحتاجه المسرح لكي يوسع أصدقاءه، هو أن يعمل على المنهج وأيديولوجيا الجمال، تلك هي المسألة ؟!.


قراءة على قراءة

 

 لطالما حاولت الفلسفة تعريف الكائن البشري بوصفه العنصر والهدف النهائي لمشروعها، لذلك أطلقت عليه مختلف التسميات منطلقة من تحديد طبائعه المتميزة عن سائر الخليقة، ومن بين التسميات(الكائن الاجتماعي/ الحيوان الناطق/ الحيوان المفكر/ النتاج الأعلى للطبيعة... الخ) غير أن تسمية الكائن البشري بالكائن القارئ، تعد أوسع وأدق -حسب اعتقادي- لأنها تكشف عن فرادته الحقيقية إلى جانب استبطانها ضمناً للتسميات الأخرى، فالكائن القارئ هو بالضرورة ناطق ومفكر واجتماعي، كما أن تسميته بـ القارئ، تنفتح على عدد لامتنا هي من المفعول به (ففعل -إقراء - يقترن بـ: الخبر، الصورة، الحدث، الفكرة، الحركة،التاريخ، الطبيعة، الصمت، الوعي، اللاوعي، الخيال،الحلم... الخ)، كما أن القراءة عكس النطق تماماً، ففي النطق (الكتابة/ القول/ الكشف) لابد من توفر مذهبية     أو أسلوبية أو على الأقل حس بالاتجاه، أما في القراءة فيستحيل تحديد ذلك لأنها -أي القراءة- حقل لممارسات متعددة، تتسع بتعدد القرّاء ووعيهم وأنواع الحاجات والقدرات على التأويل وانتزاع الأفكار عند قراءتهم للمشهد ذاته (الفكرة/ الصورة/ الحدث... الخ). وهنا لابد من الاعتراف بأن هنالك العديد من الأمور تقف وراء القراءة تدعمها أو تعرقلها (فهنالك الإحساس بالضرورة/ البحث عن الحاجة/ الخوف/ المتعة بالمعرفة/ البحث عن المنفعة) كما تتوفر العديد من المعرقلات بوجه القراءة مثل: اللادراية، اللاوعي، اللامبالاة، تصور الأدوات المعرفية... الخ. وهنا نجد أنفسنا أمام مستويات عديدة للقراءة:

أ- القراءة الاستبدادية: تفرض فيها الذات قناعتها المغلقة -أيديولوجيتها- على الموضوع المقروء، لتعزيز ما تحمله أو لنسف المقروء وبذلك فهي لا تقرأ المادة إلا بالاتجاه الذي قررته سلفاً وبشكل تعسفي، حيث تقف الذات كمرآة أو مقياس للمادة، وتتجسد هذه القراءة لدى الذات الباحثة عن المعلومات العلمية أو القوانين النفعية أو عن تكريس أيديولوجيتها، فالموضوع المقروء لا يأخذ مصداقيته إلا وفق القصد الذي قُرأ من أجله، ذلك أنها قراءة آلية لاكتساب معرفة أو تقنية        أو خبرة.

ب- قراءة اتباعية: حيث تنجرف الذات وراء الموضوع مستسلمة جراء خوائها الداخلي، وهنا يتعدد و يتشظى وعي الذات بتعدد المواد المقروءة، وتتعدد اتجاهات الذات بتعدد الجهات المتبوعة، وبالتالي تفقد الذات القدرة على الاستنتاج والإنتاج وتتحول إلى بوق مجوف لكل مادة مقروءة.

جـ- القراءة الإنتاجية الحرة والإبداعية: وهي التي تصغي إلى المادة المقروءة بالقــــدر الذي تعي فيه حاجاتها، تتفاعل مع المــــادة بوصفهــا -كان- وتتطلع عبر أعمــــــــــــال العقــــل إلى ما سيكون -المستقبل- اللامرئي، اللامنتظر، اللامتوقع، وبذلك فهي تنتج بالقدر الذي تتثاقف وتتفاعل بوعي مع المادة، ويمكن تسميتها أيضاً بالقراءة الانتزاعية، حيث تستخلص من خلال التأمل وأعمال العقل الواعية والحرة كل ما هو جديد ومدهش ومثير، كل ما هو قابل للإدراك معرفياً أو جمالياً، أما فيما يخص (المسرح) بوصفه صورة مصغرة وافتراضية للحياة، ذلك أنه يتعاطى مع القراءة المعرفية والجمالية بأرفع تجلياتها من خلال مستويات عديدة:

1- قراءة المؤلف.

2- قراءة المخرج.

3-قراءة الممثل.

4- قراءة المتلقي.

الأمر الذي يحتم على المخرج أن يتسلح بقدرات قرائية عالية، ذلك أنه المعني أولاً وأخيراً بتسيـير القراءة الأخرى نحو الهدف -المعرفي          أو الجمالي- الذي يعمل من أجله، وهنا يتحتم على المخرج هضم وتمثل القراءات الثلاث التي يقدمها كل من المؤلف والممثل والمتلقي بقصد احتوائها وتكريسها بشكل عفوي لا تعسفي بالضرورة، لتصب في اتجاه الهدف، لتصل إلى المعنى وتتعدد في تأويله، وهنا لنقتبس عن (رولان بارت) القول التالي:

ثمة مغامرة للقراءة: وهي البحث عن اللذة التي تأتي بها القراءة، أنها الكتابة إذا أمكن القول (مغامرة الكتابة) ذلك أن القراءة تقود إلى رغبة في الكتابة وهذا لا يعني بالضرورة أننا نرغب في أن نكتب كما يكتب المؤلف الذي تعجبنا قراءته، أن القراءة ضمن هذا المنظور تعد فعلاً إنتاجياً، وهي ليست صورة داخلية ولا إسقاطاً و لااستيهاماً،  ولكنها -عمل- بكل دقة، فالمنتج  (المستهلك) قد عاد إلى الإنتاج وإلى الرغبة بالإنتاج، وأن سلسلة من الرغبات بدأت بالدوران، فكل قراءة تتوخى من التشابه، تتوالد إلى مالا نهاية.

 وفي خصوصية العمل المسرحي يتوجب على المخرج أن يجعل من العرض المسرحي وسيلة لتوليد الأسئلة، للتحريض على تعدد القراءات والتأويل بالضد أو مع، ذلك أن التواطىء مع الممثل أو المؤلف حول السائد والمألوف، والمتفق عليه سلفاً سيجعل من العرض جسداً ميتاً لا يدعو لإثارة الجدل المعرفي أو الجمالي ؟!.


المكان في العرض المسرحي

 

بالضرورة لا يمكن للفعل المسرحي إلا أن يتأسس داخل مكان ما، لذلك نجد أنفسنا ونحن نعمل على تأسيس الفراغ (الحيز الذي يتم من خلاله بث الخطاب وبغض النظر عن طبيعته المعمارية إن كان دائرياً أو علبة إطاريه، مسرح روماني أو منصة في الهواء الطلق... الخ)، بمواجهة ثلاثة مقترحات مكانية:

1- مكان يقترحه المؤلف عبر النص: وينطوي اقتراح على ثلاثة مستويات مكانية، فهو إما أن يكون موقعاً جغرافياً محدداً أو طرازاً ما بعينه لارتباط هذا المكان بالشرط التاريخي وما يعكسه من قيم معرفية وجمالية على الدراما ومعالجتها (باستثناء النص الذي يعالج فيه المؤلف الحادثة       أو الشخصية التاريخية بمعزل عن مكانها وزمانها)، أو أن يكون المكان المقترح في النص مجرد فضالية جمالية ترتبط بكنه الفكرة الدرامية وذلك بحسب مخيلة ومعرفة المؤلف بشروط اللعبة المسرحية، وهذا المقترح يمكن تخطيه بمقترح آخر يكرس الفكرة ذاتها أو تتم إزاحته بتأويل النص باتجاه آخر وبحسب رؤية المخرج، أما في الحالة التي يحاول فيها المؤلف أن يترك نصه مفتوحاً على حركة الزمن فهو يعمد إلى إلغاء المكان (كمصداق) ليعنى بإنشاء عالم لغوي دون تحديد أي إطار.

2- المكان الذي يقترحه المخرج: وذلك من خلال أدواته (عناصر السينوغرافيا والممثل والنحت الحركي الدلالي) ويعكس هذا المكان ثلاثة مستويات أيضاً، فهو إما أن يكون صورة محددة لمكان جغرافي   أو طرازي معين يخدم الهدف المعرفي الذي ينوء به المخرج، أو أنه يجسد صورة المكان حسب طبيعة الحادثة ومعطياتها التاريخية وبحسب الأيديولوجيا التي ينطوي عليها النص أو فكر المخرج، وقد يقترح المخرج مكاناً تجريدياً، خالياً من أي دلالة طرازيه ليجعل من الإطار المسرحي لوحة تشكيلية يتم فيها نحت الأمكنة بواسطة الحركة الدلالية لجسد الممثل وذلك بقصد شمولية الهدف المعرفي والجمالي للعرض المسرحي، حيث يترك للمشاهد حرية الانتزاع أي صورة للمكان من خلال شحن ذاكرته الجمعية وتنشيطها بواسطة الفعل المسرحي ذاته.

3- وأخيراً هناك المكان الذي ينتجه وينتخبه المتلقي (المتفرج) بحسب وعيه و ذائقته وثقافته وميوله الفكرية والعقائدية، ذلك أن المتلقي شريك في إنتاج العرض، فهو وإن يواجه مختلف المقترحات المكانية           ( التجريدية أو الطرازية، المفترضة أو الواقعية) التي يقترحها المخرج  أو المؤلف، فإنه سيعمل في النهاية على إحالتها ذهنياً إلى مكان ما، مكان أثير لديه وراسخ في ذاكرته الجمعية، وهنا لا يمكننا حصر مستويات المكان لتعددها بتعدد المشاهدين، حيث تنعكس صورة المكان بمختلف الأذهان إلى الأمكنة (مؤولة) لا يحدها إطار، ففي الليلة الواحدة للعرض تقترح العديد من الأمكنة (ذهنياً) بعدد رواد المسرح.

وهكذا نستطيع القول أن أهمية صياغة المكان في العرض المعاصر تكتسب أهميتها من طبيعة التأويل الذي قد توحي به لدى مختلف المشاهدين، ففي الوقت الذي يمكن فيه للمكان أن يغتال ويحد من حرية القراءة وتعدد التأويل الحر لدى مختلف المشاهدين بسبب حضوره (الفوتوغرافي) التعسفي، قد يساهم تغييب المكان ( تهويمه) بتشتيت الرؤيا واستعصاء الفهم والإدراك لدى المتلقي لإنهدام جسر التواصل بين العرض والمتلقي، وبالتالي ضياع رسالة العرض الجمالية والمعرفية.

إن التطور المذهل الذي يشهده الفن التشكيلي قد ترك أثراً واضحاً على السينما والمسرح المعاصر حيث كفّ المكان عن لعب دور الإطار والخلفية للحدث أو الممثل، وبالتالي أصبح عنصراً من أهم عناصر الرسالة المسرحية ولاسيما على الصعيد الجمالي.

وفق هكذا معيارية شائكة ومعقدة يتوجب على المخرج أن يتعامل مع مفهوم المكان في مسرحنا العربي، الذي يعاني وبشكل واضح من فقر معرفي وبؤس جمالي في صياغة صورة للمكان تعمل على تحريض التأويل وتعدد القراءة لدى المتلقي، إن التعاطي مع هكذا مفهوم للمكان يشابه وإلى حد بعيد تعاطي الخبير مع كدس العتاد الحي ؟!.


مشي وكلام!

 

إن تكامل العرض المسرحي بشقيه الجمالي والمعرفي هو وحده الكفيل بتحويل العرض إلى كائن فاعل، مُدرك وقابل لإثارة الأسئلة والاشتباك بذهن وروح المتلقي.

غير أن هذه البديهية قد تتحول إلى إشكالية هي أقرب ما تكون إلى الكارثة التي تهدد حياة العرض المسرحي وتمس بشكل خطير سلامة وصوله إلى المتلقي (الشريك الحتمي والفاعل في العملية الإبداعية) تكمن هذه المشكلة في عدم قدرة القائم على العرض       (المخرج) على صنع نوع من الانسجام ( الهارموني) بين العنصرين (الجمالي + المعرفي) .

هذا من جهة، ومن جهة أخرى تتولد هذه الإشكالية أيضاً جراء عدم اتساق العناصر المكونة للخطاب المعرفي كل على حده. إن هذا القول يستدعي وبالضرورة تفكيك الخطاب المعرفي على حده وكذلك الخطاب الجمالي لمعرفة كنه عناصرهما التي تشكلهما في النهاية:

الخطاب الجمالي: وهو كل عنصر مسرحي يتم تلقيه بصرياً يؤسس على قاعدة الخطاب المعرفي الذي ينشده العرض، حيث تحدد القيم المعرفية (للعرض) التربوية، التاريخية، الاجتماعية، السياسية... الخ، طبيعة اختيار عناصر الخطاب الجمالي وبشكل رئيسي، ويتكون الخطاب الجمالي من العناصر التالية:

1- السينوغرافيا (التقنيات المسرحية) .

2- الفضاء (الفراغ) المسرحي.

3- الجسد والنحت الحركي.

إن خطاب العرض المعرفي والذي يتم انتزاعه ذهنياً عن طريق تلقي الصور والإيحاءات المسرحية التي يبثها العرض المتشكل من مجموعة العناصر المذكورة، بشرط عملها وفق نظام الإنتاج الدال (فالإضاءة ليست إنارة إنما هي قيمة لونية تحمل المعنى وتساهم بدفعه إلى ذهن المتلقي، وهكذا هي بقية عناصر السينوغرافيا) كذلك فإن طبيعة الفضاء المسرحي -الوسط الذي يتم فيه الاتصال بين العرض والمتلقي- يؤثر وبشكل مباشر على طبيعة عمل عناصر السينوغرافيا، وبالشكل الذي يؤثر فيه على طبيعة المتلقي أيضاً، هذا بالإضافة إلى هيمنته على النحت الحركي لجسد الممثل (فالعلبة الإيطالية تسمح بنوع حركي وبتشكيل سينوغرافي وتسهم بخلق بنوع من التواصل وبشكل مختلف كلياً عن صالة المسرح الدائري ومسارح الهواء الطلق     أو مسارح الصالون وهكذا... الخ). كما أن طبيعة الحركة والنحت الحركي التي يؤديها جسد الممثل تساهم وإلى حد كبير في صنع تلك الموجات البصرية التي تتجه إلى ذهن المتلقي وتتغاير إلى أفكار ومعلومات تثير الأسئلة.

الخطاب المعرفي: هو كل ما يمت للأفكار والحركة الذهنية بصلة، حيث يتم انتزاعه عقلياً عن طريق استقبال الصور المسرحية التي تصطدم بحواس المتفرج وتشتبك بمكوناته الذهنية (خبرات/معلومات/تطلعات/إرث عقلي وروحي... الخ) والخطاب المعرفي وإن يسبق الخطاب الجمالي في الوجود ذلك أن الخطاب الجمالي هو وليد شرعي للخطاب المعرفي، إلا أنه        لا يستنتج إلا من خلال عناصر الخطاب الجمالي بشرط عملها وفق نظام الدلالات الدقيق، وتلك هي ميزة الفنون المرئية بشكل عام، وميزة الفن المسرحي بشكل خاص، فالخطاب المعرفي في المسرح هو الذي يحدد طبيعة اختيار الفضاء وطبيعة عمل عناصر السينوغرافيا ورسم النحت الحركي إلا أنه وفي النهاية يتم انتزاعه (من قبل طريق المتلقي) عن طريق عمل هذه العناصر وبشكل عضوي متلاحم، وهكذا فإن الخطاب المعرفي سابق ومتأخر في آن واحد في الصنعة الفنية بشكل عام والمسرحية بشكل خاص.

غير أن العمل على هذه العناصر وبطريقة غائية مسطحة أو بشكل عشوائي يخلو من توظيفها بشكل دلالي مدرك أو قابل للإدراك، سيؤدي حتماً إلى تعثر الخطاب المعرفي وتلاشيه قبل وصوله إلى ذهن المتلقي (كأن تتحول الموسيقى إلى خلفية لملء الصمت والمفاصل، والديكور إلى إطار متحفي أو تجريدي للحدث المسرحي، والأزياء غطاء أنيق أو العكس على أجساد الممثلين... الخ).

وبهذه الطريقة سيتحول العرض إلى استعراض لفنون و صنعات لا تمت للمسرح بصلة (لغة الأدب+ديكورات مهندسين ورسامين+أزياء خياطات ماهرات + إنارة كهربائي+وحركة نظمها شرطي مرور يتقن عمله بشكل دقيق !).

ألا تعتقدون معي آن مشكلة مسرحنا الحقيقة تكمن في تحويل العرض إلى مشي وكلام في إطار يخلو من الدلالات الجمالية المدروسة والقادرة على صنع قيم معرفية تجد لها صدى في ذهن وروح المتلقي؟!.


المسرح ذاكرة للنسيان

 

المسرح شبه مظلم، يوجد سرير عليه امرأة نائمة "تتقلب" تحرك يديها... بعنف... تخوض صراعاً متخيلاً... تنتصب واقفه... تضيء النور...  يضاء في نفس الوقت نور صالة المسرح... تنظر للجمهور طويلاً في حيرة ثم تقول:

المرأة: لقد حلمت الآن بكم جميعاً

تطفئ النور ثانية وتنام بهدوء....

                                              " ستار "

- مسرحية /حلم/ برند شرويدر-

-1-

يبتدأ "الوله" بالمسرح من الإيمان بضرورته في الحياة المعاصر، ذلك أنه يمس الحياة البشرية بطريقة فريدة من نوعها، قد تعجز الفنون والآداب الأخرى عنها، لذلك اعتقد أن الانشغال التام بالمسرح لا يأتي عن طريق ممارسته كفاعلية اجتماعية أو ثقافية، لقد أساء أعداء المسرح وهم على الأغلب من ضمن الأسرة المسرحية  "كتاب أو مخرجون/  فنيون            أو ممثلون/ تقنيون أو متفرجون" على هذا الفن جراء النظر إليه بوصفه فعالية إنتاجية تمارس بشكل وظائفي، ممارسة ثمارها الجد أو الهيبة الاجتماعية، أومن خلال التعاطي معه وفق منظور مدرسي محفظ.

 

-2-

المسرح نموذج للسهل الممتنع، لا يعد بمجد ولا بأوسمة، ليست فيه شواغر للعاطلين عن العمل ولا يقدم متعه للمتطفلين، إنه عذاب الإنجاب، النزف خلف الكواليس، المخاض المستمر وبصمت، آثاره ضلال، إنه فن الكتابة على الماء، الحفر على الريح، زمن لا يقبل الأرشفة، متكبر،         لا يضحي ويتقبل التضحيات بلا حدود، لا يشير إلى ما دونه و يهمش كل العاملين فيه، لا يغري ولا يستدرج أحد، لكنه يمنحك القدرة على الاقتراب من الأبدية... بصيرورته.

 

-3-

وبعد...إن أي لاعب كرة... أو مغني شعبي من الدرجة العاشرة وهو أكثر شهرة من أي كاتب أو مخرج أو تقني مسرحي، هذه حقيقة لا تؤلم أحد باستثناء المتطفلين، كما أنها تزيد إيماننا بقدرته على نبذ السوق والتهريج والاستهلاك... إنه عمل وجودي محض لا يقبل المساومة، المسرح (غيري)  لا يقبل شراكة أحد، جماعي ينبذ العزلة ويدعونا باستمرار للحوار بكسر محارتنا الشخصية، المسرح... كنز لا يطمع به أحد، كارثة   لا يمكن اللهو معها‍‍.

 

-4-

كل أمهات الكون يعلمن أنهن منسيات... مهجورات... مهمشات... ورغم ذلك يكابدن أوجاع الحمل والوضع والتنمية!

كذلك هو رجل المسرح.

 

-5-

رجل المسرح لا يتوقف... لا يتأطر... لا يؤرشف... ذلك أنه في حركة دءوبة... لا يحمل مشعلاً... لا يبشر بأيديولوجيا محددة... لا تمتلكه إلا الحقيقة السرمدية... ويسعى لها بمختلف الطرق... لا يمتلك ذاكرة ولا أرشيف... يتغاير باستمرار... وفيما يذوب ويخبو وهو ينزف جمالاً ومعرفة تنضج الحياة... إنه صورة حقيقية للجندي المجهول... ولكن بلا نصب... بلا أزهار... وبلا شموع.


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


مسرحية ليس لدى الكولونيل من يكاتبه / إخراج المؤلف/ العراق

 


وليمة للمسرح

 

   مهووس هائم... أتوهـم الأرض مسرحاً

   فأسـجد... إنني آخر المؤمنين بعقائده.

 

q ما بالنا أصواتنا عالية... ومن خلفنا الخراب... وليس أمامنا سوى السراب...؟

q ليس ثمة "متأمل" بيننا، ليس ثمة من يثير الأسئلة والحوار "المُدرك"، حياتنا المسرحية تشبه وإلى حد بعيد السير في تظاهرة: تحديات دونكشوتيه، أجوبه عصابية جاهزة /وصفات مستوردة/ مراهنات خاسرة سلفاً:

 ¨ساكون أول من يفعل... كذا... في المسرح العربي!

 ¨هدفي الخلخلة /المغايرة/ صفع المتلقي!

¨ سأشطب، سأزيح... سأصحح المسار المسرحي!

¨ سأنقل... فلان (وفلان كاتب أو مسرحي أجنبي) إلى المسرح العربي!

¨ سأجعل من الخطاب (الشكسبيري أو الأبسني أو... ) معاصراً!

¨ سأتناول شكلاً أو حكايةً من التراث لم يسبقني إليه أحد!

¨ ... الخ

لذلك لا ننتج المعرفة بقد ما نبشر بها، إننا حملة مشاعل في ماراثون ليس له نهاية، ماراثون لا يؤسس بقدر ما يخرب!

q يفهم "البعض منا" العرض المسرحي بوصفه القدرة على الإنتاج وممارسة الفعالية، ممارسة تستند إلى شروط محددة:

¨ نص مسرحي بلغة أدبية متقنة وحكاية أو موضوعة مفهومة.

¨ ممثلين بأطوال وأحجام وملامح وأصوات متمايزة يجيدون المشي والكلام على المسرح (ويفضل أن تكون لديهم أسماء تلفزيونية أو صلة قربى بجهة الإنتاج !).

¨ قاعة مسرح بشرط أن تقع وسط العاصمة، تحتوي على كافتيريا لتلبية حاجات الجوع والعطش والتسلية التي لا يقدمها العرض، وصالة تتسع لألف متفرج.

¨ علبة مسرح كبيرة مع توفر عدد لا بأس به من الأجهزة الكهربائية للضوء والصوت، مستودع للأزياء والإكسسوارات، ورشة للنجارة، ميزانية مقنعة لتوفير المتطلبات غير المتوفرة!

¨ متفرجين بأزياء السهرة ، يتواطؤون مع العرض بالصمت !، ويخرجون بشكل محترم عند نهاية العرض دون أن يثيروا ضجة داخل الصالة، تعبيراً عن امتعاضهم أو سعادتهم بما تعاطوه على المسرح.

¨ مجموعة من الصحفيين للكاتبة عن العرض، تتم دعوتهم بشكل خاص مهما كانت مواهبهم كسيحة! وستتحول فيما بعد كتاباتهم (ارتكاباتهم النقدية المزاجية) إلى بوسترات تزين "فاترينات المسرح" وأخيراً تُحفظ في مجلد مذكرات المخرج، ذلك أنها لا تعني أحد سواه! و المخرج  إذ يؤرشفها فذلك لأنه يتهيأ للتقاعد أو الموت ومن حقه أن يجرد إرثه!.

¨ ولكن كيف يرى غروتوفسكي إلى المسرح "على سبيل المثال" فهو يقول:

(كلما سألني أحدهم عن معنى المسرح الجوهري أصاب بالغثيان/ المسرح ليس الديكور ولا النص ولا الإضاءة ولا حتى المنصة والأزياء... المسرح هو شطب جميع هذه العناصر باستثناء الممثل /المقدس/!).

لذلك ينأ غروتوفسكي عن الصالات الدعائية وسط العواصم، ينتقي العشرات من بين الآلاف لمشاهدة عروضه التي تشبه وإلى حد بعيد (الطقوس السرية) ذلك أنه يرى في العرض المسرحي ممارسة روحية وذهنية خاصة جداً، تصوف إلى حد المكاشفة ومشاركة بين المبدع والمتلقي إلى حد الاحتراق والتنوير.

q  العرض المسرحي:

¨ دعوة لعودة اليقظة/ وضع اليد على الجرح/ شراسة الجمال وعنف المعرفة/ تيه في عماء لا حدود له!

¨ يعنى مخرجنا  بالحرفة المسرحية "الصنعة" ولكنه ينسى أو يتغافل الجوهر... ذلك أنه مستهلك للمعرفة المسرحية التي أنتجها غيره... وهو في أحسن أحواله مبشر لتلك المفاهيم المبتكرة والمستوردة!

q أعتقد أن عروضنا المسرحية مصابة بفقر الدم! ذلك أنها تفتقر إلى: الألق... الشرارة... اللمعة... الاحتراف، في الرؤيا والتجسيد! ولكن هل يعود ذلك إلى النقص في التقنية وظروف الإنتاج السيئة وحالة الكوادر العلمية والنفسية والعقلية؟ كلا.. إن الاحتراف يقوم على فهم خاص للعرض المسرحي وفاعلية المسرح في الحياة المعاصرة... تلك هي المسألة!

¨ غياب المفاهيم... غياب عملية إنتاج المفاهيم حول المسرح والحياة، هي أزمة مسرحنا الحقيقية، ودون ذلك يهون كل شيء!

¨  وبالتالي؟ بالتالي فإن عملية إنقاذ مسرحنا من موته المحقق مهمة مناطة برجل المسرح نفسه... إنها مهمة البحث عن المفهومات... التأمل... إنتاج المعرفة وليس استهلاكها!

q علة العلل ؟

هي أن ينجح مخرجنا أو مؤلفنا المسرحي في أداء منجز ما، نص... مشهد... عرض... فيسجن حياته الإبداعية فيه وإلى الأبد! يكرره... أما بنسخه أو بتكراره في عدة أماكن وأزمنة! علة العلل... الإفلاس... الذاكرة فيما ينمو المسرح في النسيان والقدرة على تجاوز الذات وتهشيم الذاكرة!

 

q في أماكن أخرى (بعيداً أو قريباً من هنا) لا يمكن للمخرج أن يقتحم أبواب المؤسسة المسرحية إلا إذا كان مزوداً بمشروع يستحق الإصغاء له (مناقشته ومن ثم تبنيه أو رفضه) فهل يملك مخرجنا المسرحي مشروعه الخاص؟

¨ المشروع ليس نصاً مسرحياً أو رؤيا عرض، ليس غرابة الحكاية          أو الجديد في الصياغة البصرية، ليس التأويل الجديد للنص القديم     ولا في إعادة تأثيث الفضاء... المشروع هو شيء آخر، تتعلق كلمة المشروع "الهائلة" بالوجود الجوهري للكائن البشري بوصفه عضو فاعل في حقل تبنته أرقى أنواع الكائنات، تتعلق بـ.. جذوره... ثقافته، عقائده، موروثه، علاقته بكل ما يحدث حوله، ميوله، ذائقته الجمالية، أهدافه، نضاله المعرفي والجمالي، تبدأ من لحظة الولادة وإلى صيرورة حياته كلها... من هذا كله... يتكون مشروع المخرج... فهل يحمل مخرجنا المسرحي هذا الثقل الوجودي... إلى جانب فهمه الحرفي لعناصر اللعبة المسرحية؟.

¨ يبتدأ الإخراج... من لحظة عناق الفرد للوجود... من لحظة احتجاجه على كل ما يدور حوله اجتماعياً، سياسياً، ثقافياً، دينياً، اقتصادياً، جمالياً، وينتهي بالمنصة المسرحية.

¨  يبتدأ الإخراج من الأسطورة... إلى الدين... إلى الفلسفة... إلى العلم وينتهي بالمسرح.

¨ يبتدأ من العقل... إلى الجنون... إلى العقل وينتهي بالمسرح.

¨ يبتدأ من الشعر... إلى القصة... إلى الرواية... (وليس بالضرورة أن يمر بالنص المسرحي ذلك أن المسرح موجود دائماً خارج ذاته، فهو وليد الدين والأسطورة والشعر والفلسفة)، وينتهي بالمسرح.

¨ يبتدأ من الرسم إلى النحت... من الزخرفة إلى الموسيقى... من التصوير إلى السينما وينتهي بالمسرح.

¨ المشروع... يالها من كلمة لها طعم التهلكة!

 

q من هم هؤلاء؟

 -انهم نقاد محاكم التفتيش!

¨ ألا يعلمون أن النقد المسرحي كف عن تعقب العرض بالوصف والشرح وإلى الحد الذي صرح به أحد كبار نقاد عصرنا (اقتل الكلب إنه معقب!).

¨ (نجح، فشل، تعثر، تألق... الخ) معايير هائلة لا نعرف لها مصدر في كتاب النقد... أوسمة وشتائم مجانية يطلقها أؤلئك الذين لا يعلمون أن النقد الحديث لم يعد ميزاناً معيارياً، بل منجزاً إبداعياً يوازي العمل الفني أو يتجاوزه أحياناً.

¨ ينصبونَ أنفسهم مدافعين عن الذوق والوعي العام، ويزيحون المبدع وكأنه غير معني بهذه القضية التي تمس جوهر عمله الإبداعي... يقررون بدل الآخرين... ويصادرون رأي المتفرج... وهم في أفضل أحوالهم لا يرتقون إلى وعيه!

¨ يجيدون إطلاق النار في العتمه... بقوة الجهل... وبسالة الحلكة التي تحيط بهم... ورثة حقيقيون لحاكم التفتيش!! و            إذ يفعلون ذلك فهو يرجع لاعتقادهم بعدم قدرة المبدع المسرحي على محاكمتهم... يرفعون شأن أحد... ويهبطون بأخر وبدون أسباب علميه... يخلطون بين المعالجة الصحيحة... والنقد العلمي المتخصص... ولأننا في عصر الحوار أعتقد أن محاكمتهم باتت وشيكه.

¨ لا يطيقون الجديد... ويهاجمونه بوصفه "كفر وإلحاد"، ذلك أن عقولهم مصممة وفق مقاسات من الصعب توسيعها أو اختراقها... يحاربون المنهج بسلاح   الفوضى!! وهم في كل الأحوال بحاجة إلى دراسة متخصصة ذلك أنهم لم يأخذوا حصة دقيقة في النقد الإبداعي... كما أنهم بأمس الحاجة إلى مجلة متخصصة " ترفض" خربشاتهم التي تتسع لها الصحف غير المتخصصة الجائعة للحشو دائماً وأبداً، هم بحاجة إلى صدمه لكي يعيدوا ترتيب أذهانهم.

¨ يكمن دورهم الحقيقي في نقل العرض المسرحي عبر لغة صحافيه، بتوصيف الحركة والحس بوسائل إيضاح بدائية، وبذلك فهم يجنون على المتلقي عن طريق الاستخفاف بعقله و ذائقته، أكثر من تجنيهم على المسرح.

q لكل عرض مسرحي جمهوره

تلك حقيقة بديهية لابد التسليم بها، ذلك أن التسليم بها سيجعلنا أكثر تسامحاً وتعايشاً، وبالتالي سيجعلنا نكف عن لغة الشطب والمحو القاتلة، لكل عرض مسرحي جمهوره هي دعوة... للتعايش/ للتجاور والتوازي ولكنها معضلة أيضاً! وإلا كيف يمكن للعقل الأحادي وريث الإله الواحد، الإيديولوجيا الأحادية، النمط الواحد، اللون الواحد، النهج الواحد... الخ، أن يتقبل الحوار وتجاور الأفكار والألوان تلك المسألة الذهنية حققها الفن التشكيلي الحديث، وبشكل باهر حتى باتت أعماله تقتحم بيوتنا دون أن تؤثر على أذهاننا؟ الأحمر بجانب الأسود، الأبيض مقابل الأصفر، وهكذا هل يمكن أن نتعلم من الألوان درس التجاور؟.

¨ ولكن هل يعني التعايش إلغاء للحوار؟ كلا... إنه إلغاء للنفي (النفي شيء يشطب شيء، الأسود يزيح الأبيض، هكذا حددت الفلسفة مفهوم النفي) ولكننا ندعو للتضاد ذلك أن التضاد هو حوار خلاق: تصادم... اشتباك من أجل الإنجاز والابتكار.

¨ النفي= موت... سكون... سراب

¨ التضاد=حركة... ديمومة... صيرورة.

¨ النفي= قتل/ التضاد= ولادة.

 

q هل توجد وظيفة للمخرج؟ ثمة مفارقة هائلة تلك التي نعيشها في مسرحنا العربي... فنحن الوحيدون "ربما" المؤمنين بالشهادة العلمية في الوقت الذي نعلم فيه وبشكل لا يخامره الشك بأنه لا توجد شهادة علمية للإبداع... ذلك أنه لا يدرس ..لا   فالإخراج تعلم مثل الشعر... التصوف... غير أن ما يدرس هو النظرية في المسرح... نظرية الدراما... مدارس الإخراج وأساليبه تأريخ الظاهرة المسرحية... صرفيات وخبرات الذين سبقونا في هذا المضمار... وتلك المعلومات ليست كفيلة بصنع مبدع مسرحي على الإطلاق.

¨ وإذاً فليست هنالك وظيفة شاغرة للمخرج، ليست هنالك مزرعة لغرسه وإنماءه... إنه كالنبات البري... ينمو ويشتد في النسيان والإهمال... وعندما يولد ليس ثمة من يحتفل به خصوصاً إذا ما كان يحمل ملامح غريبة عن القطيع.(وأعلم أن النبي منفي في وطنه / الإنجيل).

¨ (يروي رسول حمزاتوف في كتابه "داغستان بلدي" حكاية طريفة حول ولادة الشاعر لطالما ذكرتني بالمخرج المسرحي... تقول الحكاية:

   تولد البنت في الوسط الفلاحي فتقابل بالاحتقار والازدراء والاستخفاف... تعامل بلا مبالاة قاسية... غير أن البنت تردد في سرها "... انتظروني وحسب... ما هي إلا أيام ويشتد عودي... انتظروني حيث ينفر نهدي... وتتدلى جديلتي لتلامس ردفي العاصي... انتظروني حيث ألهب قلوبكم وأسلب لبكم وأنا أتمايل بينكم بلا مبالاة... انتظروني أصد توددكم لي... حينها فقط تدفعون ثمن ازدرائكم لي... وستندمون على إهمالي).

q نداء إلى المؤلف المسرحي:

سيدي... نحن نعلم العناء الذي تتكبده وأنت تجلس وراء مكتبك البيتي حيث الهواء بالغ العفة، أو جلوسك خلف زجاج المقاهي تنعم بخدمة الخمس نجوم كأمير يحلم بصنع معجزة... سيدي نعلم مدى الصبر الذي تبذله وأنت تنتظر اصطياد فكرة أو مشهد... حكاية أو شخصية... والعناء الذي تتكلفه في تعليب كل ذلك وبشكل أنيق على سطور أوراقك الشرسة إلى مسرحنا... يؤسفنا أن نخبرك أن مسرحنا لم يعد بحاجة إلى هذا النوع من الكتابات المعلبة " كالسلمون" فنحن الآن بأمس الحاجة إلى الصيد الطازج... الفعل الساخن... وذلك لن يتحقق إلا بالخروج على هذا الإطار الذي وضعت نفسك فيه، أنت تعلم أن الانطباعية بدأت بالخروج المصورين من القاعات المعتمة والأضواء الصناعية إلى الهواء الطلق... وطبيعة المسح الحقيقية هي الورثة المسرحية... تعالى بأفكارك ومهاراتك لتشاركنا هواء القاعات الرطب... ورائحة العرق الجسدي... نعم فالمسرح بدأ بكتابة نصوصه على الخشب... إنه عصر جديد عليك أن تدركه.

 

 

 

q المتفرج= شريك ومنتج فعال في العلمية الإبداعية:

المتفرج، لن يتهمه أحد بشيء... إنه شريك جاهز ومستعد دائماً للاشتباك معنا في العملية الإبداعية، وهو القادر الوحيد على منع موت العرض المسرحي بإحالته إلى أفكار ومعارف تؤثر وتغذي واقعه المادي والمعنوي... إضافة إلى أثر العمل الفني على ذائقته الجمالية ومزاجه النفسي وقدرته على فتح بصيرته على فضاء آخر غير مدرك من قبل، غير أن هذا الشريك الحميمي للعمل الفني لا يشترط علينا شيء باستثناء " الإبداع والجدية" في عقد صفقة التلقي وإعادة الإنتاج هذه.

يحلو للبعض أن يردد...(أنا أتقاطع مع المتفرج! أريد مشاكسته! صدمه!  صفعه!) ولكن هل يملك المخرج مشكلة عدائية ضد شريكه "المتلقي" سلفاً؟ أليست هذه الثرثرة تعبيراً عن نوع من العصابية تخفي وراءها شعارات زائفة كالتجريب والمغايرة والخلخلة؟

¨ المسرح حوار يشترط الجدية والإبداع، وهما الكفيلان لوحدهما بخلق نوع من الاهتمام المشترك بين المتلقي والعرض من جهة، وبين العرض والمتلقي والحياة من جهة أخرى.

 

q المخرج المسرحي ليس مدرس لمادة الكيمياء، حيث يفرض عليه مزاجه أحياناً عدم توضيح الدرس لطلابه/ كما أن المسرح ليس مدرسة ابتدائية إلى حد الاستخفاف بذهن المتلقي.

المخرج ليس جلاداً (إن وجود مخرج /متثاقف/ في المسرح، يتشابه وإلى حد بعيد وجود جلاد في مشفى /غوردن غريك).

¨ المخرج ليس رجل استعراضات أو جامع للفنون في الفضاء المسرحي... إنه رجل يحيل المعرفة إلى صور مدهشة/ قابلة للإدراك والإحالة، وبهذا المعنى فالمتلقي ليس تلميذاً ولا أجيراً لدى المخرج... ليس عدواً      و لا صديقاً حميماً للعرض المسرحي، الجدية وألق الإبداع وحدها تدعوه للخوض في هذا الحلم الموازي لواقعه المادي.

 

 qوأخيراً... مهووس هائم...

آتوهم الأرض مسرحاً فأسجد

لأنني آخر المؤمنين بمعجزاته.

1996


عودة للرئيسية عودة للغلاف